الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة 1. الرئيسية 2. آراء المغرب: مسرح رمزي لممارسة التَمَغْرَبِيت في عصر التمازج الثقافي ناجح حسن الأثنين 5 ماي 2025 - 11:21 في ظلّ التشارك الفوري للمعلومات عبر الكوكب، أصبح لا يخفى على أحد حاليا أن التحوّلات الجذرية التي يشهدها العالم المعاصر تُنذر بميلاد نظام عالمي جديد قائم على قطبية ثنائية. وبالتوازي مع التسارع المستمر في تطوّر تقنيات المعلومات والاتصال الحديث (NTIC)، وما يصاحبه من اندماج متزايد للذكاء الاصطناعي، تبرز ظاهرة اجتماعية جديرة بالاهتمام تخص تقلّب الهويّات وتعدّد الانتماءات في العديد من المجتمعات وذلك رغم تنوّع ثقافاتها وامتلاكها لإرثٍ ورأسمال رمزيّ تاريخيّ، وإن كان متفاوتًا من حيث المضمون والعمق. و في هذا السياق الذي بات يطبع المجتمعات المعاصرة تحت تأثير العولمة الرقمية والهجرة الرمزية، تبرز الثقافة المحلية كفاعل جوهري يُعيد ترتيب معالم الانتماء ويؤطّر عمليات التفاوض الهويّاتي بين الفرد والمجتمع. إذ لم تعُد الهوية معطى جامدًا أو بنية مغلقة، بل أصبحت سيرورة ديناميكية، تُعاد صياغتها ضمن شبكة معقّدة من الرموز والمعاني التي يتفاعل فيها المحلي مع الكوني، والموروث مع المستجدّ. إذ تلعب الثقافة المحلية دورًا مركزيًا على مستويات متعددة: أولًا، بوصفها مرجعية رمزية، تُوفّر للفرد نقاط ارتكاز قيمية وعاطفية تمكّنه من مواجهة التفكّك الرمزي الذي تفرضه العولمة. فاللغة، والعادات، والممارسات اليومية، تُشكّل بنية دلالية تمنح الذات الفردية شعورًا بالاستمرارية والتجذّر، رغم التحوّلات المتسارعة. ثانيًا، كآلية مقاومة ناعمة، لا تتصدى التأثيرات الخارجية الرمزية بطريقة مباشرة، بل عبر عمليات ترجمة وتأويل تُعيد إدماج الرموز الكونية ضمن مصفوفة محلية. ثالثًا، كفضاء لتدبير التعدّد، تسمح الثقافة المحلية باحتواء الاختلافات العرقية، واللغوية، والاجتماعية، داخل سردية جماعية مرنة، ما يجعلها بديلاً عن مشاريع الهوية الإقصائية أو النماذج المركزية الصلبة. بالتالي فإن الثقافة المحلية تُمارس وظيفة الحماية الهوياتية في عالم يتجه نحو التوحيد القسري للذوق وأنماط العيش. فهي تعمل كوقاية للأفراد من الانزلاق نحو فقدان الذات، وتمنحهم أدوات رمزية لتدبير التعارض بين التقاليد والحداثة، وبين الانتماء الوطني والانفتاح العالمي. وعليه، فإن الثقافة المحلية لا تشكّل مجرد تراثٍ موروث، بل هي مشروع مستمر لإعادة بناء الذات، وهي إطار حيوي لفهم الإنسان المتعدد في زمن السيولة الهوياتية انطلاقا من هذا التحوّل العالمي، تُشكّل "التَمَغْرَبِيت" — أي الثقافة المغربية السائدة والمنبثقة من مزيجٍ متناغم بين التقاليد والحداثة، وكذلك من عملية تركيب ديناميكي للتأثيرات الثقافية المستوحاة من مختلف الحضارات — الأساسَ الفكري الذي يُفاوِض من خلاله الفاعلُ الاجتماعي المغربي انتماءاته المتعدّدة، الناتجة أولًا عن تراكمٍ أنثروبولوجي مكتسب عبر العصور، وثانيًا عن تناقضاته الأيديولوجية الغير المُحدَّدة، بحكم تعدّد مصادرها وتضاربها. بذلك التَمَغْرَبِيت، التي تُجسّد نموذجًا ثقافيًا قادرًا على التوفيق بين مكونات الهوية المغربية المتعدّدة، دون إلغاء خصوصية أي منها فوفقًا لعلم الاجتماع، تطوّر الإنسان تدريجيًا من مرحلة الصيد وجني الثمار إلى الاستقرار الزراعي، ثم إلى التمدّن، ليُصبح في النهاية كائنًا اجتماعيًا يسعى لتحقيق متطلباته عبر النضال والاحتجاج السلمي. وخلال هذه المراحل، تعقّدت ذاتُه تدريجيًا حتى أصبح ما تُسمّيه العلوم الاجتماعية اليوم "الإنسان المتعدّد"، أي صاحب الذات المعقّدة والهويّة الثقافية المركّبة. ويبرز هذا التشابك خصوصًا في تعدّد الأدوار الاجتماعية التي يضطلع بها الفرد، ليبدو "عادياً" في محيطه حسب منطق الأغلبية، فضلًا عن التناقضات الداخلية التي يعيشها بين القيم التقليدية وضغوط ما يُسمّى بالقيم الكونية. فالإنسان المعاصر يمارس حياته الاجتماعية في مجتمعاتٍ تتّسم بتحوّلات فكرية سريعة، حيث تتبدّل انتماءاته وقناعاته الاجتماعية والأيديولوجية وفق السياقات العالمية، والتي تصله عبر تقنيات التواصل الحديثة، إلى درجة قد توصله أحيانًا إلى حافة التطرّف. وعلى الصعيد الوطني، تكشف الأحداث الأخيرة — ولا سيما ما تشهده الساحة المغربية من ممارسات اجتماعية مشبعة برموز أجنبية مشكوك في براءتها — أن المغرب المعاصر أصبح ميدانًا خصبًا لرصد هذه الديناميات التحولية في الحقل السيميولوجي. فالإرثُ الثقافي التقليدي ومتطلّبات العولمة يتعايشان اليوم في الساحة الشعبية المغربية، مما يُولّد توتّرًا سيميائيًا مستمرًّا لا يخلو من مخاطر الانحراف الثقافي. إلا أنه و في قلب هذا الخضم، تُشكّل "التَمَغْرَبِيت" إطارًا ثقافيًا مرنًا يُعاد من خلاله تفاوض الهوية بين ثِقَل التراث وتأثير