حقائق وأسرار لأول مرة تنشر "" لقد كان المشروع الإسلامي يمر في شوارع ضيقة، وصار اليوم يمر في أزقة أضيق، بما كسبته أيدي المنتسبين للحركة الإسلامية، وآن الأوان لنمحص الصف، يكفي ما جناه الإسلام من ويلات سوء الفهم، وسوء المعاملة، وسوء النية التي لا تأتي إلا بالخسران المبين. آن الأوان لنقف في وسط الطريق، لننظر في ما عاهدنا الله عليه، وفي ما عاهدنا عليه الحركة الإسلامية. لقد عاهدنا الله على السمع والطاعة من غير شرط، في السر والعلن، في الحرب والسلم، وعاهدنا الحركة الإسلامية على السمع والطاعة ما أطاعت الله فينا، هنا يكمن بيت القصيد بين انتمائنا للإسلام، وبين انتمائنا للحركة الإسلامية، إلا أن الدروس الدعوية التي تقام في مقرات الحركة، والجلسات التربوية المفعمة بالإيمان، وصلوات الفجر وقيام الليل بالخشوع المحمود، ومدارسة السنة النبوية الشريفة وسط "الإخوان"، تجعل أبناء الحركة يشعرون شيئا فشيئا أن حركتهم تمثل الإسلام، من وعي أو من غير وعي، لما رأوا فيها من حالات العبادة المفقودة في مكان آخر. لا أحد يطعن في مدارسة الكتاب والسنة النبوية الشريفة، ولا أحد يجادل في أهمية الحالات الإيمانية، لكن هذا لا يجعلنا نفقد الخيط الفاصل بين الإسلام، وبين التجربة الإنسانية الكامنة في الحركة الإسلامية. الإسلام من الله، أما الحركة الإسلامية فهي من وحي البشر ومن إبداعه، ومهما ارتقت هذه التجربة فستظل تجربة إنسانية، تحيطها كل ما يمكن أن يحيط بالإنسان من ضعف وهوان وقلة حيلة. حينما سيقرأ أبناء حركة التوحيد والإصلاح مقالاتي هذه، سيقولون بأنها حق أريد به باطل، فالحركات الإسلامية للأسف، قد أنجبت لنا نماذج غريبة من الناس، منغلقي الفهم، قاصري العقل، يرددون مقولات معينة ما أنزل الله بها من سلطان في مواقف معينة، وكأنهم نماذج فكرية لنموذج واحد وموحد. حينما أتى الإسلام احتفظ بشخصيات الناس وغير فقط سلوكياتهم وعقلياتهم، فمن كان يميل إلى المزاح والفكاهة ظل على حاله، ومن كان شديدا حازما ظل على حاله، ومن كان رفيقا رقيقا ظل على حاله، أما مجيء الحركة الإسلامية فقد غير من الإنسان أكثر مما غيره فيه الإسلام نفسه، حتى إنك من مِشية القوم ومن لباسهم وطريقة حديثهم، يمكنك أن تعرف إلى أي جماعة ينتمون. إننا أمام حالات نفسية وروحية مرضية، سنساهم في استشرائها إن سكتنا عنها بدعوى أنهم إخواننا، وبدعوى أنهم سيربطون هذا الجهد الفكري بهاجس الانتخابات، وبدعوى أنهم سيطلقون علينا أوضع الأوصاف و أنتن الألقاب. أما نعتهم لنا بأقبح الأوصاف، فقد تصدقنا منذ زمن بعيد بعرضنا على الله ورسوله، وقد سامحناهم من أجل ذلك سامحهم الله، وأما ربطهم للمقالات بهاجس الانتخابات، فهذا دليل آخر على تضخم هذا العمل السياسي، الذي وجب مراجعته بمنظار إسلامي مجرد من عوامل الذاتية والأنانية والمصلحة الضيقة. إذا كان الماركسيون يحللون من خلال عامل الصراع الطبقي، وأصحاب فرويد يحللون من خلال العامل الجنسي، فأبناء حزب العدالة والتنمية لا يحللون إلا من خلال هاجس الانتخابات. إن ما نقوم به مجرد محاولة لتحليل الحركة الإسلامية، وتشخيص أمراضها واقتراح العلاج، ومن رآنا في ضلال كبير، أو في زيغ مبين فليرد علينا، فإنما هو فكر بفكر، وكتابات يرد عليها بكتابات، لا أقل ولا أكثر، أما إطلاق الأوصاف النابية بغير حق، والتسفيه