بعد خيباته المتراكمة .. النظام الجزائري يفتح جبهة جديدة ضد الإمارات    في خطوة رمزية خاصة .. الRNI يطلق مسار الإنجازات من الداخلة    وداعاً لكلمة المرور.. مايكروسوفت تغيّر القواعد    برشلونة يهزم بلد الوليد    منتخب "U20" يستعد لهزم نيجيريا    العثور على ستيني جثة هامدة داخل خزان مائي بإقليم شفشاون    إسرائيل تستدعي آلاف جنود الاحتياط استعدادا لتوسيع هجومها في قطاع غزة    من الداخلة.. أوجار: وحدة التراب الوطني أولوية لا تقبل المساومة والمغرب يقترب من الحسم النهائي لقضية الصحراء    الوداد يظفر بالكلاسيكو أمام الجيش    جلالة الملك يواسي أسرة المرحوم الفنان محمد الشوبي    الناظور.. توقيف شخص متورط في الاتجار في المخدرات وارتكاب حادثة سير مميتة وتسهيل فرار مبحوث عنه من سيارة إسعاف    حقيقة "اختفاء" تلميذين بالبيضاء    مقتضيات قانونية تحظر القتل غير المبرر للحيوانات الضالة في المغرب    البكاري: تطور الحقوق والحريات بالمغرب دائما مهدد لأن بنية النظام السياسية "قمعية"    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    أمسية احتفائية بالشاعر عبد الله زريقة    نزهة الوافي غاضبة من ابن كيران: لا يليق برئيس حكومة سابق التهكم على الرئيس الفرنسي    52 ألفا و495 شهيدا في قطاع غزة حصيلة الإبادة الإسرائيلية منذ بدء الحرب    تقرير: المغرب يحتل المرتبة 63 عالميا في جاهزية البنيات المعرفية وسط تحديات تشريعية وصناعية    قطب تكنولوجي جديد بالدار البيضاء    الموت يفجع الفنانة اللبنانية كارول سماحة بوفاة زوجها    تفاصيل زيارة الأميرة للا أسماء لجامعة غالوديت وترؤسها لحفل توقيع مذكرة تفاهم بين مؤسسة للا أسماء وغالوديت    المغرب يبدأ تصنيع وتجميع هياكل طائراته F-16 في الدار البيضاء    ابنة الناظور حنان الخضر تعود بعد سنوات من الغياب.. وتمسح ماضيها من إنستغرام    حادث مروع في ألمانيا.. ثمانية جرحى بعد دهس جماعي وسط المدينة    العد التنازلي بدأ .. سعد لمجرد في مواجهة مصيره مجددا أمام القضاء الفرنسي    توقيف شخص وحجز 4 أطنان و328 كلغ من مخدر الشيرا بأكادير    توقعات أحوال الطقس اليوم السبت    مجموعة أكديطال تعلن عن نجاح أول جراحة عن بُعد (تيليجراحة) في المغرب بين اثنين من مؤسساتها في الدار البيضاء والعيون    الملك: الراحل الشوبي ممثل مقتدر    وصول 17 مهاجراً إلى إسبانيا على متن "فانتوم" انطلق من سواحل الحسيمة    كلية العلوم والتقنيات بالحسيمة تحتضن أول مؤتمر دولي حول الطاقات المتجددة والبيئة    الإمارات وعبث النظام الجزائري: من يصنع القرار ومن يختبئ خلف الشعارات؟    