شهدت فئة المتصرفين والمتصرفات بمختلف القطاعات الوزارية والجماعات الترابية والمؤسسات العمومية والغرف المهنية في المغرب تصعيدًا نضاليًا، تمثل في إضراب وطني يوم الخميس 27 فبراير 2025، مترافقًا مع وقفة احتجاجية أمام وزارة الانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة على الساعة الحادية عشرة صباحًا، بالإضافة إلى إطلاق عريضة إلكترونية موجهة للحكومة، تعبيرًا عن رفضهم لما يتعرضون له من تهميش وإجحاف. كما يتضمن برنامجهم النضالي حملة إعلامية مكثفة خلال شهر مارس/رمضان تحت شعار "أنا متصرف(ة)، أنا أحتج"، يليه تنظيم ندوة صحفية في الأسبوع الأول من أبريل، ثم خوض إضراب وطني آخر يوم 10 أبريل 2025، مع وقفة احتجاجية مركزية أمام البرلمان. وسيختتم المتصرفون تصعيدهم بمسيرة وطنية حاشدة يوم السبت 19 أبريل 2025، تليها خطوة تصعيدية أكثر حدة تتمثل في اعتصام لأعضاء المكتب التنفيذي مرفق بإضراب عن الطعام، سيتم تحديد تاريخه لاحقًا. وفي ظل ما وصفه المتصرفون بالاستهداف الممنهج لحقوقهم وكرامتهم، دعا الاتحاد الوطني للمتصرفين المغاربة مختلف التنظيمات النقابية والحقوقية والمؤسسات الدستورية والأحزاب السياسية ووسائل الإعلام إلى دعم نضالاتهم والوقوف إلى جانبهم في مواجهة السياسات الحكومية التي تعمق معاناتهم، مؤكدين على ضرورة التمسك بمبدأ "الكرامة أولًا" والاستعداد لخوض جميع الأشكال الاحتجاجية لتحقيق مطالبهم العادلة. كما شدد الاتحاد على أن الوضع الحالي للوظيفة العمومية في المغرب وصل إلى مستوى غير مسبوق من التخبط والارتجالية، ما أدى إلى تراجع الحافزية لدى المتصرفين الذين يتحملون مسؤوليات كبيرة في تسيير الشأن الإداري وضمان استمرارية المرفق العام. وعلى الرغم من التقارير الرسمية التي شخصت أزمة الوظيفة العمومية، فإن الحكومة، عوضًا عن البحث عن حلول عادلة، اختارت تكريس التمييز عبر أنظمة أساسية غير منصفة، مما يزيد من تعميق الأزمة. وفي هذا السياق، يطرح التساؤل حول الإجراءات التي يتعين اتخاذها لإنصاف المتصرفين، وضمان العدالة الأجرية، وتحقيق المساواة بينهم وبين الفئات المماثلة من حيث المهام والتكوين. كما يظل التساؤل قائمًا حول مدى استعداد الحكومة لمراجعة النظام الأساسي لهذه الفئة والاستجابة لمطالبها المشروعة، خصوصًا في ما يتعلق بتحسين الأجور، مراجعة نظام الترقي، وإدماج حاملي شهادة الدكتوراه. ومن خلال هذه المقالة، سنحاول تسليط الضوء على هذه الإشكالات، مستعرضين واقع المتصرف بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، مع تحليل الأفق الممكن لتحقيق الإنصاف لهذه الفئة الحيوية في الإدارة المغربية، وذلك عبر المحاور التالية: المحور الأول: دور المتصرفين في الوظيفة العمومية المغربية يُعدّ المتصرفون ركيزة أساسية في الإدارة العمومية المغربية، حيث يضطلعون بمسؤوليات جوهرية تشمل الجوانب الإدارية والمالية والتقنية داخل المؤسسات الحكومية. وفقًا للمادة 3 من المرسوم رقم 2.06.377 الصادر بتاريخ 29 أكتوبر 2010، تتجلى مهام المتصرفين في التأطير والإدارة والاستشارة والمراقبة داخل الإدارات العمومية ومصالحها اللامركزية. وتحت إشراف رؤسائهم المباشرين، يباشر المتصرفون مهام متعددة، من بينها: – تصميم وتنفيذ وتقييم السياسات العمومية لضمان تحقيق الأهداف التنموية. – تنشيط وتأطير وتنسيق المصالح الإدارية بهدف تحسين أدائها وتعزيز قدراتها التدبيرية. – إعداد البرامج والمخططات التنموية القطاعية التي تواكب التحولات الاقتصادية والاجتماعية. – تأطير الموظفين وتدريبهم وإعادة تأهيلهم بما يضمن تحسين كفاءتهم ورفع مردوديتهم. وعلى