بثت القناة الثانية يوم الأربعاء 17 أبريل 2013، حلقة من برنامجها الحواري "مباشرة معكم"، متابعة لقرار رئيس الحكومة بتجميد 15 مليار درهم من الاسثتمارات العمومية المقررة لسنة 2013. تضمنت الحلقة ربورطاجا للزميل أحمد مكاوي، حول تأثير الأزمة على مقاولين مغاربة. الواقع، كما صوره هذا الربورطاج، لم يعجب السلطة التنفيذية التي كان يمثلها في بلاطو البرنامج وزير الاقتصاد والمالية. بدل أن يكتفي ممثلو الأغلبية الحكومية بتكذيب الوقائع الواردة في الربورطاج (على افتراض أن تكذيب الواقع ممكن)، أصبحت نية الصحافي هي موضوع النقد.
في تطور مثير اتهم الصحافي ب"فبركة" الوقائع بنية مبيتة في إطار مؤامرة سياسية ضد حزب العدالة والتنمية. الهدف السياسي للمناورة واضح، إذ تحول النقاش بسرعة من تدبير الحكومة للأزمة الاقتصادية، إلى محاكمة نوايا صحافي. لكن الطريقة التي توسل إليها الحزب الأغلبي لبلوغ هذا الهدف مدهشة ومثيرة للقلق.
السلطوية في نسختها الإسلامية
ضدا على القانون وعلى مبدأ فصل السلط واستقلالية الإعلام العمومي عن السطة التنفيذية، يعترف مصطفى الخلفي وزير الاتصال تحت قبة البرلمان، يوم 13 ماي الجاري، أنه تدخل لدى إدارة القناة للتعبير عن انزعاج الحكومة من مضمون الربورطاج المعني. كأن الأمر طبيعي وعادي مر اعتراف الوزير دون أن يثير أدنى نقاش، رغم أنه ببساطة اعتراف بممارسة الوصاية على الإعلام وتوجيهه من منطلق السلطة الحكومية.
وزير الاتصال ليس سوى عضو من بين أعضاء آخرين في مجلس إدارة الشركة المسيرة للقناة الثانية، باعتبارها مؤسسة عمومية، ولا يحق له التدخل في شؤون القناة إلا في إطار هذا المجلس. أما مجال تدخله فلا يشمل إطلاقا مضمون ما تنتجه أو تبثه القناة، بل هو محدد حصريا في مدى احترام إدارتها للعقد البرنامج الموقع بين الطرفين وما ينص عيله دفتر التحملات الخاص بالقناة في هذا الإطار.
الهيأة الوحيدة المخول لها مراقبة أداء الإعلام العمومي هي الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري. أما وزير الاتصال فلا يمكن أن يكون "مديرا للأخبار" كما قال الخلفي نفسه في البرلمان، ولا ناقدا صحافيا يفتي في مدى "مهنية" هذا الربورطاج أو ذاك، كما أضاف الوزير في نفس المداخلة.
إذا كان تصريح الوزير مدهشا في تجاهله لمبدئي استقلالية الإعلام العمومي وفصل السلط، فإن ما ورد في تعقيب عبد الصمد حيكر النائب البرلماني عن حزب العدالة والتنمية، مثير للخوف.
في جهل تام بمبدأ استقلالية الإعلام عن السلطة التنفيذية يطالب النائب الإسلامي، الوزير ب"فتح تحقيق في هذا الربورطاج" واصفا إياه ب"العمل الإجرامي"ḷ وكأن وزير الاتصال حكيم من حكماء الهاكاḷ
أما التهمة التي يجب التحقيق فيها فهي "أن الربورطاج أنجز وفق سيناريو مدروس"، وفي إطار "التشويش على عمل الحكومة وقرارها الجرئي بتجميد 15 مليار درهم من الاسثتمارات العمومية" كما قال عبد الصمد حيكر.
أي أن الإعلام العمومي، وربما الخاص أيضا، يجب بكل بساطة أن يعتقد نفس ما يعتقده نواب حزب العدالة والتنمية بخصوص ما تقدم عليه الحكومة ويردد روايتهم للواقع وإلا فهو "متآمر"، و"مشوش".
إما مع العدالة والتنمية أو مع الملاحدة
لكن الدعوة لسيادة الرأي الوحيد والفكر الوحيد، ليست أخطر ما في كلام النائب الإسلامي. في غمرة انفعاله أطلق حيكر اتهامات خطيرة في حق القناة من قبيل أنها "تخاصم هوية المغاربة" و"تدعو للفتنة"، وما تقوم به يشكل "ردة".
معلوم أن هذه مصطلحات دينية لها حمولتها المعروفة، في سياقات تاريخية متجاوزة، وحين تستعمل لترهيب صحافيين فإن الأمر يتعدى تهديد حرية التعبير ليطال التحريض على العنف من منطلق ديني.
