يونس مجاهد: مجالس الصحافة وضعت للجمهور وليست تنظيمات بين-مهنية    رغم القطيعة الدبلوماسية.. وفد برلماني مغربي يحل بالجزائر    البواري يتفقد مدى تقدم مشاريع كبرى للتنمية الفلاحية والبحرية بجهة الداخلة    الجامعة الملكية المغربية تكرم المنتخب الوطني النسوي المتوج بكأس الأمم الإفريقية للفوتسال    السغروشني وحموشي يوقعان اتفاقية إطار بشأن الشراكة والتعاون من أجل تطوير الحكومة الإلكترونية وتعميم استخدام ميزات الهوية الرقمية (صور)    لبنان يحذر حماس من استخدام أراضيه للقيام بأي أعمال تمس بالأمن القومي    بدعم تقني صيني وتمويل إماراتي أوربي ومن الأوبك: أنبوب الغاز المغربي النيجيري ينطلق من الداخلة    في الجلسة الافتتاحية للمنتدى الدولي الثالث للبرلمانيين الشباب الاشتراكيين والديمقراطيين .. الكاتب الأول إدريس لشكر: الجيل الجديد من البرلمانيين الشباب مطالب بحمل مشعل الحرية والكرامة والتضامن في عالم مضطرب    توقعات أحوال الطقس في العديد من مناطق المملكة اليوم الجمعة    مراكش.. إيقاف شخصين وحجز كمية كبيرة من الأقراص المخدرة من نوع "ريفوتريل"    الفنان محمد الشوبي في ذمة الله    الصحة العالمية تحذر من تراجع التمويل الصحي عالميا    وقفات الجمعة ال74.. المغاربة يجددون مطالبهم برفع الحصار وإنهاء "الإبادة" في غزة    "إغلاق أخضر" في بورصة البيضاء    بعد 25 سنة.. شركة "FRS" تُعلن رسمياً توقف نشاطها البحري بين طنجة وطريفة    اللاعب المغربي إلياس أخوماش يشارك في جنازة جدته بتطوان    حقوقيون يسجلون إخفاق الحوار الاجتماعي وينبهون إلى تآكل الحريات النقابية وتنامي القمع    دراسة: هذه الأطعمة تزيد خطر الوفاة المبكرة    دراسة: مادة كيمياوية تُستخدم في صناعة البلاستيك قتلت 365 ألف شخص حول العالم    « بين التاريخ والرواية» كتاب جماعي يرصد مسارات أحمد التوفيق    في كلمة حول جبر الأضرار الناجمة عن مآسي العبودية والاتجار في البشر والاستعمار والاستغلال بإفريقيا: آمنة بوعياش تترافع حول «عدالة تعويضية» شاملة ومستدامة    «غزة على الصليب: أخطر حروب الصراع في فلسطين وعليها»    حادثة سير مميتة تنهي حياة سبعيني بالفقيه بن صالح والسائق يفرّ هاربا    العرائش تسجل أعلى نسبة تملك.. وطنجة تتصدر الكراء بجهة الشمال    "موازين" يعلن جديد الدورة العشرين    كلية الآداب بالجديدة وطلبتها يكرمون الدكتورة لطيفة الأزرق    عبد الله زريقة.. علامة مضيئة في الشعر المغربي تحتفي به "أنفاس" و"بيت الشعر"    مقاطعة مديري مؤسسات الريادة للعمليات المصيرية يربك مشروع الوزارة في الإصلاح التربوي    سفينة مساعدات لغزة تتعرض لهجوم بمسيرة في المياه الدولية قرب مالطا    سوريا: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي "تصعيد خطير"    نجاح "خامس مهمة نسائية" خارج المحطة الفضائية الدولية    كوريا: الرئيس المؤقت يقدم استقالته لدخول سباق الانتخابات الرئاسية    تفاؤل تجاري ينعش أسعار النفط في الأسواق العالمية    رسالة مفتوحة إلى السيد محمد ربيع الخليع رئيس المكتب الوطني للسكك الحديدية    "الكورفاتشي" تستعد للتنقل إلى مدينة الدار البيضاء لحضور "الكلاسيكو" أمام الوداد    العلاقات التجارية بين المغرب ومصر.. وفد اقتصادي مغربي