الحداثة، فضلًا عن تحويل الساحة المغربية إلى ميدان يُمارس فيه المغاربة نوعا من المقاومة ضد محاولات بعض الجهات التي تسعى إلى تشويهَ إرثهم الثقافي وتدميره، علما بقوة هذه القاعدة المشتركة. و ارتباطا بالموضوع ذاته، فقد أصبحت الساحة الوطنية، على غرار ما يجري على المستوى الدولي، مسرحًا رمزيًا تُخاض فيه دون هداوة معركة سوسيو-سيميائية، تتجاوز في عمقها حدود التعبير المجتمعي لتلامس جوهر الصراع الأيديولوجي بين المدارس السياسية و المعتقدات. بالتأمل في ظاهرة الاحتجاجات و الخطابات بالشارع المغربي، يتضح جليا طغيان رموز دخيلة على المشهد الشعبي الراهن، سواء كانت شرق-أوسطية أو غربية، سياسية أم عقائدية. في المقابل، ووفقًا للتغطيات الإعلامية الصادرة عن المنابر الرسمية، وكذلك لما يُتداول عبر شبكات التواصل الاجتماعي، يُلاحَظ غياب شبه تام لرموز الهوية المغربية (كالأعلام، والخطاب، والأهازيج) خلال بعض المسيرات الاحتجاجية في الشارع المغربي.بل لا تقتصر الإشكالية على ضعف أو غياب الحضور الرمزي للثقافة المغربية في التظاهرات ذات الطابع السياسي، بل تتعرض ثقافة البلاد أحيانًا للهجوم أو حتى للاستهداف من قِبَل فاعلين مغاربة أنفسهم، سواء عن قصد أو عن غير قصد. والمثير للانتباه هو ظاهرة اختفاء – أو على الأقل ندرة – مشاركة هؤلاء المتظاهرين في الحركات الداعمة للقضايا المصيرية للأمة، مثل قضية الصحراء، وزلزال الحوز، والاحتلال الإسباني لمدينتي سبتة ومليلية، وغيرها من القضايا التي تُشكّل مرآةً للانتماء وميزانًا للوعي والحسّ الوطني. غير أن هذه الظاهرة، التي لا يمكن اختزالها في أحد نماذج الوصم الاجتماعي، ليست جديدة على الساحة المغربية؛ فقد ظهرت مثيلتها خلال القرن الماضي داخل الجامعات، عندما تم استقطاب عدد كبير من الشباب من طرف اليسارية السوفييتية عبر المسالك الثقافية، إلى حدّ تجنيد بعضهم ضد أمتهم، بل وحتى ضد دينهم. وهو ما يثير الانتباه منطقيًا اليوم و الظاهرة تعيد نفسها في مجتمعنا. كما يدعو إلى الوقوف لتحليل المشهد الرمزي للبلاد في تلك الحقبة، لفهم هذه الظاهرة الاجتماعية ودوافع هذا السلوك الراهن للمواطن المغربي. وفي هذا الحقل الأنثروبولوجي المعقّد الذي يشمل كل ساكنة الأرض، لم يعد الفرد المغربي يُختزل في هوية أحادية، بل تحوّل إلى كيانٍ حامل لدلالات سائلة، يعيش تناقضات عصرٍ تتصادم فيه القيم التقليدية مع إغراءات الحداثة، وتهجين الثقافات عبر زرع رموز جديدة في الحامض النووي للموروث اللامادي للشعوب. الرجوع إلى التاريخ الأنثروبولوجي للإنسانية، يتبين أنه منذ أن قرّرت البشرية الاستقرار في محيطٍ معيّن، تعقّدت الذات الإنسانية لتُصبح "كائنًا متعدّدًا" (Homo multiplex) — كما يصفه إدغار موران (Edgar Morin) — أي كائنًا معقّدًا يحمل في داخله أصداء ثقافاتٍ متداخلة. وفي المغرب، يتجسّد هذا التعقيد عبر تنقّل الفرد بين لغة الضاد ولهجات الأمازيغية، وبين طقوس العبادة ومتابعة "التريندات" و"الوسوم" الرقمية، في تفاعل دائم مع عالم جديد يفرض عليه أن يكون محليًا وعالميًا في آنٍ واحد. و باعتبار السميائية علما يُؤسّس لأربع هويّات متكاملة: اللفظية، البصرية، الرمزية، والسلوكية، إضافة إلى كون الهدف يكمن في الكشف عن "عملية إنتاج المعنى"، حسب رولان بارت "ٌRoland Barthes". وبعبارة أخرى، تسعى إلى إبراز البُنى غير المرئية التي تربط العناصر ببعضها البعض، أي البنية المُنظِّمة للرسالة. وعلى ضوء هذا المعطى، يتيح تحليل الدلالات المتضمّنة في الخطابات والممارسات الرمزية كشف الستار عن هذا "المسرح السيميائي" المعقّد وارتباطه بالطبقات الاجتماعية. وهنا يبرز دور مفهوم "Tradaptation"، وهو مصطلح جديد يجمع بين مفهومي الترجمة والتكييف الثقافي، إذ يُشير إلى العملية التي يُعيد من خلالها الأفراد تفسير الرموز الشمولية ضمن إطار ثقافي محلي، بما يسمح بربط التأثيرات العالمية بهوياتهم الثقافية. ويهدف هذا التحليل، أولًا، إلى تقديم إطار تحليلي مشترك — سوسيولوجي وسيميائي — لفهم هذه الشخصية المعقّدة التي يجسدها "الإنسان المتعدّد" بوجه عام، و"الإنسان المغربي" بوجه خاص. وثانيًا، يسعى إلى استكشاف كيفية تصرّف هذا الفرد باعتباره واجهة سيميائية، مما يجعل هويّاته المتعدّدة قابلة للفهم والتأويل. ومن هنا، تطرح الإشكالية التالية: "كيف يمكن للمواطن المغربي المعاصر، كفاعل اجتماعي، أن يوفق بين انتماءاته المتعددة ضمن بيئة عالمية تتجه حتميا نحو القطبية، مع إعادة تأكيد هويته الثقافية من خلال منظور التَمَغْرَبِيت ؟" تُثير هذه الإشكالية عددًا من الأسئلة الفرعية المرتبطة بالجوانب السوسيولوجية والسيميائية، من بينها: ما هي العلامات، والممارسات، والخطابات التي يُعبّر من خلالها المواطن المغربي عن هويّته المتعدّدة في سياق التوتر بين الثقافة العالمية، والتأثيرات السياسية الخارجية، والجذور المحلية؟ كيف تُعبّر الفئات الاجتماعية المغربية عن انتمائها إلى ثقافة وطنية مشتركة، من خلال إدراك الرموز وتبنّي المواقف التي تُجسّد التوترات بين التقليد والحداثة؟ إلى أي مدى يمكن للثقافة المغربية المتعدّدة أن تلعب دور الوسيط الرمزي الذي يسمح للمواطن المغربي بدمج التأثيرات الأجنبية دون فقدان مرجعياته الهوياتية؟ وخلال هذا التحليل السوسيولوجي-السيميائي، سيتم الاستناد إلى مساهمات وأعمال كل من: بيير بورديو، ميشيل فوكو، زيغمونت باومان، كيمبرلي كرينشو، إدغار موران، غيرت هوفستيد، محمد طوزي، وفاطمة بورقية. أما فيما يخص المنهجية، فسيتم الاعتماد على تقنية تُعرف اختصارًا ب "التصوير بالموجات فوق الصوتية عند نقطة الرعاية" (Point-of-Care Ultrasound)، وهي أسلوب تحليل يُطبّق مباشرة على الشخص وفي بيئته التي تظهر فيها الظاهرة. وهذه الطريقة، المستوحاة من الطب الحديث، تُعتبَر — في مجال علوم التدبير — تقنية تهدف إلى استكشاف وفهم جوانب من سلوك الإنسان المغربي المتعدد الأبعاد، وذلك ضمن محيطه الرمزي الخاص. و مبتغى استعمال تقنية منهجية التحليل المباشر هو محاولة فهم كيفية أداء الطبقات الاجتماعية المغربية لمواقفها من خلال الرموز، والأشياء، والخطابات والمواقف في محيطها الخاص. الإطار النظري والسياق(سوسيولوجيا الهوية) وفقًا للعلوم الاجتماعية الحديثة، لم يعد من الممكن اليوم فهم الفرد المعاصر من خلال هويات ثابتة أو انتماءات أحادية. لقد أصبح كائنًا متعدّدًا، معقّدًا، وسائلًا، يعيش حالة من التوتر المستمر بين سياقات حياتية متغيّرة، تحت تأثير دلالات العولمة. ففي عالم يصعب فيه تعريف الفرد من خلال فئته الاجتماعية فقط، تقدّم السوسيولوجيا المعاصرة أدوات تحليل أكثر مرونة وعمقًا. وعليه، تدعونا فكرة "الإنسان المعقّد" ومنهج السيميائية إلى قراءة الفرد كنصٍّ حي، حيث تحمل كل حركة، وكل لباس، وكل كلمة، وكل خيار، معاني متعدّدة تمكن من فهم دلالات الثقافة المحلية للمجتمع. وفي هذا الإطار، لا يُعتبَر الفرد مجرّد فاعل اجتماعي محدَّد وفقًا لظروفه المعيشية ومحيطه، بل هو خالق للمعنى ومفسِّر لبيئته. فضلًا عن أن السوسيولوجيا الحديثة لا تكتفي بالتعامل مع تصنيفات ثابتة أو مغلقة، بل تسعى إلى فهم التعددية والتركيب عبر مؤشرات مستمدّة من التجارب الإنسانية الموثّقة والمُعاشة. وتُقدّم السوسيولوجيا الحديثة أدوات لفهم "الإنسان المتعدّد" أو "المعقّد"، عبر مفاهيم رئيسية، من أبرزها: العادة : أي تشكيل السلوك من خلال التراكم الثقافي والاجتماعي. الحداثة السائلة : أيسيولة الهويات في عالم متحوّل وسريع التغيّر. التفكير المعقّد: أيتفاعل الأبعاد المتناقضة داخل الذات الواحدة. وفي السياق المغربي، يأخذ هذا التركيب طابعًا خاصًا؛ حيث يتنقّل الفرد المغربي يوميًا بين القيم الدينية، والرموز الاستهلاكية، والتقاليد المحلية، واللغات الأجنبية، فضلًا عن مفاهيم العالم الرقمي. وبالتالي، يصبح الكائن الاجتماعي عُرضة لفيضٍ من المعلومات ومفاهيم الحرية المُموَّهة، متأرجحًا باستمرار بين الواقع والمُحتمل، سواء بوعي منه أو بدونه. التحول من الفرد الموحّد إلى الفاعل المتعدّد طوال تطوّر العلوم الاجتماعية، كانت المقاربات التقليدية تميل إلى تحليل الفرد من خلال دور اجتماعي محدَّد (كالطالب، أو العامل، أو المستهلك، أو العون) لكن تعدّد السياقات الاجتماعية وتشابكها جعل هذه النماذج التحليلية قاصرة عن الإحاطة بتعقيد الفعل الاجتماعي في الزمن المعاصر. وفي هذا الصدد، يقدّم مفكّرون كبار مثل بورديو (مفهوم العادة)، وفوكو (مفهوم التجسيد)، وباومان (الحداثة السائلة)، وموران (التفكير المعقّد)، مقاربات جديدة لفهم الإنسان ككائن يتأرجح بين هويات متعددة، وغالبًا متناقضة. ولا يُمثّل هذا التركيب استثناءً خاصًا بالمغرب، بل يُجسّد القاعدة العامة في المجتمعات المعاصرة، حيث يمكن أن يكون الفرد دينيًا ومتّصلًا بالفضاء الرقمي، تقليديًا وحداثيًّا، محليًا وعالميًا، ثابتًا ومتغيّرًا، وبالتالي معقّدًا في ذاته. ومن جهة أخرى، لم يعُد هذا التحوّل الهويّاتي ناتجًا عن الهجرة أو التعلّم فقط، بل أصبح نتيجة مباشرة لانفتاح المجتمعات على بعضها البعض، وتفاعلها ضمن الفضاء الرقمي، بما في ذلك شبكات التواصل الاجتماعي، التي تحوّلت إلى فضاء رحب للتعبير عن الذوات الفردية، وتقديم تصوّرات متعدّدة للانتماء والهويّة. وقد ساهم هذا في بلورة مفهوم جديد للمواطنة، قائم على التعدّد والاختلاف أكثر من الانسجام والتجانس. وهكذا، يتصرف الفرد الاجتماعي ويفكر ويتواصل عبر عمليات ترجمة مستمرة للسياقات الاجتماعية والثقافية التي يعيشها. سيميائية الذات: التنوع الطبقي في المغرب سمح المنهج السيميائي، كفرع من فروع علم الدلالة، بفكّ شفرات المواقف الاجتماعية، والخطابات، والخيارات