الفلسفة الفرنسية في الميزان حرّك فيّ مقالٌ بعثه إليّ صديقي حمدي مليكة، مدير مجلة المخاطبات التونسية، الذي شرّفني بعضوية هيئة تحريرها، هاجسي الذي يبلغ حدّ الهوس بالتبرّم من الثقافة الفرنسية، خاصة في جانبها الفلسفي. المقال الذي بعثه إليّ الصديق حمدي مليكة، والتمس مني ترجمته للعدد الخاص من المجلة، هو عبارة عن رأي حول جاك بوفريس، الذي سيتم الاحتفاء بذكرى وفاته في المجلة. وهو لصاحبه، مهتمّ يدعى سيدريك مورييس. قمت بترجمته وبعثه إلى صديقي كمساهمة في هذا العدد الاحتفائي. جاك بوفريس، كما يعلم المهتمون، هو أهم شارح في فرنسا لفكر الفيلسوف الإنجليزي النمساوي الأصل لودفيغ فيتجنشتاين، وأهم مروّج لفكره باللغة الفرنسية، إلا أن حجم ما كتبه عنه أكثر مما كتب فيتجنشتاين نفسه. فكتابه «وهم السريرة» (Le Mythe de l'intériorité) – إذا صحّت هذه الترجدة – أكبر حجمًا من أي كتاب كتبه فيتجنشتاين. وهذه التسمية، بالمناسبة، شبيهة بتسمية سبقه إليها الفيلسوف الأمريكي كواين، حين أطلق على الدلالة اسم Le mythe de la signification. وهذا ما يثير عندي نوعًا من الاشمئزاز من تقليد الفرنسيين لعناوين كتب فلسفية سبقتهم، ويتبنّونها كما لو كانت لهم. هذا على الأقل ما يُخيّل إلي، أو أن مجرّد الكراهية التي تكونت لدي تجاه الفلسفة الفرنسية هي ما يدفعني إلى هذه الكراهية، التي قد تكون عمياء وغير مبررة. أما أسلوب كتابته (بوفريس) ففيه الكثير من الحشو والزيادات، وإضفاء الطابع الفرنسي على كل ما يتم التعرّض له، شأنه في ذلك شأن كل الكتّاب الفرنسيين، خاصة الفلاسفة منهم. هذا على الأقل ما لمسته من خلال الاطّلاع على الصفحات الأولى من كتابه «قوة القاعدة» (La Force de la Règle)، الذي يتناول شرح مفهوم القاعدة عند فيتجنشتاين كما جاءت في كتاب «بحوث فلسفية». مقال المقدّمة الذي ساهمت به في العدد الخاص عن بوفريس يتحدث عن تفرده داخل الحقل الفلسفي الفرنسي، ويشير إلى الطابع الأدبي للفلسفة الفرنسية، وهو الطابع الذي يؤاخذه كاتب المقدمة عليها، في تمييزه لفلسفة بوفريس عن الطابع العام للفلسفة الفرنسية. وهذا ما ذكّرني بهذا المأخذ الذي آخذه في نفسي عليها دومًا. وهذه الخاصية الأدبية التي تميز الفلسفة الفرنسية، سواء الحديثة أو المعاصرة. وعلى سبيل التمثيل لا الحصر، فإن الفرنسيين يعتبرون مونتين فيلسوفًا، وسارتر فيلسوفًا، رغم أنه كان متوزعًا بين الأدب والمسرح، وربما الكتاب الوحيد الذي أعرفه له في الفلسفة هو «الوجود والعدم»، وعنوانه، مرة أخرى، شبيه بعنوان الكتاب الشهير لهايدغر «الوجود والزمان». وهناك من يعتبر أيضًا ألبير كامو فيلسوفًا، مع أندريه مالرو. ولا ننسى الطابع الأدبي لعدد من الفلاسفة، وعلى الخصوص جيل دولوز. وأُحيل هنا إلى مقالة مميزة لألان باديو: Alain Badiou PHILOSOPHIE FRANÇAISE CONTEMPORAINE — التي يشير فيها إلى هذه الخاصية التي ميزت – حسب عنوان مقاله – الفلسفة الفرنسية في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث رأى أنها تقع في منتصف الطريق بين الفلسفة والأدب. وهذه الخاصية كثيرًا ما تثير اشمئزاز عدد من المشتغلين بالفلسفة، حول مدى الطابع الفلسفي حقًا لهذه الفلسفة، وهل يمكن الاعتداد بها كفلسفة على هذا النحو؟ والتي لا يكف بوفريس نفسه عن الإشارة إلى العمل الشهير لكل من جيل دولوز وفليكس غاتاري، الذي انتقدا فيه "المناطقة" بوصفهم أعداءً للفلسفة، وأنهم فقط مدفوعون بكراهيتهم لها. موقف دولوز هذا، مع غاتاري، يكرّس ذلك الطابع التأملي للفلسفة الفرنسية، التي تريد أن تكون بلا ضفاف، تتحدث عن كل شيء ولا تتحدث عن أي شيء. وإلا، فما الذي يبرّر عداوتهما للمنطق؟ أليس المنطق سندًا للفلسفة وللتفكير بشكل عام؟ ألا يمنحنا المنطق، الذي تتسلّح به الفلسفة التحليلية وتسلّحت به قبلها الوضعية المنطقية، ما يعطيها قوتها ويجعل موضوعها ومنهجها محدّدين؟ وإلا، إذا ما تتبعنا كراهية دولوز للمنطق في الفلسفة، فكيف يمكننا أن نتفلسف بالقفز على مبدأ الهوية؟ وكيف نستطيع أن نقول إن الشيء موجود وغير موجود في الآن نفسه، فقط بإطلاق العنان لخيالنا، وإحلال المجاز محل التوافق، أو محاولة التوفيق بين الدال والمدلول، والاسم والمسمّى؟ من صدف هذه الدوّامة، أنني رميت يدي بالصدفة على كتاب بيار جاكوب: «التجريبية المنطقية» (L'empirisme logique)، الذي سبق أن اشتغلت عليه ونسيت الكثير من تفاصيله، فإذا بي أصطدم بأول كلمة في مقدمة الكتاب: أن الفرنسيين لا يحبون الفلسفة التحليلية. الفلسفة التحليلية بكل ما تحمله من معاني الصرامة المرتبطة بالعلم، وباللغة، وبالمنطق. ويقوم بيار جاكوب، وهو يقدم لهذا الكتاب، بنفس النقد الذي في خاطري، مستعرضًا هذه الخصوصية للفلسفة الفرنسية، التي تهرب من كل ما هو صارم ومقيِّد، ليس للفكر والتفلسف كما يدّعون، ولكن للخيال وخلط القول الأدبي بالقول الفلسفي، خاصة الجانب التأملي الميتافيزيقي فيه كما عند هيغل وهايدغر ونيتشه والذين هم بالمناسبة متفوقيهم فيه. ويبدو الفرنسيون مقلدون أمامهم ضغارًا باهتين. نفس الصدفة لاقتني وأنا أشتغل على كتاب ريكور «خمس مقالات هيرمينوطيقية» (Cinq Études Herméneutiques)، الذي جاء في تقديم جان-بيار تيتاز له نفس التصور، الذي يعطي للفلسفة، كما عند ريكور وغيره من الفلاسفة الفرنسيين، عن طريق الهيرمينوطيقا، نفسًا ووسيلة تحرّر من صرامة التفكير الفلسفي التحليلي، للاختباء وراء تفكير تأويلي يفهم العالم عكس الطريقة التي يفهمه بها العلم أو التي فهمته بها الفلسفة التحليلية، التي يشير فيها إلى فيتجنشتاين، حيث يعطي ريكور لنفسه، ليس فقط حق فهم العالم من خلال التأويل، بل حق إعادة تشكيله من خلال النص، كما يقول. ينضاف إلى هذا الشعور شعورٌ آخر، ليس بتملّك الفكر الفرنسي للفكر الألماني، كما يقول ألان باديو، ولكن بالسطو عليه ونسبه إلى نفسه، وخلط أفكاره بما يُظنّ للقارئ أنها من ابتكاره، بينما تترك في النفس إحساسًا بالسطو على هذا الفكر الذي طالما جعل منا، نحن قرّاء الفلسفة والفكر والنقد الأدبي الفرنسي المتولد عن المنهج البنيوي وعلوم اللسان، نعتقد أن هذا الفكر فكر عظيم، بينما ما يقوله هو لغيره – سواء الفلاسفة الألمان أو الأنغلوساكسونيين أو علماء اللسان (دي سوسور، جاكبسون وغيرهما) – الذين ليسوا فرنسيين. هذه خواطر جالت، وما زالت تجول في نفسي إلى حد المرض. أرجو أن أشفى منها نهائيًا، إما بالقطع مع هذا النمط من الفلسفة الفرنسية (وهو الغالب)، وإما الاعتراف له باستحقاقه. ويبدو أن انخراطي أكثر فأكثر في الفلسفة الألمانية من كانط حتى فريغه، والأنغلوساكسونية في شكلها المعاصر، ابتداءً من جورج مور ومرورًا برسل إلى براندوم الأمريكي، لم يزدني إلا ابتعادًا عن نمط الفكر الفلسفي الفرنسي هذا، الذي يثير قلقي. نقد ذاتي: هل تحكمت في عواطفي وفي غضبي الفلسفي وأنا أكتب هذه الارتسامات؟ سيقول ناقد نزيه واعترف أنا بذلك ما يلي: نبرة الاستياء واضحة جدًا في كثير من الأسطر، وأحيانًا تطغى على التحليل النقدي. لو خففت من حدتها قليلاً، ستحقق وقعًا أقوى لأنك ستبدو ناقدًا لا ناقمًا.