يزور القاهرة    الذهب يتعافى بعد بلوغ أدنى مستوى في أسبوعين    تفاصيل إحداث قطب تكنولوجي جديد بالدار البيضاء يوفر أزيد من 20 ألف منصب شغل    وفاة الممثل المغربي محمد الشوبي    خُوسّيه سَارَامَاغُو.. من عاملٍ فى مصنعٍ للأقفال إلى جائزة نوبل    لجنة الأخلاقيات توقف العديد من المسؤولين عن كرة القدم بين سنة وثلاث سنوات بسبب اختلالات في التسيير    كأس أمم إفريقيا لأقل من 20 سنة: المغرب يستهل مشواره بفوز مثير على كينيا    عيد العمال.. الكونفدرالية ببني ملال "تحتج" في مسيرة حاشدة    كرة القدم.. توتنهام يضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي    اللاعب المغربي الذي أبهر العالم بأدائه المجنون … !    الصين تدرس دعوات أمريكية لاستئناف الحوار بشأن الرسوم الجمركية    حين يتحول الانفعال إلى مشروع سياسي: في تفكيك خطاب بنكيران حول "القضية" و"الحمار"    احتراق شاحنة على الطريق السيار طنجة المتوسط    منتجو الفواكه الحمراء يخلقون أزمة في اليد العاملة لفلاحي إقليم العرائش    الزلزولي يساهم في فوز بيتيس    هل بدأت أمريكا تحفر "قبرها العلمي"؟.. مختبرات مغلقة وأبحاث مجمدة    القهوة تساعد كبار السن في الحفاظ على قوة عضلاتهم (دراسة)    حقن العين بجزيئات الذهب النانوية قد ينقذ الملايين من فقدان البصر    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا اختلفنا مع الفقيد الجابري في السياسة؟
نشر في بيان اليوم يوم 21 - 05 - 2010

لم يستطع تجاوز حتى ابن رشد، ولا يرقى حتى إلى ديكارت
وأنا أحاول أن أكتب عن فقيدنا محمد عابد الجابري، وجدت نفسي مترددا في كيف لي أن أقارب ذلك البناء الفكري الكبير الذي تركه لنا، وأنا لست بالمختص في ذلك. غير أن تعليق قرأته لأحدهم يجعل من الجابري ابن رشد العصر الحديث، جعلني أتساءل:
هل هذا كل ما نتمناه لمفكرنا الكبير، أن يكون حاله كحال ابن رشد؟ ليس لأني أحط من قيمة هذا الأخير ولا أضع تفاضلا بين هذا وذاك، ولكن فقط هل نريد للجابري أن ينتهي كما انتهى ابن رشد؟ أننسى ما انتهى إليه هذا الأخير، وكيف مات مجهولا ومنبوذا في مجتمعه، كما يحكي عن ذلك مثلا ابن عربي، وهو الحاضر يوم وصول الحمل المتواضع الذي أقل رفات ابن رشد بجانب كتبه من مراكش إلى قرطبة؟
ما جدوى أن تكون مفكرا كبيرا، إذا كان فكرك يبقى محصورا بين دفات الكتب ولا يتجاوز صداه مجموعة من المثقفين المنعزلين عن مجتمعهم؟ في ماذا تصلح فكرة مهما كان نبلها، إن لم تتحول إلى قوة مادية تفعل في مصائر الناس وحيواتهم؟ وما الذي استفاده العرب والمسلمون من ابن رشد، وهم الذين تناسوه وتجاهلوه، إلى أن جاء مستعرب فرنسي من القرن التاسع عشر هو رينان، لينفض الغبار عنه ويفتح المجال لأول مرة لقومه لأن يكتشفوه؟
غير أنه لحسن الحظ، أن هناك فرق كبير بين الأول والثاني، فإذ كان ابن رشد مثقف السلاطين ويعيش في بلاطاتهم، وهو الذي أوصى أن تحجب حقائق الفلسفة عن عامة الشعب ومخاطبتهم بقدر عقولهم، كان مصيره أن بمجرد ما أن انتهت حاجة السلطان إلى خدماته رمى به إلى الهامش ومن تم تناسته العامة والخاصة.
على عكس من ذلك، فإن الجابري إنما انبثق من رحم القوات الشعبية، وجاءت اجتهاداته الفكرية بالأساس كجواب عن الإشكاليات التي طرحتها نضالات هذه الأخيرة.