اللغوية، بوصفها علامات دالة على معانٍ أعمق. فالمغربي المعاصر — سواء في القرى أو المدن، مغتربًا أو من إحدى الشرائح الاجتماعية — يُجسّد هويته ضمن فضاءات مشبعة بالرموز السيميائية. و بالتالي لم يعد الفرد مجرّد عنصر في جماعة مغلقة، بل بات فاعلًا متعدّد الهويّات، ينتقل بين دوائر انتماء مختلفة، ويُعيد تشكيل ذاته وفقًا للسياقات الاجتماعية والثقافية. وهذا ما يجعل من الصعب ضبط حدود الهوية بدقّة. ومن جهة أخرى، يتداخل في هذا الفهم الجديد للهويّة الذاتي بالجمعي، ويتقاطع المحلي بالكوني، بحيث لم تعد الهويّة بنية ثابتة، بل سيرورة ديناميكية تستوعب التناقضات وتُعيد إنتاجها باستمرار. ومن ثمّ، فالهويّة ليست معطًى جاهزًا يُسلَّم به، وإنما بناء متواصل يتغذّى من شبكة التمثّلات والرموز والمعاني التي تعبّر عن انتماء الفرد لجماعة ثقافية معيّنة. للربط بين الرموز التي يتم إنتاجها في الحقل السميائي المغربي، لا بد بربطها بسياقاتها الثقافية والاقتصادية من خلال تحديد أولا الفئات الاجتماعية المكونة للنسيج الاجتماعي والتي تنتج الرموز، ثم تحليل كيفية انعكاس هذه الرموز على الهوياتَ المتعددةَ للمغاربة، وأخيرا كيف تُعاد صياغتها في مواجهة تحديات العولمة. اعتمادا على الأبحاث الأكاديمية الحديثة، يمكن اعتبار العلاقة المعقدة بين الأفراد والدولة في المغرب على أنها مجال للتفاعلات، حيث تكون الممارسات الثقافية والسياسية مشبعة بتأثير الدولة، وكذلك باستراتيجيات المقاومة والتفاوض، خصوصًا ضمن الفئات الشعبية. من هذا المنطلق، يصبح من المفيد الاعتراف بأن الخطابات الحكومية حول الهوية الوطنية، مثل تلك المرتبطة بالترويج لفكرة "التمغربيت"، تساهم في تحديد إمكانيات الأداء، على نحوٍ يُحيل إلى مفهوم "الآلية" لدى ميشيل فوكو. وفي هذه المرحلة من التحليل، من المهم الإشارة إلى أن المفارقات بين الطبقات الاجتماعية لا تظهر فقط من خلال أنماط الاستهلاك، بل أيضًا من خلال علاقات القوة بين النخب السياسية والاقتصادية من جهة، والجماهير الشعبية من جهة أخرى. فعلى سبيل المثال، كثيرًا ما تكون أصوات الشباب المنحدرين من المناطق الريفية غائبة عن النقاشات العامة، رغم تأثرهم العميق بالتكنولوجيا الحديثة، كما هو الحال في المناطق الحضرية، وإنْ كان ذلك بطرق مختلفة. ومع ذلك، فإن التوترات المرتبطة بالهوية تظهر بشكل متباين حسب الفئات الاجتماعية. ويتّضح ذلك من خلال التصنيف التالي، حيث تعتمد كل طبقة دلالاتها الخاصة لأداء انتمائها، والتعبير عن تناقضاتها عبر رموز محددة. في هذا السياق، يتحوّل الفرد إلى مدوّنة رمزية غنية بالدلالات، حيث يغدو كل عنصر من سلوكياته دالًا اجتماعيًا مشحونًا بالمعنى الذي يجب محاولة فهمه حسب تصنيف سميائي لطبقات المجتمع. 4) التَمَغْرَبِيت: الثقافة المغربية المركبة و دورها كقوة رمزية مقاومة للعولمة على مستوى المغرب، يمكن فهم التمسّك بالثقافة المغربية – التَمَغْرَبِيت – بوصفها مزيجًا متناسقًا بين القيم الموروثة والممارسات الحديثة المكتسبة، إذ أضحت تجسّد مصفوفة ثقافية مرنة ومتجددة، قادرة على استيعاب ودمج ممارسات متنوّعة ذات أصول ثقافية ولغوية واجتماعية متعدّدة. تتميّز هذه الثقافة بتعدّد لافت في المكوّنات: أمازيغي، عربي، صحراوي، يهودي، إفريقي، أندلسي، أوروبي، وغيرها. لكن هذا التعدّد لم يُلغِ الأصل أو النجار، بل تم دمجه في سردية مشتركة تُعرف اليوم ب"التَمَغْرَبِيت". ورغم التوترات الثقافية الداخلية بين الأعراق واللهجات والقبائل (مثل الحركات الأمازيغية، النسوية، الإفريقية جنوب الصحراء وغيرها)، فإن التَمَغْرَبِيت تؤدّي دور "الإسمنت الرمزي"، أو الحاجز، الذي يُشكّل حسب المفهوم السوسيولجي، عقدًا ثقافيًا ضمنيًا بين مختلف مكوّنات البلاد، المتنوّعة عرقيًا وأنثروبولوجيًا. ليست ثقافة التَمَغْرَبِيت بمحتوى ثابتًا أو هوية موحّدة، بل هي حقل دلالي مشترك و متفق عليه بين الفئات المجتمعية، وخيال جماعي قادر على احتواء التعدّدية وتعقيد النسيج الاجتماعي المغربي المنفتح على الثقافات الشرقية و الغربية. وتعزّز كل التأثيرات العولمية هذه الثقافة المغربية، مما يسمح للتَمَغْرَبِيت بأن تتبوّأ مكانة مركزية في توازن الهويّات المعاصرة السائدة و ذلك عبر: رموز مشتركة (مثل الدارجة المغربية التي تعكس تلاقح عدة ثقافات متباينة)، طقوس معبّرة عن الهويّة (حفلات الولاء، الأعياد الدينية، الكرم، الاحتفالات الوطنية، الزوايا الصوفية...)، جمالية الموروث الجماعي (المعمار، الملابس، المطبخ، الموسيقى، الصناعة التقليدية...)