من غير حجة أو دليل، فهي حيلة الضعفاء التعساء، وملجأ من لا ملجأ له. لقد قلتُ في مقالات سابقة بأن المقاصد الشرعية صارت تكيف وفق الأغراض السياسية، إلا أن هذا الأمر قد مسه نظرية التطور، فآل لما هو أفظع منه وأقبح منه بمراتب عديدة، هذا يعني بأن السنوات القادمة تخفي وراءها وضعا أشد غرابة، وحالا أكثر نتانة من ذي قبل، وإذا لم نتجند ولم يتجند معنا الغيورون على حال الإسلام والمسلمين، فسنكون في مواجهة فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منا خاصة. لقد طفحت إلى السطح قاعدة أقل ما يقال عنها أنها دنيئة وبذيئة وخبيثة ودخيلة بما يكفي، للإجهاز على ما تبقى من الأمل في إقامة الدين على كل المستويات، ألا وهي: "التأصيل الشرعي لا يوجد في العمل السياسي". كنا ربما نتفهم لو أن هذا الكلام نبع من أناس لا يمتون للمرجعية الإسلامية بصلة، وكنا نجد أعذارا لو أنه قد تقول بهذه الأقاويل جمعيات محاربة المد الأصولي، أو جمعيات عبدة الشيطان، لكنها وللأسف الشديد، فقد نبعت من أبناء الحركة الإسلامية، الذين يقرؤون القرآن وهم يبكون خوفا من عذاب الله، وطمعا في جنته التي جعلها لأتقيائه وأصفيائه. أما وقد نطق بهذا الحوب العظيم بعض قياديي حركة التوحيد والإصلاح في مقر الحركة بوجدة، ومن بينهم برلمانيين سابقين، فلا يسعنا إلا أن نذكر شعرا نفيسا لأحمد مطر: "وطني يا أيها الأرمد ترعاك السما، أصبح الوالي هو الكحالة فأبشر بالعمى ". لم يقتصر هذا الهذيان على أفراد معينين، بغض النظر عن مسؤولياتهم الجسيمة، بل تحول إلى تيار داخل حركة التوحيد والإصلاح، يستقطب المزيد رويدا رويدا، وينشر هذا الفساد قدر ما استطاع، حتى أني تناقشت مع أحدهم بالأدلة من كتاب الله، فصاح في وجهي:" تحدث بلغة أفهمها". فأجبتُ: "حينما صرتم لا تفهمون لغة القرآن، ربما يجب أن نتحدث معكم بلغة الإنجيل". هذا بعض أثر المد اليساري داخل حزب العدالة والتنمية، وإذا لم يُتدارك خطورته في القريب العاجل، فسنكون أمام حزب من غير هوية أو مرجعية، كقصة الغراب الذي أراد أن يقلد مِشية الحمامة. ليتهم توقفوا عند قاعدة "السياسة فن الممكن"، وليتهم حرفوا قاعدة "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" وأخرجوها عن سياقها، أو حرفوا قاعدة "الأمور بمقاصدها" فشوهوا معناها، أو أنهم تأولوا قاعدة "الضرورات تبيح المحظورات" بما لا يُتأول لهان الأمر، أما أن يفرضوا قطيعة تامة مع النصوص الشرعية، ومع كتاب الله وسنة رسوله، فهذه علمانية بامتياز لم يسبقهم إليها أحد، فكيف سيقيم هؤلاء "العلمانيون" الدين بالنسبة للفرد والمجتمع والدولة وهم لم يقيموه حتى في أنفسهم؟ إن ما كشف عنه هؤلاء المندسين من قواعد خبيثة قبل تمكنهم من الحكم، يوحي بأنهم يخفون قواعد أخبث حينما يتمكنون منه. إن مخترع مقولة: "التأصيل الشرعي لا يوجد في العمل السياسي" يستحق كل تبجيل وتقدير من لدن هيآت محاربة الدين، فقد وفر عنهم سنوات من العمل الدؤوب، وأعفاهم من نصب عظيم جراء ما يمكن أن يلحق بهم، وهم يحاولون أن يصلوا إلى نتائج أقل مما قد يوصلهم إليها هذا المخترع الفذ. إن حب الدنيا هو رأس كل خطيئة، وقد جاء في الصحيحين عن عقبة مرفوعا: "والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم". إن إعفاء الفعل السياسي من الضوابط الشرعية له انعكاسات