حضور الجابري في السياسة كان وازنا، وهو الذي قدم على الأقل أطروحتين أساسيتين لا زالتا تؤطران جزءا مهما من النخبة اليسارية العربية والمغربية: أطروحة الخصوصية المغربية ذات النفحة العربية والإسلامية كما روج لها من خلال التقرير الإيديولوجي، وأطروحة الكتلة التاريخية التي دعا عبرها إلى التحالف مع الإسلاميين في مرحلة الثمانينات.
من هنا اخترنا مدخلنا إذن للمساهمة في مناقشة فكر الجابري، خاصة وأن هاتين الأطروحتين ترتبطان "بباراديغم" أو "ابستيم" واحد، هو الإنطلاق من التراث لبناء المستقبل، أي على النقيض تماما من الباراديغم الذي أطر أطروحة الحداثة التي دافع عنها يساريون آخرون وعلى رأسهم عبد الله العروي، والداعية إلى القطيعة مع التراث.
كثيرا ما ترددت على هذا المستوى، مؤاخذات على الحداثيين، أنهم فئة نخبوية ومتغربة في بلادها، وأنه بالنظر إلى الثقافة الدينية المهيمنة على عامة الشعب، ليس هناك أفضل من طريقة للوصول إليهم غير طريق التراث، أي بالضبط بحسب ما توصي به هذه المدرسة الفكرية التي يمثلها الجابري. فما سعى إليه هذا الأخير ومعه العديد من التنويريين في العالم العربي والإسلامي، هو العمل على تحرير تلك الثقافة الدينية السائدة من سطوة النزعة السلفية المتزمتة، وتقديم نسخة منقحة ومتنورة من التراث الإسلامي. لكن ما يجب التنبيه إليه هنا هو إذا كان الحداثيون قد فشلوا بالفعل في كسر طوق العزلة الشعبية حولهم، فهل كان حظ المتنورين في هذا المجال أحسن منهم؟ وإلا كيف نفسر أن يبقى العديد من هؤلاء من دون أي تأثير في شعوبهم، بل وحتى يتعرضون أحيانا للمحاكمات والنفي من أوطانهم، كما حدث لحامد أبو زيد في مصر أو محمود طه في السودان أو منتظري في إيران ...ألخ؟ أليس الوضع يبقى هو نفسه بالنسبة لهذا الطرف أو ذاك؟
من أجل فهم مواقف الجابري في السياسة، لا بد من التذكير هنا ببعض المحطات أو الوقائع التاريخية التي ربما أثرت فيه أكثر من غيرها،
الواقعة الأولى هي ظاهرة الفقهاء التقدميين الذين طبعوا تاريخ الحركة الاتحادية، من بلعربي العلوي إلى عمر الساحلي والحبيب الفرقاني وغيرهم. فقد استطاع هؤلاء، وهم القادمون من عمق الثقافة الدينية الشعبية، أن يوفقوا بين مرجعيتهم الدينية وبين القيم التقدمية التي حملت لواءها الحركة الأخيرة، ومن تم ساهموا بشكل واسع في إعطاء هذه الأخيرة شرعية شعبية لم تتوفر لأي من التنظيمات اليسارية المشابهة في العالم العربي. غير أن هذه القدرة على التوفيق بين المرجعيتين أصبحت أكثر صعوبة بعد السبعينات وذلك لسببين:
السبب الأول هو التحول السوسيولوجي الذي عرفه المغرب ومعه الاتحاد الاشتراكي ابتداء من ذلك التاريخ، والمتمثل في التأثير المتزايد للنخب الجديدة الشابة والمدينية ذات التكوين الغربي والعصري، على حساب النخب الأصلية ذات الأصول البدوية أو الثقافة التقليدية، وبالتالي بداية انحسار تأثير ما سمي بتيار الفقهاء داخل الحزب.
أما السبب الثاني فتمثل في اكتساح السلفية الدينية المشرقية لحقل التدين، هذه الأخيرة التي قامت على معاداة كل ما هو غربي وحداثي، وبالتالي وضع حد لأية إمكانية للتوفيق بين المرجعتين السابقتين, وهذا ما جعل فقهاءنا الاتحاديين في موقع جد حرج، ربما كان أحسن تعبير عنه هو ما وقع للحبيب الفرقاني مثلا لما انحاز للإسلاميين في معاداتهم لخطة إدماج المرأة ضدا على موقف حزبه ورفاقه القدامى. ونحن لا يمكن فهم اعتزال الجابري للعمل الحزبي في بداية الثمانينات بعيدا عن هذين العاملين، وعجزه عن مجاراة ذلك التباعد بين الطرفين وهو الذي بنى كل أطروحته على محاولة التوفيق بينهما.
