بقلم: وردية السكاكي (.) بين الحنين والانفصال.. فجوة الفهم بين مغاربة الداخل ومغاربة العالم: في ضوء مفهوم "الغياب المزدوج" لعبد المالك صياد لم يكن وعيي بالسوسيولوجيا وليد الدراسة الجامعية فقط، بل كانت بوادره كامنة في نظرات الطفولة وتأملات المراهقة. كنت أراقب تصرفات الناس من حولي، أندهش من سلوكاتهم، من نظراتهم، من طريقة حديثهم وتعاملهم مع بعضهم البعض، لكنني لم أكن أمتلك آنذاك أدوات الفهم والتحليل التي تمنحني القدرة على تفكيك هذه التصرفات وربطها بسياقاتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. اليوم، وقد أصبحت باحثة، صارت تلك النظرة الأولية تتحول إلى عين سوسيولوجية ثاقبة، تتجاوز الظاهر لتسائل الباطن؛ تراقب كيف يُعبّر الناس عن ذواتهم، كيف ينظرون إلى الأشياء، وكيف يتفاعلون مع الآخرين داخل أنساق من التمثلات والمواقف والتجارب المتراكمة. خلال حديث عابر مع سيدة بسيطة تشتغل في نقش الحناء، أخبرتني – وفي قلبها شيء من الأسى – أن إحدى السيدات من مغاربة العالم سألتها عن ثمن النقش، فأجابتها: "خمسون درهما لليد"، فما كان من الزبونة إلا أن استدارت نحو زوجها قائلة: "يا لطيف، كم هم جائعون!"، في تعليق محمل بالتهكم والاستنقاص، فقط لأن السعر لم يعجبها. قد يبدو الموقف عابرا، لكنه يُجسد بشكل صادم فجوة متنامية بين فئتين تنتميان لنفس الأرض، لكنهما لا تعيشان نفس التجربة ولا تنظران إلى الواقع بعين واحدة. إنها فجوة في الفهم والتقدير، تزداد اتساعا في فضاءات السوق والمعاملات اليومية، حيث تلتقي توقعات متناقضة وأحكام مُسبقة، لا تخلو من الريبة والتوتر. خلال كل موسم صيف، يتجدد اللقاء بين مغاربة المهجر وبلدهم الأم، غير أن هذا اللقاء لا يخلو من توترات خفية، خصوصا في المعاملات التجارية اليومية. فبين من يُتّهم بالتحايل ورفع الأسعار، ومن يُتّهم بالبخل والمساومة المُفرطة، تتعمق مشاعر متبادلة من الحذر والانزعاج. حين يعود مغاربة العالم، يطوقهم هاجس التعرض للغش أو لاستغلال يُفترض أنه موجه ضدهم بصفتهم "عملة صعبة". هذا الشعور يدفعهم إلى التعامل أحيانا بتحفظ شديد، وبميل إلى الشك المسبق، بل إلى استباق الغش قبل أن يقع، في المقابل، بعض الباعة ومقدمي الخدمات يرون في هؤلاء الزبناء فرصة استثنائية، فيبالغون في الأسعار، أو يطلبون منهم "الإنعام عليهم" ببعض الدراهم، وكأنهم مطالبون بإثبات سخائهم كمقياس لحبهم لوطنهم. ولفهم عمق هذا التوتر، نستحضر مفهوم "الغياب المزدوج" والانتماء المعلق بين هنا وهناك (double absence) الذي بلوره عالم الاجتماع عبد المالك صياد، حين وصف المهاجر بأنه يعيش لا انتماءين في آن: فهو غائب في وطنه الأصلي بسبب الهجرة، وغائب في بلد الإقامة بسبب التهميش أو ضعف الاندماج. وهكذا، لا يشعر بأنه "ينتمي بالكامل" لأي من الضفتين. عندما يعود المهاجر إلى وطنه، لا يعامل كمواطن، بل ك"ضيف"، أو "أجنبي بلكنة محلية". بل قد يتهم بالتعالي أو