، حيث تندمج التأثيرات المحلية والعابرة للحدود. ورغم تحدّيات العولمة التي تسعى إلى توحيد الأذواق وأنماط الحياة، تبقى التَمَغْرَبِيت حصنًا سيميائيًا. فالمغاربة – خصوصًا الشباب – لا يستهلكون الرموز العالمية بشكل سلبي، بل يُعيدون تأويلها وترجمتها ضمن مصفوفتهم الثقافية، عملاً بالمثل الشعبي : "الجديد ليه جدّة، والبالي لا تفرّط فيه". و تتميز التَمَغْرَبِيت بصفتها الهوية الجماعية بالتوحيد دون الانغلاق. بل إنها تُجسّد قوة مقاومة ثقافية، منفتحة وتطوّرية،قوية و لينة، تحافظ على التقاليد الراسخة، وفي مقدّمتها الرمزية الملكية، التي تبقى عنصرًا جوهريًا في مكوّنات الثقافة المغربية و ذلك منذ قرون. و من ناحية أخرى وكما سبق الذكر، فهذه الثقافة المتعدّدة لا تلغي الاختلافات، بل تعيد ترتيبها ضمن كيانٍ متماسك، بما يسمح بتحقيق تعايش هويّاتي سلمي، يضمن الاستقرار الاجتماعي حول مركز رمزي جامع ذو دلالة توحيدية و المتمثّل في تقليد الولاء للعرش الملكي. في مواجهة تأثيرات العولمة الثقافية، التي غالبًا ما تتّسم بالنمطية (توحيد الأذواق، وأنماط الحياة، والقيم الاستهلاكية)، تؤدي التَمَغْرَبِيت دورًا حاسمًا كحاجز سيميائي صلب وفعّال. فالأفراد المغاربة، وخصوصًا فئة الشباب، لا يستقبلون الرموز العالمية بشكلٍ سلبي أو خاضع، بل يُعيدون ترجمتها، وتأويلها، ودمجها ضمن إطارهم الثقافي المحلي. يتبيّن إذًا، وبشكل لا يترك مجالًا للشك، أنّ التَمَغْرَبِيت تقوم بدور الحامي الرمزي للهويّة الجماعية المغربية، في مواجهة التوحيد القسري، دون أن تنزلق نحو المركزية العِرقية أو القبلية أو الدينية. إنها تُتيح تملّكًا نقديًا للأشكال الرمزية العالمية، وتُعيد للمعنى حضوره في عالمٍ مكتظّ بالرموز القابلة للاستبدالية. ومن هذا المنظور، تُعتبر التَمَغْرَبِيت قوّةً ثقافية مقاومة، منفتحة وقابلة للتطوّر، دون المساس بالثوابت الأساسية للدولة، من دينٍ، وتقاليد، ورمزية ملكية. ونتيجة لهذه الخاصية، تصبح ثقافة التَمَغْرَبِيت عنصرًا حيويًا في الحفاظ على الوحدة الوطنية، ضمن عالمٍ يتّسم بتنوّع جذري، وفي محيطٍ تُواجه فيه المملكة محاولات متكررة لتفكيك اللحمة الشعبية. وعلى سبيل المقارنة، فإنّ بعض الدول اختارت محو الفروقات (اللغوية، الدينية، الثقافية) من أجل بناء وحدة وطنية، كما هو الحال في عدة تجارب أوروبية، لكنها فشلت في ذلك. في المقابل، تبنّى المغرب خيالًا جماعيًا قادرًا على دمج التعدّد لا كمعطى هامشي، بل كعنصر مهم في السردية الوطنية. وانطلاقًا من هذه المقاربة، يمكن اعتبار التَمَغْرَبِيت توليفة ثقافية توافقية داخل الأمة المغربية، وهو ما كرّسه دستور 2011، من خلال الاعتراف الرسمي بالتنوّع الثقافي، وتثبيت المكونات الأمازيغية، والعربية، والحسانية، والأندلسية، والعبرية، والإفريقية، وغيرها. يسهم هذا التثبيت في ترسيخ توازن جديد في السردية الوطنية، ينأى عن النزعات العِرقية أو الخطابات الإقصائية. وفي ظلّ الصراعات الرمزية العالمية، تغدو التَمَغْرَبِيت مرجعًا ضمنيًا للاتحاد في سياق التنوّع، كما تُشكّل مقاومة ناعمة لمحاولات الهيمنة على الخطاب، سواء كان سياسيًا أو ثقافيًا أو دينيًا، والتي تسعى لتفكيك وحدة المجتمع المغربي. من جهة أخرى، تزايد هذا الارتباط بالتَمَغْرَبِيت في الآونة الأخيرة، حين اكتشفت فئات واسعة من المغاربة، عبر وسائط التواصل الاجتماعي، أنها مستهدفة بشكل مستمر بالهجوم الرمزي، والانتقاص، ومحاولات التشويه الثقافي. يمكن فهم هذا الوعي الناشئ كحركة ديناميكية، يُعيد من خلالها المغاربة تأكيد موقعهم بين التقاليد الراسخة وقيم الحداثة المتسارعة. تتجلّى هذه الدينامية بوضوح لدى الشباب، الذين نجحوا في التوفيق بين انتمائهم المحلي وانفتاحهم على التأثيرات الخارجية (أو ما يُعرف ب"الكوننة")، خصوصًا تلك التي يرونها قابلة للتكيّف. وقد طوّر الشباب المغربي رؤية متجددة لثقافتهم، يعبّرون عنها من خلال ثلاثة أبعاد مترابطة: يعالج الشاب المغربي ثقافتهكإرث لا مادي وغير ثابت بعملية تكيف مستمر، تتضمّن عناصر عالمية مثل ثقافة وسائل التواصل الاجتماعي، لكنها في الآن نفسه تُعيد تأكيد الرموز المحلية. يبرز هذا التفاعل خصوصًا لدى المراهقين، الذين يُزاوجون بين استخدام الهواتف الذكية والممارسات الدينية، في انسجام مع نموذج "البصلة" الذي اقترحه هوفستيد لفهم تراكب الطبقات الثقافية. يتضمّن التراث المغربي الرموز والممارسات التقليدية تتمثل في المطبخ، اللباس، الطقوس الدينية والاجتماعية، والتي تُشكّل أعمدة الهوية الوطنية. لكنّ هذه العناصر ليست جامدة، بل كثيرًا ما يتم تكييفها لتواكب المتطلبات المعاصرة، ما يجعل من الثقافة التقليدية أداةً حيوية لإعادة إنتاج الهويّة وليس فقط الحفاظ عليها. ففي الفضاء العام المغربي، تُعد صورة المرأة المحجبة التي تستخدم هاتفًا ذكيًا متطوّرًا رمزًا دالًا على هذا التفاعل بين الحداثة التكنولوجية والقيم الدينية والثقافية، رغم كونها تمثل نمطًا محدودًا لا يمكن تعميمه. كما أن الشارع المغربي يعج بدلالات تكرس الصراع الطبيعي بين التقليد والحداثة. وهذا