الواقعة الثانية التي تكون قد أثرت في مواقف الجابري السياسية، هي الثورة الإيرانية. فلأول مرة يشهد بلد إسلامي ثورة شعبية بذلك العمق، لم تكن من تأطير يساريين كما كان يفترض في تلك الفترة، ولكن من رجال دين يحملون مرجعية محلية متجذرة وسط الشعب. وقد يكون ما شاهده الجابري آنذاك من حماس شعبي استقبل به الخميني سنة 1978، هو من بين ما أوحى إليه بفكرة الكتلة التاريخية سنة 1982، أي كيف يمكن تجميع كل القوى الشعبية المعارضة للنظام من يساريين وإسلاميين وليبراليين في كتلة واحدة مبنية على توافق بين مرجعياتهم المختلفة. ورغم ما لحق بتلك الثورة لاحقا، من تصفيات شاملة لكل المعارضين من يساريين أو ليبراليين، فإنه لم ييأس مع ذلك، وسرعان ما استرجع أمله، مع ظهور الحركة التصحيحية التي قادها خاتمي. وربما بقي الجابري يحلم إلى آخر حياته بنجاح إصلاح الثورة من داخلها، وعودة المصالحة من جديد بين مختلف المكونات الشعبية التي كانت في أصلها، وذلك حتى تتحقق صدقية أطروحته التوفيقية.
هذا الهوس بقيام الكتلة الجماهيرية الواسعة، هو أيضا ما جعله يتحمس في بداية التسعينات لمبادرة صدام حسين بغزو الكويت، وبالتالي تصويره لهذا الأخير وكأنه بسمارك العرب جاء لاستنهاض كل الجماهير العربية من الخليج إلى المحيط.
قبل الاسترسال في الحديث هنا، لا بد من توضيح أن انتقاد بعض من أفكار الجابري ليس للتنقيص من قيمتها، إذ لا حيوية لفكر أو نظرية ما إن لم تكن بحسب كارل بوبر، قابلة للنقد. غير أنه لا بد من الكشف عن بعض جوانب القصور الممكنة داخل هذه الأفكار، وخاصة ونحن نلاحظ أنه لا واحدة من توقعات الجابري في مجال السياسة قد تحققت لحد الآن. فالثورة الإيرانية لم تحقق مبتغاها، وتجربة صدام حسين جاءت بعكس ما تصوره الجابري، كما أن أطروحة الكتلة التاريخية لم تجد أبدا طريقها للتفعيل من داخل حزب القوات الشعبية ولا أي حزب آخر في المغرب.
وبالتالي لا بد من السؤال: أين يكمن الخلل؟ هل نجرؤ ونتهم الباراديغم النظري ككل الذي بنا عليه الجابري كل أطروحته؟ 2- لقد سبق للعديدين من المفكرين أن وجهوا انتقادات إلى أعمال الجابري، ونحن قد نجمل هنا ما يتعلق بالموقف السياسي منها في إشكاليتين رئيسيتين: اختزاله للواقع الاجتماعي والتاريخي للعرب في مفهوم "العقل العربي"، أو ما يطلق عليه أيضا، الثقافة العالمة، و"غربته" عن العصر بهروبه إلى الماضي والتراث.
بالنسبة للإشكالية الأولى، أن الجابري في محاولته الإجابة عن أسباب تعثر العرب، ذهب يبحث عن ذلك في التراث. لكن عوض أن يتعامل مع هذا الأخير في شموليته، اختار أن ينتقي منه فقط ما هو مدون ومكتوب، أو بالتدقيق أكثر، ما يرتبط بالمعرفة والعقل أو الثقافة العالمة. في مقابل ذلك ترك كل ما له علاقة، سواء بالتجارب الحياتية والاجتماعية للعرب في تلك المراحل التاريخية، أو ما يتعلق بالثقافة الشعبية التي كانت شفاهية في غالبيتها ولم يصل لنا منها إلا النذر القليل. أي أن ما اعتمده كمصدر يحكم من خلاله على كل تاريخ العرب، هو فقط ذلك الجزء البارز المدون في الكتب، من كتلة الجليد الكبيرة التي تمثلها مجمل ما أنتجه العرب وكذلك غير العرب من الشعوب المستوطنة في المنطقة، من تجارب حياتية وثقافة شعبية. وهو الجزء الأهم الذي بقي متخفيا وغائبا عن انشغالات الجابري.