الانفصال عن الواقع، لأنه لا يعرف الأسعار، أو لأنه يتحدث بلهجة ممزوجة. خلال أحد اللقاءات البحثية التي أجريتها بفرنسا، صرح لي أحد المهاجرين، وهو رجل متقاعد، بكلمات عميقة استوقفتني طويلا. سألته عن شعوره بالانتماء إلى المجتمع الفرنسي، فأجاب بحسرة: "أشعر بالغربة هنا، لكنني لا أشعر بالانتماء هناك أيضا… تابع الحديث وفي عينيه دمعة منفلتة: حتى في بلدي الأصلي، لا أستطيع الحصول على وثيقة مشروعة إلا بالدفع. حاولت فتح مشروع صغير، فواجهت عراقيل إدارية لا تنتهي… لم يُشجعني أحد، ولم يُرافقني أحد. أشعر أنني اليوم مرتبط بفرنسا أكثر من وطني… لم أعد أنا كما كنت، بل أصبحت فقط 'عملة صعبة'، أو 'حافظة نقود' بالنسبة للجميع: العائلة، الجيران، وحتى الإدارات..". هذا التصريح المكثف، الذي اختلط فيه الإحساس بالخذلان بالحسرة، يختزل بعمق ما يحياه كثير من مغاربة العالم من اغتراب وجودي وهوياتي، لا في بلدان الإقامة فحسب، بل حتى في وطنهم الأم، حيث يستقبلون أحيانا كغرباء، لا كمواطنين كاملي الانتماء والحق. إن هذه الوضعية المعقدة تفرض علينا كباحثين إعادة طرح أسئلة الانتماء والاندماج والنظرة المتبادلة، وفهم كيف تتشكل الفجوة في الفهم والتقدير بين مغاربة الداخل ومغاربة العالم، ليس فقط عبر الخطابات، بل عبر الممارسات اليومية والمعاملات الاقتصادية العادية، كما يظهر مثلا في الفضاءات التجارية، أو التفاعلات الاجتماعية، أو تجارب الاستثمار. من هنا تنشأ حالة من النزوح النفسي والاجتماعي، حيث يقول البعض بصراحة: "نحن نشعر بالاغتراب المزدوج. هذا الانقسام الداخلي ينعكس في الفضاءات التجارية بالخصوص، فالمهاجر لا يساوم عن بخل، بل عن رغبة في الحماية من "استغلال مُفترط" والبائع يرفع السعر ليس دائما بدافع الجشع، بل أحيانا تعبيرا عن شعور بالغبن أو الحرمان المزمن. لكن في الحالتين، يغيب التعاطف ويغيب الحوار، وتحضر الأحكام المسبقة. من يحدد المعاملة بين الصورة النمطية وواقع التجربة؟ ما يغيب في هذه العلاقة هو الإحساس بالإنصاف. فمغاربة المهجر يحملون أحيانا مسؤولية اقتصادية لا علاقة لهم بها، وينتظر منهم أن يعاملوا الآخرين بسخاء لا سقف له. وفي المقابل، يعامل بعضهم الباعة والمهنيين بكثير من الحذر، وأحيانا بنبرة فوقية، وكأنهم في سوق لا ثقة فيه. هذه العلاقة القائمة على الاستغلال من جهة، والدفاع المسبق من جهة أخرى، لا يمكن أن تُنتج إلا توترا خفيا يتحول أحيانا إلى عنف رمزي، أو حتى قطيعة معنوية. لفهم الفجوة القائمة بين مغاربة الداخل ومغاربة العالم، لا يكفي الاقتصار على التوصيف أو استدعاء الحكايات الفردية، بل لا بد من تفكيكها سوسيولوجيا في ضوء المفاهيم والنماذج النظرية التي تساعد على تفسير التوترات الرمزية والاجتماعية التي تطبع هذا النوع من العلاقات. • يشكل مفهوم "الغياب المزدوج" لعبد المالك صياد مدخلا مركزيا في فهم وضعية المهاجر، حيث لا يشعر هذا الأخير بانتماء فعلي لا إلى