الرغم من الدور الحيوي الذي يضطلع به المتصرفون في تسيير الشأن العام، إلا أنهم يواجهون تحديات عديدة، أبرزها غياب العدالة الأجرية، حيث تعاني هذه الفئة من تفاوتات كبيرة في الرواتب مقارنة بفئات أخرى داخل الوظيفة العمومية وتهدف هذه الدراسة إلى تحليل الأسباب الكامنة وراء هذه الاختلالات، واقتراح حلول عملية لإصلاح النظام الأجري بما يحقق مبدأ العدالة الاجتماعية. ورغم الوعود المتكررة، لا تزال مطالب المتصرفين عالقة دون استجابة حقيقية، في الوقت الذي استفادت فيه فئات أخرى، مثل موظفي وزارة العدل، من إصلاحات جوهرية شملت تحسين أوضاعهم المالية والإدارية. المفارقة تكمن في أن موظفًا حديث التعيين في بعض القطاعات يتقاضى راتبًا يفوق بأكثر من الضعف ما يتقاضاه رئيس مصلحة بخبرة تتجاوز تسع سنوات في وزارة أخرى. يتناقض هذا الواقع مع مبدأ المساواة الذي ينص عليه النظام الأساسي للوظيفة العمومية، مما يعكس وجود اختلالات جوهرية في تدبير الموارد البشرية داخل الدولة. وعلى مر السنوات، لم تُبدِ الحكومات المتعاقبة اهتمامًا جادًا بمعالجة هذا الملف، بل إن بعض المسؤولين لجؤوا إلى التقليل من أهمية دور المتصرفين عبر تصريحات غير منصفة، في حين تم التعامل مع فئات أخرى بمرونة وسخاء غير مبررين، مدفوعين باعتبارات سياسية أكثر من كونها تدبيرية. وفي ظل هذا الواقع، تم طرح مشروع إصلاحي يهدف إلى توحيد الأنظمة الأساسية لموظفي الدولة، إلا أن تطبيقه كشف عن استثناءات صبت في مصلحة فئات معينة، بينما ظل المتصرفون في هامش الإصلاحات، مما يعزز الشعور بالتمييز واللامساواة داخل الوظيفة العمومية. المحور الثاني: إشكالية العدالة الأجرية للمتصرفين في المغرب 1- بعض مظاهر غياب العدالة الأجرية يعاني المتصرفون في مختلف الوزارات والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية من تمييز واضح على المستوى الإداري والمالي، نتيجة سياسة انتقائية تكرس الفجوة بين الفئات المهنية داخل الوظيفة العمومية. فرغم دورهم المحوري في تسيير الشأن العام وضمان استمرارية المرافق العمومية، لا تزال هذه الفئة تواجه تهميشًا في الحقوق الأجرية مقارنة بفئات أخرى ذات مهام مماثلة. وعلى الرغم من أن النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية ينص على مبدأ المساواة بين الموظفين، إلا أن التطبيق الفعلي لهذا المبدأ لا يزال بعيدًا، خاصة في ما يتعلق بالأجور والترقيات. إذ لم يخصص هذا النظام سوى فصل واحد لموضوع الأجور، دون أن يتضمن أي مقتضيات واضحة لضمان الإنصاف بين مختلف الفئات. وقد أدى ذلك إلى تفاوتات صارخة في الأجور بين المتصرفين وفئات أخرى تعمل جنبًا إلى جنب داخل الإدارة المغربية. – الفجوات الأجرية والتفاوتات المهنية: تجسد الفوارق الأجرية الظلم الواقع على المتصرفين؛ حيث أن الفرق بين أجر المهندس وزميله المتصرف أصبح يصل إلى 6000 درهم، بعدما لم يكن يتجاوز 300 درهم سابقًا. فعلى سبيل المثال، يتقاضى متصرف من الدرجة الأولى برقم استدلالي 704 أجرة صافية تبلغ 13,107.49 درهما، بينما يتقاضى مهندس رئيس بنفس الرقم الاستدلالي 14,073.30 درهما، في حين يصل راتب المنتدب القضائي إلى 16,039.13 درهما. ورغم أن الحكومة قامت بتحسين أجور عدة فئات وظيفية، إلا أن المتصرفين لم يستفيدوا من أي مراجعة منصفة لأجورهم. وعلى مدى العشرين سنة الماضية، شهدت فئات عدة زيادات كبيرة في الأجور، مثل كتاب الضبط الذين حصلوا على زيادة بنسبة 37%، ورجال الأمن الذين استفادوا من زيادات وصلت إلى 100%. بالمقابل، لا تزال أجور المتصرفين من بين الأدنى، رغم مؤهلاتهم العلمية وتكوينهم العالي. ولقد