قد لا يقبل تبرير أنه في غياب مصادر موثوق بها لم يكن للجابري أن يتكلم في شأن هذا الجزء الأخير، فهناك باحثون آخرون حاولوا تجاوز تلك العقبة عبر تطبيق مناهج حديثة، لفهم ما قد يكون عليه الوضع الاجتماعي للعرب في تلك المراحل السابقة، ومحاولات مثل ما قام به حسين مروة أو طيب تيزيني في هذا المجال، باستعمال أدوات التحليل الماركسي، رغم ما قد يكون هناك من مؤاخذات عليها، لا يمكن تجاهلها. كما أن هناك باحثون آخرون اختاروا أن يستنطقوا، بمساعدة أدوات التأويل والمناهج اللغوية الحديثة، ما يكون قد خبأته بعض النصوص من الثقافة الشعبية التي وصلت إلينا، عن المخيال الشعبي للعرب في تلك الفترة، كنصوص ألف ليلة وليلة وسير أبي زيد الهلالي أو سيف بن ذي يزن أو عنترة بن شداد ..ألخ.
إن المشكل عند الجابري لم يكن في غياب المصادر، أكثر ما هو في تبنيه "لنزعة عقلانية" توفيقية، تعتبر "العقل العربي" الوحيد الذي كان مسؤولا عن صوغ تاريخ المنطقة، والذي يستحق لوحده الاهتمام والمتابعة، في مقابل تهميش واستصغار دور كل ما يعتبر لاعقلانيا، أي من قبيل الأساطير والخرافات وباقي ما ينتجه المخيال الشعبي.
هذه النزعة العقلانية هي التي تظهر في مشروعه الكبير حين يقسم العقل العربي إلى عقل عرفاني وعقل بياني وعقل برهاني، جاعلا من هذا الأخير قمة ما يمكن أن يصله التطور الحضاري لأي شعب. وفي هذا الإطار لا غرابة أن يضع الجابري ابن رشد على قمة هرم الإبداع الفكري عند العرب، مقدما إياه على مبدعين آخرين كبار كابن عربي أو السهروردي الذين يصنفون في خانة اللاعقلانيين.
قامت "النزعة العقلانية" القديمة عموما على جعل البرهان وأداته الأساسية: المنطق، الطريق الوحيد الممكن للوصول إلى الحقيقة، وبالتالي تحقيق السعادة البشرية. لكن مشكلة هذه النزعة أنها غالبا ما اصطدمت بحقائق من التاريخ، قد لا تخضع لأي تصنيف منطقي ولا ما قد يكون توقعه العقل من مسار للأحداث وللتطور.
فأرسطو وهو المؤسس الأول لهذه النزعة، قد عمل على حصر كل الحقيقة في عدد من المقولات العقلية الأساسية، بحيث أصبح يكفي لمن جاء بعده، لكشف أية حقيقة جديدة أن يستخلصها فقط من هذه المقولات أعلاه، باستعمال منهج الاستنباط. غير أن أرسطو إذا كان قد أعلى في زمانه من شأن العقل، فإن الأحداث التاريخية التي جاءت من بعده، سرعان ما كشفت عن عجز مثل هذه المقولات على الفعل في التاريخ. فلم تمر أكثر من ثلاث قرون، حتى ظهرت في المنطقة نزعة مناقضة تماما لما دافع عنه أرسطو، هي النزعة اللاهوتية واللاعقلانية التي حمل لواءها الآباء المسيحيون المؤسسون.
هاته الأخيرة بعد أن فرضت على الفلسفة الإغريقية أن تتنازل عن ما تبقى من عقلانيتها، وتبني مقابل ذلك نزعة العرفان والغنوص، في شخص أفلوطين وأتباعه من القرن الثالث والرابع ميلادي، لم تتوقف عند ذلك، بل قامت بطمس آخر ما تبقى من معالم الفلسفة العقلية في المنطقة، وبالتالي التربع على عرش التاريخ لما يزيد عن أربعة عشر قرنا.