التوتر يبرز في العديد من مظاهر الحياة اليومية. فبينما يتمسك الأفراد بثقافتهم المحلية، يسعون في ذات الوقت إلى الاندماج في عالم غربي تهيمن عليه قيم الاستهلاك، والتكنولوجيا، وأنماط الحياة الحديثة. ومع ذلك، فإن هذا التفاعل المستمر لا يخلو من التناقضات، والتي تظهر بشكل جليّ في بعض الممارسات الاجتماعية، مثل اللباس، الوسم الالكتروني، وفي الخطابات السياسية و الاحتجاجية، بل وحتى في التفاعلات اليومية بين الشباب و التي تعكس مدى التركيبة المعقدة للسيميائية للهويات المعاصرة في المغرب. التصنيف السيميائي للطبقات الاجتماعية في المغرب: في سياق هذا التفاعل بين الهوية والبنية الطبقية، يبرز دور التنوّع الاجتماعي كعنصر حاسم يُمَكِّن من تصنيف الفئات المجتمعية وفق معايير سيميولوجية و سوسيولوجية دقيقة كمحيط العيش و السلوكيات و السن فضلا على النوع، كما يلي: الطبقة الشعبية القروية: يتميز فضاء هذه الفئة بحضور قوي للرموز المقدسة، إلى جانب بروز مظاهر الحداثة الرمزية مثل الملابس، الأطعمة، الهواتف الذكية، وصور السيلفي. ووفقًا لتقرير المعهد الملكي للإحصاء (2022)، فإن 42% من الشباب القرويين يستخدمون تطبيق "تيك توك" للتعبير عن هوية هجينة تجمع بين الدارجة المغربية والرموز العالمية. الطبقة الشعبية الحضرية: تتجلى فيها ظاهرة "تجميل الاحتياجات" من خلال اعتماد مظاهر خارجية مثل الملابس العصرية، السماعات اللافتة، والحضور المكثف على منصات التواصل الاجتماعي، لا سيما "تيك توك". ويُظهر نفس التقرير أن 78% من شباب المدن يستخدمون هذه المنصات لإنتاج خطاب رمزي مزدوج الهوية. الطبقة المتوسطة الناشئة: تميل إلى محاكاة النجاح الاجتماعي من خلال تبنّي أنماط لباس غير رسمية، استخدام لهجات مختلطة، واعتماد رموز اجتماعية تشير إلى الطموح، بالإضافة إلى اختيار نماذج يُنظر إليها كقدوة للنجاح والارتقاء الطبقي. الطبقة المتوسطة المثقفة: تستثمر في الرموز الثقافية مثل الكتب، النقاشات الفكرية، أنماط الحياة المعرفية، والتكنولوجيا، كما تنظر إلى خيار الهجرة إلى الغرب كأفق رمزي للرقي الاجتماعي. الطبقة الميسورة: تُظهر تمايزًا واضحًا عبر الأزياء الراقية والمكلفة، استخدام لغة نخبوية، والانخراط في فضاءات اجتماعية مغلقة مثل الأندية الخاصة. الجالية المغربية أو مغاربة العالم: تمثل حالة مفارقة، تجمع بين اعتزاز بالهوية من جهة، وانفصال رمزي عن النسق المحلي من جهة أخرى، مع إعادة التأكيد على انتماء عاطفي متجدد للوطن الأم، المغرب. من جهة أخرى، وعند تحليل الطبقات الاجتماعية من منظور الرمز الاجتماعي والمساواة، نجد أن النساء من الطبقة المتوسطة الناشئة، على سبيل المثال، يتفاوضن في آن واحد بين هويتهن الجندرية (الأدوار التقليدية مقابل الطموحات المهنية) ووضعهن الاجتماعي (الاستهلاك الظاهري مقابل الحشمة العلنية). في الواقع، تتنقل النساء المغربيات، خصوصًا المنحدرات من الطبقات المتوسطة والشعبية، بين توقعات تقليدية (مثل الأدوار المنزلية، الأمومة، الحشمة) وطموحات حديثة (العمل، الاستقلال الذاتي). ويتجلى هذا التوتر من خلال رموز خاصة، مثل الحجاب المُعاد تأويله، أو الممارسات الدينية المتكيفة مع أنماط الحياة الحضرية والمرتبطة بالاتصال الرقمي. ويتضح هذا الطموح لدى النساء المغاربيات في النضال المستمر الذي تقوده الحركات النسوية والتي تعيد تأويل بعض الرموز السائدة أو ترفضها بالكامل. في المقابل، يبدو أن وزارة الثقافة لا تبذل سوى مجهود محدود عندما يتعلق الأمر بالترويج لخطاب شامل حول "التمغربيت"، يتجاوز مجرد بناء تراث رمزي. ومع ذلك، يمكن لهذا الخطاب أن يشكّل أداة استراتيجية تُوظَّف لتنظيم الهويات المغربية وفرض رؤية موحدة للأمة، خصوصًا في ظل السياسات الوطنية الجديدة والإيديولوجيات المعاصرة. وتُظهر التحليلات المتعلقة بالسياسات العمومية للحكومة الحالية غياب تدابير ملموسة لتقليص هذه الفجوة، مما يُبرز التباين القائم بين الخطاب السياسي والواقع الاجتماعي. كما تتجلى مقاربة مترددة في مبادرة "خطة المغرب الرقمي 2025"، التي تهدف، من بين أمور أخرى، إلى الترويج لحداثة تكنولوجية، لكنها تتغافل عن بناء خطاب ثقافي متكامل حول "التمغربيت" كمشروع استراتيجي. وعلى الرغم من محاولات الدولة ترسيخ "التمغربيت" عبر دسترة اللغة الأمازيغية أو الاحتفاء بالتراث المعماري، تظل السياسات الثقافية خجولة في مواجهة زحف العولمة ورموزها. وفي هذا السياق، يبرز دور المجتمع الموازي: فقد تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى ساحات معارك سيميائية، يخوضها المغاربة بشكل يومي. ومن هنا تبرز ظاهرة "المؤثرين الشباب"، الناشطين على إنستغرام ويوتيوب وتيك توك وغيرهما، والذين ينتجون محتوى يزاوج بين الدارجة واللغات الأجنبية، وبين الأغنية الشعبية والإيقاعات العالمية، مما يُحول