عبر الاتحاد الوطني للمتصرفين المغاربة في الآونة الأخيرة، عن" خيبة أمله وأسفه" جراء استمرار الحكومة في تبخيس وتفقير هيئة المتصرفين، مؤكدا أن فئتهم تعرضت لظلم شديد على المستوى الأجري والمهني لأكثر من 20 سنة، على خلاف أغلب الفئات التي استفادت من مراجعة أنظمتها الأساسية وأجورها. واعتبر الاتحاد الوطني للمتصرفين المغاربة، أن الزيادة العامة في الأجور بقيمة 1000 درهم لا ولن تحقق المساواة والعدالة الأجرية للمتصرفات والمتصرفين بل ستزيد من تعميق الفوارق الأجرية ما دامت هي أقل مما تم إقراره لفئات أخرى، وستجعل هيئة المتصرفين تتذيل، بشكل مطلق وصارخ، منظومة الأجور بالوظيفة العمومية. – إشكالية الترقية والتقدم المهني تعاني فئة المتصرفين من محدودية آفاق الترقية، حيث يقتصر نظام الترقية لديهم على ثلاث درجات فقط، بينما تستفيد فئات أخرى من عدد أكبر من الترقيات. فعلى سبيل المثال، يمكن للمنتدب القضائي من الدرجة الثالثة أن يترقى أربع مرات خلال مساره المهني، في حين أن المتصرف من الدرجة الثالثة لا يمكنه الترقية سوى ثلاث مرات. كما أن نسبة الحصيص المخصصة للترقية إلى متصرف من الدرجة الثانية عبر الامتحان المهني تبلغ 13% فقط، مقارنة ب 18% بالنسبة للمنتدبين القضائيين. – إشكالية تجميع الأنظمة الأساسية: في إطار إصلاح الوظيفة العمومية، تم إقرار مرسوم سنة 2010 المتعلق بهيئة المتصرفين المشتركة بين الوزارات، والذي دمج عدة فئات وظيفية في إطار واحد. ورغم أن هذا الإجراء كان يهدف إلى توحيد الأنظمة الأساسية، إلا أنه أفرز عدة إشكاليات، من بينها عدم إدماج متصرفي وزارة الداخلية، رغم قيامهم بنفس المهام المسندة للمتصرفين الآخرين. كما لم يشمل الإدماج فئات أخرى مكافئة للمتصرفين من حيث الشهادات والتكوين، مثل أطر كتابة الضبط، مما أدى إلى تعميق التفاوتات داخل الإدارة. 2- المطالب والحلول المقترحة يرى الاتحاد الوطني للمتصرفين المغاربة أن الحل يكمن في تبني إصلاح شامل لمنظومة الأجور والترقيات، بما يضمن المساواة بين الفئات ذات المهام والمستويات التكوينية المتشابهة. ويشدد الاتحاد على ضرورة: – توحيد نظام الأجور ليشمل جميع الفئات المتشابهة في التكوين والمؤهلات. – إقرار نظام ترقي عادل يراعي استحقاقات المتصرفين ويوازي الأنظمة المعتمدة لفئات أخرى. – إدماج جميع المتصرفين ضمن هيئة موحدة دون استثناء، بما يعزز مبدأ تكافؤ الفرص. – إشراك المتصرفين في الحوار الاجتماعي لضمان تمثيل عادل لمطالبهم وتحقيق إنصافهم المهني. إن استمرار تجاهل مطالب المتصرفين يعمّق أزمة الوظيفة العمومية ويؤثر سلبًا على جودة الخدمات الإدارية، مما يستدعي مراجعة جذرية للسياسات الحكومية في هذا المجال بما يتماشى مع مبادئ الإنصاف وتكافؤ الفرص المنصوص عليها في الدستور. خاتمة وتأسيسا على ما ورد ذكره، يشكل المتصرفون في المغرب عنصرًا محوريًا في الإدارة العمومية، حيث يضطلعون بأدوار أساسية في تنفيذ السياسات العامة وتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ومع ذلك، فإن التفاوتات الأجرية التي تواجهها هذه الفئة تطرح إشكالية جوهرية تستدعي معالجة شاملة ضمن إطار إصلاحي يرتكز على مبادئ العدالة وتكافؤ الفرص. لذلك، يتطلب تحسين وضعية المتصرفين تبني سياسات واضحة وفعالة تقوم على تعزيز الشفافية في تدبير الموارد البشرية، وإرساء آليات عادلة لتحديد الأجور والترقيات، بما يضمن تحفيز الكفاءات وضمان استدامة الأداء الإداري. إن معالجة هذه التحديات من شأنها تعزيز دور المتصرفين في تحقيق الأهداف الاستراتيجية للدولة، بما يخدم المصلحة العامة ويساهم في بناء إدارة حديثة وفعالة.