طوال هذه الرحلة الطويلة في صحراء اللاهوت، حاول العقل مرارا أن يسترجع مكانته في سماء المعرفة، بدأ ذلك أولا مع محاولة الكنيسة النسطورية في المشرق من داخل المسيحية نفسها، ثم ظهر مجددا مع تجربة المعتزلة من داخل اللاهوت الإسلامي، ومن بعدهم مع الكندي والفلاسفة المسلمين في محاولتهم لاسترجاع تراث الإغريق وعلى رأسهم أرسطو.
غير أن ما وصل إليه العقل خلال كل تلك المرحلة في صراعه مع اللاهوت المسيحي أو الإسلامي، هو ما توصل إليه ابن رشد في القرن الثاني عشر، بوضعه لهما في مرتبة واحدة واعتبارهما متعادلين في الأهمية، وأن الفلسفة لا تناقض بالضرورة الشريعة، بل كلاهما طريقان وإن اختلفا في الوسائل يوصلان إلى نفس الحقيقة.
فقد استرجع هذا الأخير تراث أرسطو، وعمل على شرحه وتوطينه في البيئة الإسلامية، بما يجعله غير متناقض مع المرجعية القرآنية.
وإذا كان ابن رشد قد تصدى بقوة لكل ما له علاقة بالعرفان أو ما كانت تجسده آنذاك أطروحات الشيعة والصوفية، ورفع من قيمة البرهان جاعلا من فلسفة أرسطو قمة ما يمكن أن يتوصل إليه العقل البشري في مجال البحث عن الحقيقة، فإنه بقي عاجزا في المقابل على تجاوز سطوة البيان، المتمثل في القرآن والسنة واجتهادات الفقهاء. ولم يكن في إمكانه أكثر من اقتراح صيغة توفيقية بين الطرفين: أي بين البرهان المتمثل في فلسفة أرسطو والبيان المتمثل في القرآن والسنة.
فهل نعتبر بالنسبة لموضوعنا، أن الجابري وهو الذي جعل من ابن رشد نموذجه الأعلى، قد توقف عند تلك النقطة التي وصل إليها هذا الأخير؟ أو أن ما حاول القيام به في مشروعه الفكري، هو أن يبدأ بالضبط من حيث انتهى الأول؟ أن يجعل بعد مرور ثمانية قرون، من توفيقية ابن رشد، منطلقا لتأسيس توفيقية جديدة تكون ملائمة للقرن العشرين، تحترم اللاهوت الإسلامي القائم، لكن مع محاولة إدخال مسحة من العقل عليه؟ أليس هذا هو بالضبط ما تجلى أكثر وضوحا في اجتهاداته الأخيرة بشأن تأويل القرآن؟
ولنا أن نتساءل نحن، هل من الضروري أن نعود كل هذه المدة إلى الوراء، ونقفز على الثمانية قرون التي تفصل بين الفيلسوفين، متجاهلين كل ما حصل من تقدم في الفلسفة والفكر، لنبدأ من حيث انتهى ابن رشد؟ وقبل ذلك إذا كان من الممكن أن تنجح توفيقية الجابري في آواخر القرن العشرين فلماذا فشلت توفيقية ابن رشد في القرن الثاني عشر؟
للجواب على ذلك، يجدر بنا أن نتتبع مسار تطور الأطروحة الرشدية، ليس في العالم الإسلامي، فهي قد كانت أجهضت فيه منذ بدايتها ولم تترك أي أثر يذكر في تاريخه، ولكن في العالم المسيحي حين ستنتقل إليه ابتداءا من القرن الثالث عشر فيما سيعرف بالرشدية اللاتينية.
يعود الفضل بدون مراء، للعرب في الأندلس، وعلى رأسهم ابن رشد وابن ميمون في إطلاع الأوروبيين على فلسفة أرسطو. فالمسيحية الكاثوليكية وبعد أن كان أوغسطين من القرن الخامس، قد أحكم إغلاق متنها داخل قوالب ذهنية هي أقرب إلى مثالية وعرفان الأفلاطونية الجديدة، حجبت كل ما قد يمت بصلة إلى عقلانية أرسطو.