العصبة تفرج عن برنامج الجولة ما قبل الأخيرة من البطولة الاحترافبة وسط صراع محتدم على البقاء    إسرائيل تعيد رسم خطوط الاشتباك في سوريا .. ومخاوف من تصعيد مقصود    تونس: محكمة الإرهاب تصدر حكما بالسجن 34 سنة بحق رئيس الحكومة الأسبق علي العريض    الملك محمد السادس يبارك عيد بولندا    كازاخستان تستأنف تصدير القمح إلى المغرب لأول مرة منذ عام 2008    بيزيد يسائل كاتبة الدولة المكلفة بالصيد البحري حول وضعية مهني قوارب الصيد التقليدي بالجديدة    الإقبال على ماراثون "لندن 2026" يعد بمنافسة مليونية    منحة مالية للاعبي الجيش الملكي مقابل الفوز على الوداد    الداخلة-وادي الذهب: البواري يتفقد مدى تقدم مشاريع كبرى للتنمية الفلاحية والبحرية    أصيلة تسعى إلى الانضمام لشبكة المدن المبدعة لليونسكو    اللحوم المستوردة في المغرب : هل تنجح المنافسة الأجنبية في خفض الأسعار؟    الكوكب يسعى لوقف نزيف النقاط أمام "الكاك"    غوارديولا: سآخذ قسطًا من الراحة بعد نهاية عقدي مع مانشستر سيتي    الفنان محمد الشوبي في ذمة الله    الصحة العالمية تحذر من تراجع التمويل الصحي عالميا    دراسة: هذه الأطعمة تزيد خطر الوفاة المبكرة    دراسة: مادة كيمياوية تُستخدم في صناعة البلاستيك قتلت 365 ألف شخص حول العالم    "موازين" يعلن جديد الدورة العشرين    وفاة الممثل المغربي محمد الشوبي    القهوة تساعد كبار السن في الحفاظ على قوة عضلاتهم (دراسة)    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التشريع المالي بين الحكومة والبرلمان
نشر في هسبريس يوم 26 - 01 - 2010

تعد مهمة التشريع والمراقبة، ميزتان أساسيتان للعمل البرلماني، فالأولى تهدف إلى سن القوانين من طرف ممثلي الشعب والثانية مراقبة العمل الحكومي. لكن مع بزوغ ما يعرف "بالعقلنة البرلمانية" ، التي كرسها دستور 1958 الفرنسي ، تراجع دور الجمعيات البرلمانية على مستوى وظيفتي التشريع والمراقبة ، مقابل ترامي الحكومة على هاتين الوظيفتين .
من منطلق أن السياسات العامة المالية، تمثل الدعامة المركزية لنشاط الدولة ، لكونها ترسم التوجهات الاقتصادية والمالية الكبرى للبلاد . وذلك من خلال قانون المالية الذي يحدد طبيعة ومبلغ الموارد والتكاليف التي تؤهل الدولة لتحقيق التوازن الاقتصادي والمالي.
على هذا الأساس أصبح قانون المالية حكرا على الحكومة، تتولى صياغته ثم الموافقة عليه في المجلس الوزاري. وبعد ذلك تقوم بعرضه على مجلسي البرلمان، فتتاح لحظتها لممثلي الأمة إمكانية إدخال بعض التعديلات على بنوده.
وعليه يمكن القول إن انفراد السلطة التنفيذية بهذه المبادرة في مجال التشريع المالي ، عادة ما يبرر بقدرتها على مراعاة الأهداف الاقتصادية والاجتماعية الكبرى ، لكونها تملك الخبرة والقدرة ، وبالتالي الفعالية على إنجاز الدراسات وتنفيذ السياسات ، ومن هنا تبرز ضرورة سنها للتشريعات، هذا من جهة . ومن جهة ثانية قد تصنف الحكومات كامتداد للبرلمانات ، على الأقل في الدول الديمقراطية . أما في الدول النامية فالأمر يختلف ،ذلك أن عوامل متعددة ومتداخلة تحايث هذه العملية وتفضي بها الى المرور عبر الجهاز التشريعي بسلام ، كما ارادت لها الحكومة ، باعتبارها صاحبة المبادرة رغم تمتع البرلمان بعدة صلاحيات تؤهله للتأثير في طبيعة هذا المشروع . لكن يبقى السؤال المطروح: ما السبب الذي يجعل البرلمان بمجلسيه لا يوظف هذه الصلاحيات؟ الحالة المغربية نموذجا.
