أحتمي من الهزيمة .. في الحنين. وأعود إلى ذلك اليوم السبعيني، عندما كنت أسترق النظر، رفقة والدي إلى التلفزيون الأبيض والأسود، ينقل مباراة المغرب الأفريقية. وكان الصوت يتألق في السماء فرس. الحنين، أيضا، ملعب، وساحة للترحال، طريقة شبه نفسية في ترويض الهزيمة.
نحتاج إلى السيد أحمد فرس، البطل الذهبي، لكي نستقيم في الإعتزاز بمغربية الكرة، ولكي نكتب تعزيمة لطرد النحس، ولكي نتباهى بقدرتنا على صناعة المعجزة. فرس الذي سكن مخيلتي، بالرغم من أنها ليست كروية بتاتا، هو الرجل الذي سألتقيه بعد سنين عديدة وأجالسه؟ هذا البطل من ذهب، ولكنه، أيضا، من ماء الطيبوبة، ومن ماس العاطفة، رجل بشوش، واثق من حبه لبلده، يمشي الهوينى، بين الناس، صبور، مشوب بغير قليل من الخجل. الرجل عفيف حتى النخاع، لعله يعتذر عن شهرته التي تكلفه، أحيانا، بعض الضوء، وتكلفه بعض اللمعان، رجل من طينة البلاد العميقة. لم أره إلا مبتسما، يحب هذا البلد مثلما لا يحبه أحد. يحبه كل أيام الأسبوع ويوم الأحد.. دمث الأخلاق، متواضع حتى البساطة، يعتذر عن أخطاء الآخرين.. ويحب بلاده مثلما لا يحبها أحد.. رجل مثله يمكنه أن يبكي، من شدة التأثر، لو ناداه أحد ما بقلبه. وتدمع عيناه، لأبسط تكريم .. رجل شفاف وشفيف، العفة فيه طبيعة صافية والترفع، وحفظ الود.. كم أعطانا من الفرح، كم أعطانا من العزة كم أعطانا من الإعتزاز بالمغرب كم هتفنا اسمه فوق رؤوس الأشهاد..؟ أحمد فرس وصفة مغربية أصيلة ضد اليأس والهزيمة والغرور المتلاشي. كنا أمام شباب تونس، البسطاء، واكتشفنا أنه لا يمكن أن يكون لكم فريق من النجوم لكي تضيىء في بطولة أفريقيا. أن يكون لديك جيش من اللاعبين الكبار لكي تربح مقابلة. كان شباب تونس، منضبطين، متواضعين، يشكلون فريقا موحدا يشتغل من أجل النجاح، ومن أجل الفوز الجماعي. وكنا بنجومنا أقل بكثير من فرقة تستحق البطولة. أمام الغابون زاد غرورنا، ولم نعرف أن العالم كله يملك القدرة على النصر، ويملك القدرة على الفوز علينا..
نعود إلى أحمد فرس، الرجل الشهم، لأنه عنوان مشرق في الذاكرة، وفي الحاضر.. وبكل صدق، إن اللاعبين اليوم لا يعطونا شهية الكتابة، أنهم لا يغذون خيالا ولا يخصبون مخيلة، إنهم جافون كثيرا،.. هؤلاء الذين يغروننا بالكتابة، هم الذين حولونا إلى جيل فرح ومسرور، جيل قادر على الرقص أمام الشاشات البيضاء والسوداء.. أما غيرهم فلم يعلموننا سوى الهروب إلى ملاعب الآخرين. نحن مدينون، بالفعل، إلى أولائك الأبطال البسطاء، الذين يعيشون مثلنا، ويتجولون في الأسواق مثلنا، مدينون، لهم العزة الرياضية التي جعلت اسم بلادنا جزءا من تاريخ الكرة في العالم. لم نخرج من أفريقيا، بل خرجنا من العالم كله، ولا أحد اليوم يأبه لوجودنا من عدمه، وبكل صدق لم نكن في حاجة إلى هذه الهزيمة، أبدا.
ليس الآن، وقد تراكم لدينا كل هؤلاء النجوم. كان السقوط بحجم السطوع! سنشكر دائما فرس وإخوانه على تلك الهدية التي تعمر منذ 36 سنة، هدية بعمر جيلين أو أكثر، هدية بطعم الذكريات، ليس إلا. لكنه فرح قابع في القلب منذ ذلك التاريخ، فرح يعاقرنا، مثلما نعاقر كأس اللازورد، فرح مرصع بصور الأبيض والأُسُود.. !