وقد بقي الأمر كذلك إلى أن جاء تلامذة ابن رشد في جامعة باريس مثل سيجر البرابنتي، أو من يعرفون بالرشديين اللاتينيين، ليخرجوا مارد العقل من قمقمه، ويطرحوا تحديا كبيرا أمام الكنيسة. فهم على سيرا على نهج أستاذهم، ثاروا في وجه هذه الأخيرة لكسر احتكارها امتلاك الحقيقة، والتأكيد على وجود طريق آخر للوصول إلى هذه الأخيرة هو طريق الفلسفة، وبالضبط الفلسفة الأرسطية كما أولها وشرحها ابن رشد. وبالرغم من سعي توما الإكويني للحد من تأثير الرشدية على اللاهوت المسيحي، عبر الإنقلاب على التراث الأوغسطيني ومحاولة دمج البرهان الأرسطي داخل منظومة اللاهوت المسيحي من موقع التابع والخادم لللاهوت وليس موقع الند والمنافس له كما أراد ذلك ابن رشد، فإن ذلك لم يمنع من تفجير نقاش كبير حول إشكالية وجود حقيقتين: البرهان والإيمان، أو الفلسفة والشريعة، وعن مدى مصداقية أو أسبقية كل واحدة منهما. وهو نقاش ما لم ينته إلا بانقسام الكنيسة الكاثوليكية وخروج البروتستانت عنها.
غير أنه من مفارقات التاريخ، أنه إذا كان لإقحام فلسفة أرسطو في النقاش الفكري بين الأوروبيين في تلك الفترة، قد ساهم في إحداث شرخ داخل اللاهوت المسيحي، فإن هذه الأخيرة قد بقيت متهمة لقرون طويلة، ومعها أفكار تلميذه ابن رشد، بأنها كانت حجر عثرة أما تقدم العلم. والسبب في ذلك الإشكالية الخطيرة التي فجرها كوبرنيك باكتشافه لحقيقة كروية الأرض ودورانها حول الشمس، على عكس ما كان رائجا لحدود ذلك التاريخ، ثم ما تبع ذلك من مواجهة مفتوحة بين جاليليو والكنيسة بهذا الشأن انتهت بمحاكمة هذا الأخير وإدانته. وقد كان أرسطو هو المتهم الأول في هذه الفضيحة، باعتباره أنه كان أول من رسخ فكرة مركزية الأرض على حساب أفكار أخرى كانت رائجة في عهده ومنها ما كان ينادي به بعض أتباع فيثاغور عن كروية الأرض. وبناءا على هذه "الحقيقة" المزعومة لأرسطو جاء بطليموس ليصيغ ذلك في نظريته الفلكية الشهيرة، التي ستتحول إلى باراديغم راسخ يؤطر كل الفلسفة أو الفكر القديم المسيحي منه أو الإسلامي. وبما أن الكنيسة كانت قد جعلت بتاثير من توما الإكويني، من مقولات أرسطو مرجعيتها الثانية بعد الكتاب المقدس، فإنها لم تكن لتقبل من كوبرنيك ولا من غيره أن يقول غير ذلك.
هذا يظهر كيف أن العقلانية الأرسطية، وإن أنها نجحت بفضل ابن رشد، في إحداث إحراج للاهوت المسيحي المهيمن، فإنها مرة أخرى أخطأت موعدها مع التاريخ، وكثر منتقديها في تلك الفترة، مما جعل الكثيرين يذهبون للبحث عن أجوبة للإشكاليات المطروحة ويمهدون بطرق مختلفة للنهضة الأوروبية، عبر اتجاهات أخرى كانت على النقيض مع الأرسطية.
- الإجابة الأولى ستأتي من التجريبيين أو ممارسي الخيمياء، وهذه الأخيرة كما هو معروف، إنما كانت في أصلها من إبداع الغنوصيين والعرفانيين المناهضين للعقلانية، من الذين بقوا يبحثون عن أكسير الحياة أو عن حجر الفلاسفة وتحويل المعادن إلى ذهب. ومن أشهر هؤلاء روجر بيكون من القرن الثالث عشر، الذي عوض أن يبقى سجين المقولات المنطقية لأرسطو، اتجه نحو التجريب فيقوده ذلك إلى وضع أسس منهج آخر سيكون له شأنه في تقدم العلم هو المنهج التجريبي القائم على الاستقراء.
- الإجابة الثانية جاءت من الفن والنزعة الإنسية. ومن أول من أطلق ذلك شعراء إيطاليا مثل بلوتارك ودانتي، من الذين اختاروا التغني بالحياة والتجارب اليومية للناس بعيدا عن المقولات العقلية الصارمة لأرسطو أو ابن رشد. وبفضل رعاية بعض أمراء إيطاليا في تلك الفترة، مثل آل ميديسيس، ستنتقل تلك النزعة إلى الرسم والنحت ليظهر عباقرة كبار في هذا الميدان من أمثال ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو. ومن المعروف أن هؤلاء الفنانين لم يكن ليجدوا أحسن ما يتغنوا به أو يرسموه من مثل أفلاطون، ومن تم تجد الأفلاطونية طريقها للعودة بقوة، بعد أن حاول توما الإكويني أو الرشديون اللاتينيون إقصاءها.
