في نفس اليوم. وربما في نفس الساعة. وفي أمكنة مختلفة من هذا العالم قد يكون مات أشخاص آخرون نفس الميتة التي ماتها الراحل عبد الله بها. يحدث هذا دائما، وسيظل يحدث، وسيموت أناس آخرون في حوادث مماثلة. لكننا، ومن هول الفاجعة، لا نصدق أن يأتي الموت بهذه الطريقة. ومن عدم توقع الأمر، نعتبر الموت لغزا. ويا لها من صدفة غريبة، يا له من ألم فظيع، أن يقضي رجلا سياسة في نفس المكان، وفي توقيت متقارب. كأنها لعنة المكان. ويحدث أن تفزعنا الصدفة. ويحدث أن لا نصدق أن الموت يمكن أن يحدث بهذا الشكل، لكنه يحدث، ونظل لا نصدق ونستغرب. أحيانا، تأتي الملمات متلاحقة، وتأتي من حيث لا يتوقع أحد، وتأتي غريبة وقاسية ومبكية، ولا يستوعبها عقل، لكنها تأتي. من منا من لم يحدث له يوما أن قطع الطريق، وهو غائب عن نفسه، وانتباهه في مكان آخر، وروحه هائمة، من، من، بينما السيارات تمر مسرعة. من منا من لم ينج بأعجوبة وهو ساهم وعقله في مكان آخر وفي أفكار أخرى، ولم يدر بنفسه، إلا بعد أن نجا ونبهه الناس. حدث لي ذلك مرارا، وأعتقد أنه حدث لكم أيضا. أحيانا يأتي الموت هكذا، وقد يأتي ونحن نتذكره، ونحن ساهمون في الحياة. ومن فرط إنسانية الإنسان أنه يغرق في ذاته، وينسى الخطر الداهم، وينسى أنه يقف في المكان الذي لم يكن عليه أن يقف فيه، فيصدمه الموت. الموت من طبيعة الإنسان، ويحدث أحيانا أن نذهب إليه، فيكون مفجعا وأليما وأشد وطءا من الموت العادي، الذي يأتي في النهاية. لا فرق في ذلك بين وزير وبين مواطن عادي، لا فرق بين رجل وامرأة، لا فرق بين غني وفقير، لا فرق بين شخص متعلم وشخص أمي، كلنا قد نموت نفس الميتة المفجعة وغير المفهومة والملغزة. نعم، الصدفة سميت صدفة لأنها غريبة، ولأن عقلنا لا يستوعبها، وكم هي قاسية وصادمة ومؤلمة وغير مفهومة، حين تتسبب في الموت. لا أحد منا بمقدوره أن يعرف ماذا كان يدور في خلد الراحل قبل أن يدهسه القطار، و قد يكون غيبه الحزن، وهو يتذكر الزايدي، لا أحد يعرف، وهذا من طبيعة الإنسان، كيفما كان منصبه، فهو يظل إنسانا، وليس من حق أحد أن يقتحم روحه وعقله وقلبه. لقد مات ميتة مؤلمة وصادمة مات ميتة ملغرة ولأنه رجل سياسة، فنحن نتدخل حتى في موته، ونحوله إلى موت سياسي، وننسى أنه بشر مثلنا، وكم من مرة متنا في حوادث سير، وكم من إنسان دهسه قطار. لا أحد يعلم كيف عنت للراحل فكرة الوقوف في ذلك المكان، ولا أحد يعلم الأفكار والمشاعر التي كانت تخالجه في تلك اللحظة، ومن حسن الحظ أن دواخل الإنسان ليست موضوعا صحفيا، مع أن بعض الزملاء يرون في أنفسهم أنهم يمتلكون القدرة على الحديث عنها، وسبر أغوارها. لقد كان الراحل مع نفسه في لحظاته الأخيرة قبل أن يغادر هذه الحياة، وكان مع ما قاله لنفسه، ومع ذاته، ومع مشاعره في تلك اللحظة، قبل أن يدهمه الموت.الموت القاسي والمؤلم، والذي لم يكن يتوقعه أحد. وربما مازالت كلماته التي قالها لنفسه تحلق في مكان الحادث، لكنها كلماته ونفسه وحالته التي كان عليها، وليس من حق أحد أن يدعي أن له القدرة على جمعها والتحقيق فيها. للراحل أهل وزوجة وأولاد وله حزب وأسرة سياسية كبيرة وأناس كثر كانوا يحبونه ويقدرونه ويحترمونه وهم الآن حزانى ومصدومون فلنتحرم حزنهم ومصابهم ولنحترم إنسانيته ومكانته في قلوب أقربائه والذين كانوا يعرفونه عن قرب هم أحق بالحديث عن الراحل هم أحق بالتعبير عن الحزن وعن الصدمة وعن الألم وهو وحده الراحل يعلم الحالة التي كان عليها ويعلم ماذا قال لنفسه وكيف غيبته نفسه عن الشعور بالخطر في ذلك المكان بالضبط وقرب تلك القنطرة قبل أن تحدث الصدفة الغريبة وقبل أن يمر القطار.