لم يكن الثاني عشر من ربيع الأول يومًا كسائر الأيام، بل كان وعدًا أزليًّا بانبثاق النور من قلب العتمة، وابتداء تاريخ لا يكتبه الناس، بل يُمليه الله على صحائف الوجود. لم يُولد في ذاك اليوم طفل كسائر الأطفال، بل وُلد محمد بن عبد الله، وفيه وُلدت أمة، وانبعثت رسالة، واستؤنفت حركة التاريخ على غير ما كانت تعرفه البشرية من قبل. كان مولده بشارة، لا لأمّه آمنة وحدها، بل للإنسانية كلها؛ إذ أُذِن لها أن تبدأ من جديد: من النور، من الرحمة، من محمد. وها نحن اليوم نطلّ على ذكرى المولد الشريف كإشراقة متجددة، تحمل في طيّاتها سرّ البعثة، وعظمة الرسالة، وروعة التجربة النبوية في صياغة الإنسان الحر، وتنقية الروح من علائق الأرض، وإرساء معالم حضارة تؤمن أن السماء لا تُغلق، وأن النبوة ما وُجدت لتكون ذكرى، بل لتكون نبراسًا، وهدايةً، ودربًا لا ينطفئ. الاحتفال بالمولد النبوي فعلٌ إيماني، تتجلّى فيه محبة النبي صلى الله عليه وسلم في أكمل صورها؛ فقد فرح المسلمون الأوائل بقدومه، وعبّروا عن حبهم له كما لم تُحبّ أمة نبيًّا من قبل. ولمّا سُئل عن صيام يوم الإثنين، قال صلى الله عليه وسلم: "ذلك يوم وُلدتُ فيه"، فكانت المناسبة ميلادًا تُشكر فيه النعمة، وتُبعث فيه الهمّة من جديد. وقد منّ الله على المؤمنين إذ بعثه فيهم، وقال لهم: ﴿فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾، أفلا نفرح؟! وهو الرحمة المهداة، والنور المنير، والسراج الذي لا تنطفئ شعاعاته؟ أفلا نفرح؟! وهو الذي كان خُلقه القرآن، ووجهه قبلة القلوب، وسيرته مرآة الكمال البشري في أصفى صوره؟ لقد اتصف – صلى الله عليه وسلم – بجميع مكارم الأخلاق، وجمع الله له من خصال أنبيائه ما جعله إمامهم وخاتمهم: فأخذ من آدم توبته، ومن نوح شكره، ومن إبراهيم وفاءه، ومن إسماعيل صدقه، ومن يعقوب حسن ظنه، ومن يوسف جمال عفّته، ومن أيوب صبره، ومن موسى جَأشه، ومن عيسى صفاء قلبه، ومن داود خشيته، ومن شعيب بيانه، ومن كل نبيّ قبسًا، حتى اكتملت فيه الصورة التي شاء الله أن تكون قدوةً للخلق أجمعين. وفي المغرب، حيث التاريخ يتماهى مع التدين، تأخذ هذه الذكرى أبعادًا مركّبة؛ فهي مناسبة دينية، وتعبير سياسي عن ثوابت الأمة، وتجسيد للرباط العقدي بين العرش والأمة، حيث ترعى إمارة المؤمنين هذا الاحتفاء، كما ترعى كلَّ ما يحفظ هوية المغاربة العقدية، والمذهبية، والروحية، في تناغمٍ نادرٍ بين الدولة والدين. لقد ارتبطت هذه الذكرى في المخيال الجمعي المغربي بالزوايا، والمساجد، والمجالس العلمية؛ حيث تتلو الحناجر "الشفا"، وتترنّم ب "البُردة"، وتُبعث سيرة النبي على منابر الحب والتربية. وليس هذا ترفًا شعبيًّا، بل امتدادٌ لروح التدين المغربي الوسيط، الذي يُعلي من شأن المحبة، ويُربّي على الجمال، ويجعل من الذكرى تربيةً للقلوب قبل أن تكون زينةً للمظاهر. ومن أراد أن يُطفئ هذا النور بحجج "البدعة" الضيقة، فقد جهل أن الحبّ من جوهر الدين، وأن التعبير عن المحبة، متى خلا من المحرَّم، فهو إلى السنّة أقرب منه إلى البدعة. إن الوسائل تبقى خادمةً للمقاصد، ومتى كانت المقاصد تعظيم النبي واتباعه، فقد أدركت الطريق، وسلكت سواء السبيل. وفي زمن تيه القيم، وغربة المعنى، وانهيار المرجعيات، تأتي ذكرى المولد كصرخة في براري المادية، تقول للناس: إن الإنسان لا يُختصر في جسده، وإن روحه لا تُشبع بالآلة، وإن رسالات السماء لم تُرسل عبثًا، وإن محمدًا صلى الله عليه وسلم ما جاء ليكون نبيّ قوم، بل نبيّ الإنسان في كل زمان ومكان. لقد آن لنا أن نعود إلى سيرته، لا بوصفها أخبارًا تُروى، بل بوصفها منهجًا يُتّبع، وأن نُحيي ذكراه، لا بحفلات موسمية، بل بإحياء القيم التي جاء بها: الرحمة، والعدل، والصدق، والأمانة، والعفّة، والكرامة. وفي زمن يُعاد فيه تشكيل العقول، وتُمسخ فيه الفطرة، ويُستخف فيه بالمقدّسات، يُصبح الاحتفاء بالنبي فعلًا من أفعال المقاومة الثقافية، ومظهرًا من مظاهر الصمود الأخلاقي، ومجالًا لاستعادة الذات في أبهى تجلياتها. وإذا كان للاحتفال بالمولد من معنى، فهو هذا: أن نُعيده حيًّا في بيوتنا، ومؤسساتنا، وقلوبنا، ومناهجنا. أن نجعل من محبته جسدًا ينبض في سلوكنا، لا نشيدًا يعلو في مناسباتنا. فطوبى لمن صدق في محبته، وأحسن في اتباعه، واحتفل به في قلبه قبل لسانه، وفي خُلقه قبل قوله، وفي فعله قبل شعاره. وقد وصف الله نبيّه في كتابه الكريم بوصف، لو سمعته البشرية وأبصرت معناه، لكفاها عن كل وصف: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.