- الإجابة الثالثة ستأتي من السياسة و من الواقع الاجتماعي والتاريخي في ذلك العصر. فقد كانت الإشكالية الكبيرة المطروحة آنذاك أمام الأوروبيين في هذا المجال، هو الاختيار بين السلطة الدينية والسلطة الدنيوية، أو بين البابا والإمبراطور، وقد انقسموا بسبب ذلك خاصة في إيطاليا إلى حزبين متعارضين. وهنا سيكون للرشديين اللاتينين دورمركزي في حسم ذلك، حين سيعمد واحد من أشهرهم: مارسيل من جامعة بادوا، مستلهما نظرية ابن رشد حول الحقيقتين، ليطور نظريته حول السلطتين، واحدة دينية ينحصر مجالها في الشؤون الروحية وأخرى دنيوية لتدبير الشأن العام.
وبتحرير السلطة نظريا من قبضة الكنيسة، ستنطلق الاجتهادات لاحقا، للبحث في تطوير السلطة الدنيوية، من سلطة الإمبراطور إلى سلطة الأمير، ومن هذه الأخيرة إلى سلطة المستبد العادل، ومن تم إلى سلطة الشعب وإلى الديمقراطية.
ما يهمنا في هذه المعطيات التاريخية أن نوضح أن ليس للبرهان العقلي كما عند أرسطو أو ابن رشد، الكلمة الأخيرة دائما في توجيه التاريخ، خاصة لما يتحول إلى دوغما يعيق التقدم. ولذلك ألا تطرح دعوة الجابري إلى استلهام النموذج الرشدي كأرضية لإعادة تأسيس نهضتنا الحديثة، خطرا بأن نعيد سجن أنفسنا من جديد في قالب أو مقولة جامدة هي ما يسميه "بالعقل العربي" القائم على توفيقية بين العقل الأرسطي القديم واللاهوت الإسلامي؟ وكيف يمكن لتوفيقية فشلت منذ القرن الثاني عشر أن تنجح حاليا؟
هذا مع العلم أن مفهوم العقل نفسه قد تطور كثيرا في أوروبا بعد الصدمة الكوبرنيكية. انطلق ذلك مع ديكارت الذي سعى إلى ترميم المفهوم بربطه بمرجعية جديدة هي ما يعرف بالكوجيتو، المعتمد على ثنائية الروح والجسد. غير أن هذه الصيغة نفسها أو ما عرف بالعقلانية الديكارتية، قد تعرضت نفسها لأزمة عميقة مع بداية القرن العشرين، ليوضع العقل نفسه مرة أخرى موضع التشكيك. وإذ تنطلق حملات نقد مكثفة ضده بدءا من نيتشه وهايدجر وصولا إلى فلاسفة الاختلاف والتفكيكيين المعاصرين أو ما ينعت بما بعد الحداثيين، ستعود نزعات لاعقلانية قديمة للظهور من جديد، وعلى رأسها الأصولية الدينية.
لكن هذا لا يعني أن العقلانية أو دور العقل قد انتهى، ولكن فقط ربما يتطلب إعادة صياغة جديدة له تأخذ بعين الاعتبار كل المعطيات العلمية الجديدة، وبالخصوص إدماج النقد كمكون رئيسي للعقلانية الجديدة، كما سعت إلى ذلك مثلا مدرسة فرانكفورت ومساهمات هابرماس في هذا المجال.
وهذا يعني أنه إذ كان لابد لنا من التشبع بالعقل وبالعقلانية فليس بالصيغة التي يقدمها لنا الجابري، فهو لم يستطع تجاوز حتى ابن رشد، ولا يرقى حتى إلى ديكارت ، ولكن نحن بحاجة لعقلانية تدمج آخر ما توصلت إليه الاجتهادات البشرية. وهذا ما يحيلنا على المؤاخذة الثانية التي لنا على مواقف الجابري السياسية وهي تجاهله لمبدأ الكونية ودفاعه عن الخصوصية العربية والإسلامية، وهو ما قد يكون موضوع لمقال آخر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.