فضاء الإقامة ولا إلى الوطن الأم. يعيش المهاجر نوعا من الاغتراب الهوياتي المستمر، ويجد نفسه في منطقة رمادية بين هنا وهناك، بين "الاندماج غير المكتمل" و"الانتماء المتآكل". هذا الشعور باللااستقرار ينعكس على طريقة تعامله مع مؤسسات بلده، ومع مجتمعه الأصلي، ومع الفاعلين الاجتماعيين الذين يتعامل معهم عند العودة المؤقتة: • تساهم الصورة النمطية التي يحملها كل طرف عن الآخر في مفاقمة التوتر. فبعض مغاربة الداخل ينظرون إلى المهاجر ك"فرصة اقتصادية"، ينتظر منه الإنفاق دون اعتراض، والمساعدة دون قيد. في المقابل، يرى بعض مغاربة العالم أن الأسعار تضاعف لهم، وأن هناك "استغلالا ناعما" موجها ضدهم. هذه التمثلات المتبادلة، كما بين بورديو في نظريته عن رأس المال الرمزي، تنتج علاقة قائمة على الخلل، حيث لا يتعامل الطرفان كمواطنين متكافئين، بل ك"مستفيد" و"مطالِب". • تساعدنا نظرية الهوية الهجينة (هومي بابا) على فهم حالة التذبذب التي يعيشها المهاجر العائد إلى وطنه؛ فهو لا يتحدث كما يتحدث الآخرون، ولا يتعامل كما يتعاملون، وغالبا ما يحمل عبء "الاختلاف" كمؤشر على "عدم الانتماء". تصبح الهوية في هذه الحالة حقلا للتفاوض الدائم، وقد ينتج ذلك توترا داخليا لدى المهاجر، ينعكس في توجسه، أو رغبته في الانفصال الرمزي عن الواقع المحلي. • من منظور العنف الرمزي، تتخذ هذه الفجوة مظاهر ناعمة وغير صريحة، تبدأ بالعبارات، والنظرات، وتعليقات التهكم، وتنتهي أحيانا بممارسات تمييزية خفية، يكون ضحيتها إما مهاجر مغربي الذي ينظر إليه كمصدر مالي فقط، أو مغربي الداخل الذي يتهم بالاستغلال والطمع. إن العلاقة بين مغاربة الداخل ومغاربة العالم لا يمكن اختزالها في سوء تفاهم عابر، أو اختلاف في الطباع، بل هي نتيجة تراكمات تاريخية، وتجارب مهاجرة مركبة، وتمثلات متبادلة تطبعها الاختلالات. وإعادة التوازن إلى هذه العلاقة تمر عبر خطاب جديد، وممارسات مؤسسية تراعي الانصاف، وتعزز مواطنة شاملة لا ترتبط بمكان الإقامة أو حجم التحويلات المالية، بل تبنى على الاحترام المتبادل، والمساواة في المعاملة والاعتراف المتبادل بالكرامة الإنسانية. إذ لا بد من تأسيس رؤية جديدة، تنطلق أولا من الاعتراف بالواقع النفسي والاجتماعي لكل طرف، وعلى وجه الخصوص ما يعيشه المهاجر من إحساس باللاانتماء والتهميش الرمزي، سواء في بلد الإقامة أو عند العودة إلى الوطن. ويقتضي هذا التحول العمل على ترسيخ ثقافة المعاملة العادلة، بما يجنب المغالاة في الأسعار والافتراضات المسبقة بالنوايا السلبية، وتفكيك الصور النمطية التي تلقي بثقلها على العلاقة بين الجانبين: فليس كل مغربي مقيم في الداخل انتهازيا، وليس كل مهاجر متعاليا أو متخليا عن جذوره. كما يفرض الواقع الراهن فتح نقاش وطني ومجتمعي مسؤول، يتناول قضايا العودة، وصعوبات الاندماج العكسي، وإشكاليات المواطنة والحق في الاستثمار والانخراط داخل الوطن دون تمييز أو اشتراط.