هذا ما سنحاول ملامسته، من خلال عرض الحيثيات الدستورية التي تدعم المبادرة الحكومية ثم البحث في الأسباب التي تمنع ممثلي الأمة من استعمال الصلاحيات المتاحة لهم لإدخال تعديلات "نوعية" على هذا المشروع، بل ما الذي يمنعهم من الحضور بكثافة لمناقشته،علما أنه لا يمكن أن يصبح قانونا إلا بموافقتهم.
ومادام هذا المشروع يحتل هذه المكانة الهامة سنحاول التركيز على دور الحكومة فيه ، من خلال الصلاحيات الدستورية والسياسية المتوفرة لها ، مستحضرين التجربة الفرنسية ومدى تأثر الدول المغاربية بها، بصفة عامة والمغرب بصفة خاصة.
1 المبادرة الحكومية في مجال التشريع المالي.
إثر انبثاق ما يعرف "بالعقلنة البرلمانية" ، التي عدلت صلاحيات عديدة كانت في الاصل حكرا على الجمعيات النيابية ، برز دور السلطة التنفيذية كشريك أساسي في إنتاج القوانين ، إن لم نقل هي المهيمن على إنتاجها. و نخص في هذا الإطار مشروع قانون المالية ، الذي انفردت أغلب الحكومات في العالم بصياغته ، قبل أن تقوم بعرضه على البرلمان .
فهذا الاختصاص يبدو شيء عادي في الأنظمة الديمقراطية التي تعد فيها الحكومات امتداد للبرلمان. أما في الدول النامية فإن الأمر يختلف ، حيث تغيب المؤسسات الديمقراطية بالشكل الذي أنتجته الحداثة السياسية الأوربية وتختل المشاركة السياسية بفعل انحدارها عن التنافس حول" البرامج" إلى التباري حول قيم التقليد، من قبيل البحث عن الحظوة والمصالح الفردية وتمثل العملية الانتخابية كمورد لكسب المال، توظف اثناءه الزبونية والمحسوبية والرشوة ، من أجل الصعود من تحت إلى فوق ....الخ، وبالتالي "ينعدم" التداول الديمقراطي على الحكم، بمعنى تداول مشاريع سياسية، منبثقة من صناديق الاقتراع.
نتيجة لما تقدم، تتضح طبيعة البيئة السياسية التي تحيط بهذا المشروع، الذي يمثل الرهان الاستراتيجي الهادف إلى تحقيق التوازن المالي والاقتصادي . فمن خلاله يتم تحديد الموارد و التكاليف المتعلقة بالدولة ، وتحسين الشروط المتعلقة بتحصيل المداخيل ثم مراقبة استعمال الأموال العمومية .
وبالعودة إلى التاريخ الفرنسي ، يتضح أن انهيار الجمهورية الرابعة، شكل انهيارا للسلطة المالية للبرلمان، مقابل انتعاش السلطة التنفيذية في هذا المجال،بمبرر توفر الحكومة على إمكانيات تقنية وسياسية تؤهلها لهذا الدور الحيوي،باعتبارها هي وحدها التي تكون على دراية بحاجيات الإدارة والاقتصاد أثناء وضعها للتوقعات . كما أن الميزانية هي وسيلة لتحقيق السياسات العامة، التي تحددها الحكومة المتمتعة قانونيا بحرية كاملة في إعداد المشروع المالي من خلال وزير المالية. ينضاف إلى هذه الصلاحيات الحكومية ، ما نص عليه الفصل 40 من الدستور الفرنسي :« الاقتراحات والتعديلات التي يطرحها أعضاء البرلمان ترفض عندما يؤدي قبولها سواء إلى نقص في الموارد العمومية أو إلى إحداث أو الزيادة في تكليف عمومي » . كما ان هناك ما يعرف بالقيد الزمني الذي يلزم البرلمان بالمصادقة على قانون المالية في ظرف زمني ليتعدى 70 يوما . وفي حالة رفض البرلمان التصويت على هذا المشروع ، يمكن للحكومة فتح اعتمادات بمرسوم من أجل تسيير المرافق العمومية ومؤسسات الدولة ، إلى أن يتم التصويت على المشروع المعروض على أنظار البرلمان .