الهوية إلى مشروع يومي دائم، قائم على اختيار واعٍ لا على إرث ثابت. ومع ذلك، لا يمكن تجاهل بعض المبادرات المحلية مثل مهرجانات الشوارع في مراكش، التي تجمع بين الفن الأمازيغي والتكنولوجيا الرقمية، وتسعى، ولو جزئيًا، إلى سد الفجوة بإعادة تدوير وتحديث التراث. بالمقابل، لا يبدو أن الإعلام الرسمي يضطلع بدور فاعل في التعريف بالقيم الثقافية السائدة في المغرب. ويجدر بالذكر أن هذه الفجوات في الأداء الحكومي بدأت تُملأ بشكل متزايد عبر وسائل الإعلام البديلة، خاصة الشبكات الاجتماعية، التي تحوّلت إلى فضاءات للتفاوض الهوياتي، حيث يمارس الأفراد أداءً هوياتيًا في كل من الفضاء العام والخاص. وفي هذا الإطار، يقوم المؤثرون المغاربة بإعادة توظيف الرموز العالمية عبر منصات مثل إنستغرام، تويتر، يوتيوب وتيك توك، متنقلين بين التقليد والحداثة، ومُساهمين بذلك في الحفاظ على وتعزيز "التمغربيت". وبينما تختلف تجليات الهوية باختلاف الطبقات الاجتماعية، تعتمد الفئات الشعبية على رموز ملموسة كاللباس التقليدي والمشاركة في المواسم الدينية، في حين تعبّر الطبقة المتوسطة المثقفة عن انتمائها من خلال الخطاب الفني والاهتمام بالتراث المكتوب. أما النخبة الميسورة، فتعيد إنتاج هويتها عبر الاستهلاك الفاخر، مع الحفاظ على خطاب وطني رسمي. وفي هذا المشهد المتنوع، تبرز النساء المغربيات كفاعلات رئيسيات في تفكيك الثنائيات، حيث يتنقلن بين أدوار ربة المنزل ورائدة الأعمال، ويُعدن تشكيل الرموز الدينية، مثل الحجاب، ليصبح علامة على التميز وليس على التقييد. و عليه فمن الواضح أن ممارسات هذه الفئات الرمزية من النسيج الاجتماعي المغربي تُظهر أن أداء الهويات يتمايز وفقًا للموارد الرمزية المتاحة في كل طبقة اجتماعية 5)الأداء الهوياتي للطبقات: بين الأصالة والتمظهر عد تحليل التوترات بين الطبقات الاجتماعية، من المهم استكشاف كيف تُترجم هذه الانقسامات إلى أداء هوياتي يومي. يساعدنا مفهوم "الأداء الهوياتي"، كما طورته جوديث باتلر (Judith Butler)، على فهم كيف يقوم الأفراد المغاربة، من خلال إعادة تأويل المعايير الدينية والاجتماعية، بخلق أشكال جديدة من الانتماء، مع الاستمرار في إعادة إنتاج بعض الرموز التي تحمل طابع الخضوع. وينطبق هنا مفهوم "Tradaptation"، وهو شكل من أشكال الترجمة الثقافية، حيث يُعيد الأفراد اختراع الرموز العالمية (كاللباس أو الموسيقى) ويكيّفونها لتندمج ضمن إطار ثقافي محلي وديني. و استنادا إلى هطه المفاهيم، يبدو من الواضح أن المواطن المغربي المعاصر لا يكتفي بالتعايش مع تناقضاته، بل يجعل من هذه التناقضات مكونًا من مكونات أدائه الهوياتي اليومي، خاصة في الفضاءات الرقمية، حيث تتعايش صلاة الجمعة مع الحفلات، والاقتباسات الروحية مع الوسوم، وأسلوب الحياة المعولم مع القيم الدينية والاجتماعية. في هذا المنوال، يعزز مفهوم باتلر تحليل بورديو المتعلق ب"العادة" (habitus)، إذ يكشف الأداء الهوياتي عن البُعد الديناميكي والتفاعلي للممارسات الاجتماعية. وتكشف هذه التعارضات السيميائية عن توتر مستمر بين ما يطمح إليه الفرد، وما يُظهره، وما يُسمح له بأن يكونه ضمن السياق الاجتماعي. ومع ذلك، فإن هذا التوتر يُعد الفضاء الأكثر وضوحًا الذي يمكن من خلاله فهم "الفاعل المتعدد". 6) نموذج البصلة لهوفستيد: تحليل الثقافة عبر الأبعاد لفهم هذه الدينامية بين الثقافة المحلية والتأثيرات العالمية بشكل أعمق، يمكن الاستعانة بنموذج "البصلة" الذي اقترحه هوفستيد (Hofstede)، والذي يُمكّن من تفكيك الثقافة إلى مستويات متداخلة تبدأ من السلوكيات الظاهرة إلى المبادئ والقيم العميقة. وفقًا لهذا النموذج، تمثل الثقافة بنية طبقية مشابهة للبصلة، وتتوزع كما يلي: السلوكيات الظاهرة تشمل الحركات، الطقوس، المظاهر، والعادات اليومية. بالنسبة للمواطن المغربي، تتجلى في طريقة اللباس( القفطان مثلا يوحّد القبائل والأديان والمناطق)، الممارسات الدينية (الصلوات، الأعياد)، المأكولات التقليدية، والاستخدام المكثف لوسائل التواصل الاجتماعي. على سبيل المثال، قد يرتدي الشاب المغربي أحذية رياضية تحمل علامات تجارية عالمية، وفي الوقت ذاته يلبس الجلباب في المناسبات الدينية أو فتاة محجبة تحمل حقيبة اليد ذات علامة تجارية عالمية. كما تُستخدم المنصات الرقمية لعرض مزيج من القيم الحديثة والتقاليد المحلية. القيم وهي المبادئ التي توجه السلوك، مثل: العائلة، الشرف، احترام الكبار، التضامن، والدين. تظل هذه القيم راسخة في الثقافة المغربية، إلا أنها تخضع لإعادة تعريف تدريجية بفعل الاحتكاك بالثقافات الغربية. فعلى سبيل المثال، تُعاد صياغة مكانة المرأة من خلال مطالبة الأجيال الجديدة بالمزيد من الحرية والمساواة، دون التخلي عن القيم العائلية والاجتماعية. المبادئ الأساسية وهي العناصر المتجذّرة وغير الواعية في الغالب، مثل الضيافة، الحفاظ على الكرامة، مقاومة التغريب، واحترام السلطة. تمثل الممارسات الدينية، مثل الصلاة أو الحجاب، رموزًا ذات حمولة وجدانية وثقافية، وتُشكّل الرابط العميق بين الفرد ومجتمعه. وعلى الرغم من ثبات هذه المبادئ، إلا أن بعض التصورات، خاصة ما يتعلق بالسلطة والتسلسل الهرمي، بدأت تتغير بتأثير النموذج الديمقراطي الغربي. يُتيح نموذج البصلة فهم كيفية تعايش الفرد المغربي مع مستويات متعددة من الانتماء، في ظل ضغط مستمر بين العولمة والحفاظ على الهوية. 