خطيرة، أدناها أن الحزب "الإسلامي" معفى من المرجعية الإسلامية، وأنه يمكنه الانطلاق من أي بناء فكري آخر، وهكذا صرنا حزبا كباقي الأحزاب، لا نتميز عليها في شيء. لقد كان الدين وسيظل مسيطرا على كافة جوانب الحياة، رضي من رضي، وأبى من أبى، ولن يستقيل من أية هيأة أو مؤسسة، ولن يهجر مواقع إفراز القرار سواء كان قرارا اجتماعيا أو اقتصاديا أو سياسيا، وأن الملائكة الكرام سيلازمون أبناء الحركة الإسلامية في غدوهم ورواحهم، ليكتبوا سيئاتهم وحسناتهم، ولن يفارقوهم عند دخولهم مقر حزب العدالة والتنمية، بدعوى أن التأصيل الشرعي ليس في العمل السياسي. كل أمر ليس له أصل من كتاب الله وسنة رسوله فالله ورسوله منه براء، وبالتالي فإننا أمام أمور مردودة على أصحابها، وعلينا أن نقف في وجوههم بكل ما أوتينا من قوة ومن رباطة الجأش، ولا يشفع لهم ما قد يبدو منهم من تضحيات في سبيل الحركة الإسلامية، لأن الذي يضحي لا يأخذ من دين الله ثمنا لتضحياته تلك. غياب هاجس البحث عن الدليل الشرعي للمواقف السياسية معناه أننا أمام مواقف لا تبرر شرعا، ولا تجد سندا من كتاب الله وسنة رسوله، فهل ينتظر العاقل بعد هذا كله، أن يسود الصدق في الساحة السياسية، وأن ينتشر الوفاء بالعهود والالتزام بالعقود؟ لقد ولجنا عالم السياسة من أجل نشر الأخلاق الفاضلة في الفعل السياسي، لكننا حتى وبعد أن فشلنا في ذلك، فإننا لا نستطيع الخروج من هذا المعترك، لأن الخروج منه يتطلب منا أخلاقا أفضل من تلك التي كانت تفترض فينا ونحن نلج هذا العالم الخطير. إن إفراغ السياسة من الشرع، وإفراغ المواقف السياسية من الضوابط الشرعية، وحده الذي يفسر تهكم بعض السياسيين "المرموقين" بحزب العدالة والتنمية بفقهاء الحركة، ويفسر صرخات الأسى والحزن التي صرخاها الدكتور الفاضل الأنصاري جزاه الله خيرا، فالتاريخ يكتبه "السياسي" أما الفقيه فمجرد آلة يطبع بها السياسي تاريخه "المجيد". هل يستطيع أبناء حركة التوحيد والإصلاح أن يتجردوا لله ورسوله، ويعلنوها مدوية في وجه المندسين والمنحرفين عن دين الله؟ أم أن الإسلام صار ملتصقا بهؤلاء المنحرفين، فحيثما كانت مصلحتهم تكون مصلحة الإسلام؟ حينما تتسع الهوة بين الشرع وبين ما يحكم به قياديو الحركة الإسلامية، نكون بصدد مناقشة حركة "إسلاموية"، تدعي الشرع ولا تأخذ به، وتسطره في تصوراتها وتهجره تمام الهجران في سلوكياتها، وإذا رأيتَ أحدهم يتلون بألوان قزح وهو يقرأ مقالاتي، فلأن حرمة الحركة الإسلامية عنده أشد من حرمة الله ورسوله، وهذا دليل إضافي على شساعة الهوة بين ما أنزل الله وبين ما يفتريه المندسون. إن وجود المختلين فكريا وأخلاقيا في حركة التوحيد والإصلاح، لا يطعن بشكل من الأشكال في سلامة نية المخلصين وفي تضحياتهم وفي أخلاقهم، إلا أن كثرة الخبث تجعل التفريق بينهم صعب وعسير، فليعذرنا من كان همه الوحيد نصرة دين الله، شريطة أن ينهج منهج التبين الذي أمرنا به الشارع، وأن يسلك مسلك الأطهار في التمحيص والتحري. لقد ابتليت الحركة الإسلامية بأكثر من ابتلاء، ولكن أكبر ابتلاء نابع من بعض قيادييها الذين احترفوا حب ذواتهم، فأنساهم ذلك حب الله ورسوله. *مقال مقطتف من كتاب الجالية اليسارية المقيمة بحزب العدالة والتنمية للكاتب الإقليمي سابقا لحزب العدالة والتنمية نور الدين زاوش. [email protected]