نخلص إلى أن هذه القيود تشكل امتيازا للحكومة على حساب البرلمان في فرنسا ، إلا أن الأمر يبقى عادي إلى حد ما ، ما دامت الحكومة تعد امتداد للبرلمان ، رغم التحالفات التي قد تتغير داخل الجمعية الوطنية الفرنسية نتيجة لتوازنات الحياة السياسية ومستجداتها( ميتران /شيراك وشيراك /جوسبان ) مثلا.
هذا المعطى يقودنا إلى الدول المغاربية المتأثرة بهذه التجربة، ففي المغرب مثلا نص الفصل 50 من الدستور الحالي على ما يلي: ( يصدر قانون المالية عن البرلمان بالتصويت طبق شروط ينص عليها قانون تنظيمي ) . ورغم ذلك فإن هيمنة الحكومة تتضح من خلال كون نفقات التجهيز التي تعتبر أهم جزء في الميزانية ، بسبب ارتباطها بمستقبل الدولة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية ، والتي تتجاوز صلاحيتها سنة ، لا يصوت عليها البرلمان إلا مرة واحدة وذلك عندما يوافق على نفقات التجهيز ، بحيث إذا استحدثت أمور تستوجب إعادة النظر في مقتضيات القانون المالي المتعلق بنفقات التجهيز ، فإن البرلمان لا يملك هذا الحق ، عكس الحكومة التي يمكن لها إعادة النظر في البرامج المصادق عليها من قبل البرلمان ، وذلك عن طريق تقديم مشاريع قوانين تهدف إلى تعديل نفقات التجهيز . كما لا يجوز للبرلمان حسب المادة 36 من القانون التنظيمي ، عرض الجزء الثاني (النفقات) من المشروع للمناقشة قبل التصويت على الجزء الأول ( المداخيل ) .
من القيود أيضا التي تحد من قدرة البرلمان على التأثير في مشروع قانون المالية ، ما نص عليه الفصل 51 من الدستور المغربي :«إن المقترحات والتعديلات التي يتقدم بها أعضاء البرلمان ترفض إذا كان قبولها يؤدي بالنسبة للقانون المالي إما إلى تخفيض الموارد العمومية وإما إلى إحداث تكليف عمومي أو الزيادة في تكليف موجود» ، وفي نفس السياق اندرج الفصل 05 من القانون التنظيمي للمالية رقم 07 98 التونسي ، الذي حد هو الآخر من مبادرة النواب إذا تعلقت بالحد من المداخيل ، أو بإضافة مصاريف جديدة . أما الدستور الجزائري في مادته 62 و 120 فقد أعطى للبرلمانيين حق إحداث تكليف عمومي ،شريطة إيجاد مورد بديل .
بناء على ما تقدم ، تتضح هيمنة الحكومة على مشروع قانون المالية في الدول المغاربية ، وذلك راجع إلى الضمانات الدستورية والسياسية التي تتوفر عليها الحكومات من جهة ، ومن جهة ثانية إلى التأثر بالنموذج الفرنسي شكلا وليس مضمونا ، أي أن الدول المغاربية أخذت من فرنسا المؤسسات مقابل عدم القدرة على تملك مبادئ الديمقراطية الفرنسية كسلوك وممارسة وثقافة سياسية ، وليست مجرد دساتير أو أجهزة .
مفهوم الثقافة السياسية يقودنا إلى مساءلة السلوك البرلماني، من خلال محاولة تفسير الخفايا المتحكمة في ذهنية "ممثلي الأمة"، والتي قد تقف وراء تزكيتهم للمشاريع الحكومية.