عبد الصمد حيكر نائب برلماني وليس فقيها ولا زعيم جماعة إسلامية، فما معنى اتهامه للقناة الثانية ب"نشر الفتنة ومخاصمة هوية المغاربة وممارس الردة"؟
إننا إزاء انزياح تام عن منطق الدولة والقانون والمؤسسات الدستورية ودفتر التحملات والعقد البرنامج والهاكا... نحو منطق آخر. إنه منطق، الفهم التقليدي للدين ومجال حضوره في الحياة العامة.
منطق الحلال والحرام وتغلغل "الملاحدة" في مؤسسات الدولة والإعلام كما كتب أحمد الريسوني، الزعيم الإيديولوجي لعبد الصمد حيكر، في جريدة المساء يوم 30 يوليوز 2012، متحدثا عن أن:
"الملحدين في بلدي خاصة لهم نفوذ وتغلغل في دواليب الدولة، ولهم سطوة في الإعلام وغيره (...) شتان بين شيعي هو مسلم على كل حال، وملحد ينكر الدين ويحاربه بأصله وفصله".
قبل 16 ماي 2003 ظل أشخاص مثل محمد الفيزازي وحسن الكتاني ومحمد رفيقي وعمر الحدوشي وعبد الله نهاري غيرهم، يرددون مثل هذا الكلام فوق منابر المساجد، وكان آخرون يكتبونه في جريدتي "العصر" و"التجديد"، وحين فجر الانتحاريون أنفسهم في الدارالبيضاء لم يكونوا سوى بصدد الذهاب إلى أبعد مدى في المنطق الناظم لهذا التفكير.
لنذكر أن الإرهابيين ليسوا، ببساطة، سوى أؤلئك الأشخاص الذي ينفذون جريمة قتل في حق أشخاص آخرين يعتبرونهم مستحقين "شرعا" للقتل، بناء على حكم "الشيخ" أو المرجع الديني الذي يثق به هؤلاء.
هناك حاجة ملحة لتكرار هذه البديهيات والمسلمات، في هذا الزمن الذي صار فيه شيوخ السلفية الجهادية ينكرون بكل بساطة حدوث جريمة إرهابية في 16 ماي تنفيذا لفهم أخرق للدين، ويتحدثون عن "مؤامرة" دبرتها جهات مجهولة لاستهداف الإسلاميين.
السلطوية باسم "الحداثة بالمقابل هناك كلمة حق وردت في تدخل النائب البرلماني حول القناة الثانية، حين يقول إن "هناك جهات أخرى تتحكم في القناة". تحكم يمارسه من يصفون أنفهسم ب"الحداثيين" من ذوي النفوذ، ويظهر واضحا في النهج الإقصائي الذي يطبع الخط التحريري للقناة الثانية، وباقي قنوات الإعلام العمومي، تجاه بعض مكونات المجتمع السياسي ببلادنا.
يكفي التذكير أن هذا الهجوم على القناة الثانية كان يوم الاثنين 13 ماي، أي بعد يومين من النشرات الإخبارية التي أفردت فيها القناة مساحة كبيرة لحزب الاستقلال، في إطار تغطيتها لقرار مجلسه الوطني إعلان الانسحاب من الحكومة، مقابل غياب لممثلي حزب العدالة والتنمية.
صحيح أن رئيس الحكومة ووزير العلاقات مع البرلمان، أعلنا صراحة مقاطعتهما للقناة الثانية في مبادرة غير مبررة إطلاقا، لكن أصواتا أخرى من الحزب الأغلبي أضحت وجوها إعلامية بامتياز ولا يتصور أن ترفض دعوة لبسط وجهة نظرها أمام المواطنين مشاهدي القناة الثانية.
وإلا لماذا لا يظهر عبد العزيز أفتاتي أو عبد الله بوانو، مثلا، في أحد برامج قنوات الإعلام العمومي ليشرحا للمواطنين موقفهما من قضية الحسابات الخصوصية مثلا؟
قبل ذلك بأيام قليلة ظهر الإقصاء والانحياز لأطروحة واحدة بشكل أبشع، بمناسبة تغطية الإعلام العمومي للبلاغات التي صدرت عن وزارة الداخلية ضد الجمعية المغربية لحقوق الإنسان. ليس هناك إعلام في الدنيا ينشر بتفصيل بلاغا لوزارة الداخلية، يكذب بيانا سابقا لجمعية حقوقية، دون أن يشير لما صدر في البيان موضوع التكذيبḷ
يجب الاعتراف أن الإعلام العمومي، في هذه الحالة، أبدع في تسفيه المنطق. إذ الممكن أن نعرض الادعاء ثم نكذبه، والمستحيل أن نعرض التكذيب قبل أو دون عرض الادعاء. لكن المستحيل ممكن عند فيصل العرايشي وسليم الشيخ وسميرة سيطايل.