7) خاتمة التحليل في عالم تتزايد فيه الروابط العابرة للحدود، حيث تتدفق الثقافات بشكل متسارع، يجد المغرب نفسه عند مفترق طرق بين الحفاظ على هويته المحلية وتبنّي رموز الحداثة العالمية. يتجلى ذلك في تبني أنماط استهلاكية غربية (كاللباس والتكنولوجيا)، ولكن أيضًا في عمليات إعادة التكييف الذكية التي يمارسها الشباب المغاربة، حيث تُعاد ترجمة هذه الرموز ضمن سياقاتهم الثقافية والدينية الخاصة. وبالتالي، لا يُعد المغربي المعاصر مجرد مستهلك للرموز العالمية، بل فاعلًا ثقافيًا يساهم في إنتاج خطاب هوياتي مرن ومعقد، يعكس طبيعة المجتمع المغربي المتعدد والمفتوح على المستقبل. و من خلال نتائج التحليل السوسيولوجي-السيميائي السالف ، يتبين أن التَمَغْرَبِيت تواجه تحديًا ثلاثي الأبعاد : الحفاظ على المرونة والقدرة على التكيّف في مواجهة ضغوط العولمة في مواجهة العولمة. مقاومة "القرصنة الثقافية" أو السطو على الموروث الثقافي المغربي. تطوير سردية ثقافية جامعة موحدة و مقاومة تعكس التعدُّد دون الوقوع في الانفصام الهوياتي. الهوية المغربية بين الدينامية الثقافية والعولمة الرقمية من جهة أخرى، لا يمكن اختزال المواطن المغربي في كونه مجرد كائن جامد مرتبط بالماضي؛ بل هو فاعل ديناميكي، يعيش في حالة تفاوض مستمرة بين انتماءاته، وطموحاته، ومعايير بيئته المتغيرة. ولا يمكن فهم هذا الفاعل المتعدد الأبعاد إلا عبر مقاربة شاملة تدمج السيميائيات، السوسيولوجيا، والأنثروبولوجيا في قراءة متقاطعة للواقع الثقافي المغربي. وانطلاقًا من هذا المنظور، تُعد "التَمَغْرَبِيت" رأس مال رمزي ومناعة ثقافية، تشكّل حصنًا في وجه العولمة، التي كثيرًا ما تختزل الرموز الثقافية إلى شعارات استهلاكية. ففي المغرب، تظل الحداثة في كثير من الأحيان واجهة، بينما تستمر الثقافة في التجلّي داخل الفرد، في سلوكه اليومي، وحركاته الرمزية. وتُعد التَمَغْرَبِيت أيضًا إجابة على المعركة المزدوجة التي يخوضها الفرد المغربي المعاصر: من جهة، مقاومة الهيمنة الرمزية للعولمة التي تُفرغ الرموز من دلالاتها الأصلية، ومن جهة أخرى، الدفاع عن التراث اللامادي الألفي ضد النهب والقرصنة الثقافية. الإجابة عن الإشكالية المطروحة بالعودة إلى الإشكالية الرئيسة حول قدرة المغربي المعاصر على التوفيق بين انتماءاته المتعدّدة في عالمٍ مقسّمٍ بين الشرق والغرب، يبدو أن المواطن المغربي يسعى إلى بناء توازن هويّاتي ديناميكي، يتجلّى في ما يلي: التكييف الثقافي: الذي يتيح له تشكيل فضاء رمزي مرن ومنفتح؛ أداء اجتماعي استراتيجي: يعبّر من خلاله عن انتمائه إلى عوالم متداخلة؛ قاعدة ثقافية راسخة: تمنحه القدرة على الحفاظ على وحدة هويته رغم التعدّد، وتُجسّدها التمغربيت كإطار ضامن للتماسك والمرونة في آنٍ واحد. إن هذه القدرة على التحوّل المنضبط تُمكّن المغربي من التنقّل بين المحلي والعالمي، دون الوقوع في فخ التماهي أو الإنكار الذاتي. إنها قدرة على الحفاظ على الأصالة، مع الانخراط الواعي في المعاصرة. في هذا السياق، يتوجّب على المؤسسات المغربية—من الدولة إلى القطاع الخاص، مرورًا بالمجتمع المدني—أن تستثمر في تحويل التمغربيت إلى قوة فكرية وممارسة ثقافية حديثة، لا أن تتركها أسيرة الحنين، أو تُختزل في شعارات دعائية. وفي قلب العاصفة الرقمية، وفي زمن الذكاء الاصطناعي والعولمة المتسارعة، تُثبت التمغربيت أنها ليست مجرد ذاكرة للماضي، بل أداة فعّالة لصياغة المستقبل. فقدرة المغاربة على تكييف الرموز العالمية دون ذوبان تُجسّد كيف يمكن للهويات المركبة أن تتحوّل إلى قوة ناعمة لصناعة الغد. لكن، من يملك حقّ صياغة هذه السردية؟ يبقى التحدّي الأكبر مطروحًا، وتثيره مجموعة من التساؤلات الجوهرية: هل ستكون السردية الثقافية الجديدة نتاجًا لسياسات فوقية تحتكرها الدولة؟ أم تُخلق من الشارع، من خلال التفاعلات اليومية والممارسات الرمزية؟ أم تُختطف من قِبل الخوارزميات وتتحوّل إلى سلعة تُباع وتُستهلك على المنصات الرقمية؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة ستحدّد ما إذا كانت الهوية المغربية ستظلّ جسرًا يربط الماضي بالمستقبل، أم ستنقلب إلى مجرّد أثرٍ يُعرض في متحف الذاكرة الافتراضية الذي تهيمن عليه الخوارزميات.