في صبيحة عيد الفطر، مازالت الأمّهات داخل عائلات مغربية عديدة، "تقليدية" كانت أو "عصرية"، يتلقّين عطايا، ضمنها ذهب، اعترافاً بجهودهنّ القيّمة في تحضير الأطعمة للعائلة طيلة شهر رمضان. العملية لا تتمّ عفويّا، بل داخل وعاءاتٍ حامِلُها "حق الملح"، الذي يفسره البعض بأنه نابع من تذوق المرأة للطعام إن كان يحتاج ملحاً، كما يربطه آخرون ب"تشارك الملح والطعام". هسبريس طرحت مع باحثين أصل هذا العرف، الذي يحضر في الدول المغاربية بتسميات مختلفة، متسائلة إن كانت ولادته حصلت مع العثمانيين فعلاً، فأكدوا، خصوصاً الأكاديمي محسن بنزاكور، أن "معطيات تروج هذا المضمون، ولكن من المستحيل الخروج بتصور دقيق حول جذوره وإلا دخلنا في معارك وهمية وعاطفيّة"، مسجلا أن "ما نعرفه هو أننا فتحنا أعيننا على هذا العرف، مع أننا ليس لدينا معطيات موضوعية حول أصله". "ذكاء مجتمعي" محسن بنزاكور، أخصائي في علم النفس الاجتماعي، ربط هذا العرف ب"الاعتراف المتبادل بين الزوجين، أو بين الأب والأم، أو بين العائلة والمرأة، كيفما كان الرابط الذي يجمع بينهما". وقال: "هذا المبدأ يجعل الاعتراف رسميا وعلنيا وغنيا، فنحن حين نتحدث عن حق الملح نكون أمام توقيع مجتمعي أخرج هذا العرف الرمزي من مجال العيش الأسري المغلق ومنحه معنى متداولاً داخل النسق الثقافي". بهذا المعنى، وضّح بنزاكور، يكون "المجتمع هو من يعترف بما قدمته تلك المرأة خلال شهر رمضان". وأكد أن "المجتمع كان بليغاً حين اختار تسمية تمتح من قواميس المشترك المغربي؛ لأن عنصر الملح كان دائماً حاضراً في تعابير لسنية واضحة من قبيل: 'تشاركنا الملح' أو 'تشاركنا الطعام'. وهذا يحيل على أننا وصلنا مستوى من الثّقة لا أفق فيه لهراء الخيانة أو الخداع". وتابع قائلاً: "العرف كان من الروابط التي تؤسّس للرابطة الزّواجية. وكان يعطي نوعاً من الشرعية للأدوار في ذلك الوقت: المرأة في البيت والرجل في العمل". وأضاف: "الآن في المجتمع الحالي، أسر تواصل استحضار هذه القيمة، باعتبارها مفهوماً يعود إلى المجتمع التقليدي، لكن في إطاره الإيجابي. وأنا أحبّذ مثل هذه الأفكار إذا كان فيها سموّ في العلاقات الأسرية. أقصد أن الأمر يتصل بثقافة الاعتراف، وليس مقابلاً ماديّا". وجواباً على سؤالٍ إنْ كان هذا الأمر، كما يظنه البعض، استدعاءً "معاصراً" للصور النمطية التي تعدّ مردودية المرأة أكثر مصداقيّة في النطاق الأسري وفي الوظيفة التقليدية، نفى المتحدث "أي تأويل من هذا القبيل يودّ أن يحمّل هذه العادة شيئا دخيلا عليها"، مفصّلا أنه "كما قلت، هو اعتراف بالمجهود، وليس لأننا نقوم به تجاه المرأة، فالأمر يفتح الباب أمام هذا التفسير الذي لا يحتكم إلى عنصر التّاريخ، فنحن نركز على رمزية الفعل أكثر من ماديته". حق الملح للرجل؟ المصطفى الشكدالي، أخصائي في علم النفس الاجتماعي، سار على درب بنزاكور في اعتبار "حق الملح" اعترافا بجميل المرأة خلال رمضان، جرى استنتاجه من تحضيرها الطعام وتذوقه لمعرفة مقدار الملوحة الضروري، رغم أنها صائمة، وهو ما جعل مادة "الملح"، تحمل رابطاً اجتماعيا قويا"، منبها في هذا السياق إلى "التحول الذي طال شكل الأسرة، وصرنا نعاين أزواجا يساهمون من جهتهم في هذه المهام". ولم يقبل الشكدالي الزجّ بأي "تهمة" من قبيل "الميزوجينية" في قلب هذه العمليّة، باعتبارها "قيمة مجتمعيّة كانت غاياتها الأصلية نبيلة لا تجترّ أي نظرة تفوّقية باسم جنس معين"، وقال: "هذه قيمة أسرية في الأصل، لأن رب الأسرة هو من يقدم هذه الهدية للمرأة، وهذا اعتراف طريف يمكن إعادة إنتاجه اليوم، ولكن بتصورات جديدة مبنية على التفاهم، وأن يكون الأمر متبادلاً". وسجل المتحدث استحالة أن "يختفي هذا الفعل في إطار مجتمعات التحديث، لأن القيم الاجتماعية لا تضمحل بصفة نهائية. قد نعتقد أنها تلاشت وذهبت بلا رجعة، لكنها تواصل ممارسة مفعولها في لا وعينا لتستيقظ كل مرة. خذ مثلاً قيمة العذرية وغيرها، فهي تعود وتحضر بأشكال جديدة كلّما اقتضت الضرورة ذلك"، وختم بأن "مبدأ حق الملح لا يمكن النظر إليه من وجهة نظر حقوقية خالصة، وإلا كنا أمام رد فعل انفعالي، فما تجذّر لا يمكن أن يُمحى دفعة واحدة".