ليس هذا سوى مثال واحد على ديكتاتورية الاعلام العمومي في تعامله مع الأصوات التي تعتبر معارضة في مختلف المستويات. لكن حين تتحدث الحكومة الحالية عن "إصلاح" الإعلام العمومي، فالأمر لا يتعدى تغيير المتحكمين في هذا الإعلام بما يخدم مصالح العدالة والتنمية فقط.
فالنائب الإسلامي الحريص على "مهنية" القناة الثانية، لا مشكلة له في انحياز الإعلام العمومي لوزارة الداخلية على حساب الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، مثلا، أو غير ذلك من حالات الإقصاء الصريح للأصوات التي لا تحظى برضى السلطة.
استبدال تحكم بآخر يجب الاعتراف لوزير الاتصال والحكومة الحالية بالنجاح في وضع إطار قانوني يمكن أن يضمن نزاهة التدبير المالي لجزء من الإعلام العمومي، في ما يتعلق بولوج شركات الإنتاج السمعي البصري لصفقات الإنتاج الخارجي، وذلك من خلال اعتماد مبدأ طلبات العروض وتكافؤ الفرص بين المتنافسين على الاستفادة من هذه الصفقات.
كما يجب التأكيد على أن من حق الوزير، بل واجبه وواجب الحكومة، ضمان سيادة صاحب القرار السياسي الحزبي المنتخب على جميع الموظفين العموميين، في إطار الولاء للقانون والمصلحة العامة، وليس الولاء للحزب أو الجهة التي عينت هذا الموظف أو ذاك.
لكن المثير للانتباه أن حزب العدالة والتنمية، لم يسع خلال صراعه مع بعض الموظفين المدبرين لقنوات الإعلام العمومي، إلى ضمان التعددية والحياد في تعامل الإعلام العمومي مع جميع الفرقاء السياسيين، بقدر ما سعى فقط إلى استبدال تحكم بتحكم آخر.
فمصطفى الخلفي لم يهدد بالاستقالة من منصبه إلا إذا استمر إشهار ما يسميه "القمار"، وليس إذا لم يلتزم مدراء الإعلام العمومي باحترام ما تلزمه بهم دفاتر التحملات من ضرورة تغطية الأحداث السياسية والاجتماعية الكبرى في بلادنا، مثل جنازة عبد السلام يايسن أو مقترح الولاياتالمتحدة بتوسيع صلاحيات المينورسو في الصحراء...
ولم نسمع قط الوزير الإسلامي يعلن أنه اتصل هاتفيا بمدراء إحدى قنوات الإعلام العمومي ليحثهم على احترام الموضوعية وتعدد الآراء، بما فيها غير الممثلة في المؤسسات.
أما الفرق بين التحكم "الحداثي" والتحكم "الإسلامي" في الإعلام العمومي، فيكمن في طبيعة الرأي العام الذي يسعى كلا النهجين لصناعته. التحكم "الحداثي" يريد رأيا عاما بعيدا عن الانشغال بالأحداث السياسية الوطنية، والنقاشات حول السياسيات العمومية والاختيارات الاقتصادية للدولة وآثارها على الحياة اليومية للمواطنين.
حتى فكرة "الحداثة" تقدم في أبخس صورها، مختزلة في الترفيه. احترام حرية التعبير الفني بجميع أشكاله سلوك حداثي، لا شك في ذلك، نقيضه الرقابة على الذوق بمبرر تأويلات معينة للدين والأخلاق والتقاليد بشكل عام. لكن ذلك جزء بسيط مما يقتضيه توظيف الإعلام الجماهيري في تربية المواطنين على فهم واستيعاب واحترام مبادئ العقلانية والحرية والنسبية وأولوية العلم على الخرافة، وغيرها من مبادئ الحداثة الحقيقية.
من جهتهم يسعى الإسلاميون لتكوين رأي عام يثق ثقة عمياء في كل ما تقرره حكومة يقودها حزب العدالة والتنمية، ولا يتساءل مثلا عن جدوى تجميد اسثتمارت عمومية، وما إذا كانت هناك اختيارات أخرى ممكنة... رأي عام يبني تصوره للعالم انطلاقا من معلومات يقدمها له فقهاء "علماء دين" يتحدثون في جميع قضايا الدنيا.
المفارقة، أن الإعلام العمومي وفي ظل تحكم "الحداثيين" فيه، يساهم في نفس الوقت في صناعة الرأي العام الذي يريده الإسلاميون. يكفي للتأكد من ذلك، متابعة جزء من برامج قناة السادسة وما يقوله مصطفى بنحمزة، رئيس المجلس العلمي لوجدة، في حق الباحثين والمفكرين الإسلاميين المدافعين عن فكرة القراءة التاريخية للقرآن. أو ما يقوله أحد أساتذة معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة بالرباط، حول أن مبادئ التغذية الصحية الحديثة موجودة كلها متضمنة في القرآن!