2 السلوك البرلماني : بين ضآلة الضمانات القانونية و تأثير الثقافة السياسية
يمثل البرلمان السلطة التشريعية الموكول لها إعداد القوانين، ومراقبة العمل الحكومي والتعبير عن طموح الشعب وتطلعاته. قد يكون هذا هو المراد، لكن المتاح يبقى شيء أخر، حيث يلمس غياب شبه تام لاختصاص هكذا. فمشروع قانون المالية، الذي تم اعتماده كعينة ، تنفرد الحكومة بإعداده وعرضه على السلطة التشريعية ، التي تبقى تعديلاتها واقتراحاتها ، سواء من خلا ل لجنة المالية أو ممثلي باقي اللجان الدائمة أو النواب ، ذات طابع مراقباتي أكثر منها مبادراتي أو تشريعي .و يمكن تفسير هذا في الحقيقة من خلال كثافة الصلاحيات الدستورية القانونية المتوفرة لدى الحكومة من ناحية ،ومن ناحية أخرى الكيفية التي يتمثل بها النواب "حكومة صاحب الجلالة" أولا والعمل السياسي ثانيا.
فالملاحظ أن جل المشاريع القانونية التي تأتي إلى البرلمان ، تمر مرور الكرام رغم الاختصاص التشريعي والمراقباتي المخول للسلطة التشريعية . لكن قبل أن نتعرض للسلوك البرلماني، سنعرج على بعض الفصول الدستورية، التي تحد بشكل صريح من فعالية العمل البرلماني بالمغرب وهي:
الفصول 45، 50، 51، 55، 56، 57 من الدستور المغربي الحالي:
- الفصل 45 ينص على كون القانون يصدر عن البرلمان بالتصويت عليه، لكن القانون وتماشيا مع هذا الفصل ، يأذن للحكومة أن تتخذ في ظرف من الزمن محدود ولغاية معينة ، بمقتضى مراسيم ، تدابير يختص القانون عادة باتخاذها.
من خلال هذا يتبين أن البرلمان قابل ليتخلى عن سلطته التشريعية للحكومة، علاوة على المصادقة على مشاريعها.
الفصل 50 يفرض هذا الفصل قيدا آخر على البرلمان ، من خلال المدة الممنوحة لفحص وإقرار قانون المالية، والتي تنص على ضرورة تصويت البرلمان على الميزانية في تاريخ أقصاه 31 دجنبر . وفي حالة عدم تنفيذ هذا " الأمر" ، فإن الحكومة تفتح بمرسوم ، الاعتمادات اللازمة لسير المرافق العمومية، على أساس ما هو مقترح في مشروع القانون المالي .
الفصل 51 هذا الفصل يقر من جهة استحالة أي تعديل قد يؤدي إلى تخفيض الموارد العمومية أو إحداث تكليف عمومي أو الزيادة في تكليف موجود ، وبالتالي حرمان المؤسسة التشريعية من دورها في إعداد السياسات العامة ، ويجعلها منحصرة فقط في المناقشة والمتابعة، التي تنحصر أبعادها في مسايرة " الفلسفة" الحكومية في مختلف مبادراتها،هذا في الشق الأول أما في الشق الثاني فيبقى لأعضاء البرلمان الحق في التعديل ما لم يخلوا بالتوازنات المالية ، المحددة من طرف القانون المالي . لكن هذه الإمكانية الضئيلة، تصطدم بالاستعمال " السياسي" لمنطوق الفصل 51 من الدستور، من طرف أعضاء الحكومة. وذلك من خلال حكمهم على كل المبادرات التي يتقدم بها أعضاء البرلمان، بعدم "الشرعية"، بحجة مخالفتها للدستور، وبالتالي يتم تحجيم كل الصلاحيات الدستورية المتاحة للبرلمان بالفصل السالف الذكر، أو لنقول إن الحكومة تقرأ كل الإمكانيات الدستورية المتوفرة للبرلمان من زاوية الفصل 51.
ومن خلال تناول الفصول 55 و56 و 57، تتضح لنا المقتضيات الدستورية التي تستغلها الحكومة، لتقييد "سلطة" البرلمان. فالفصل 55 يسمح للحكومة بأن تشرع بدل البرلمان، في اتخاذ التدابير، التي هي عادة من اختصاص القانون. أما الفصل 56 فيقيد هو الآخر البرلمان، لكونه ينص على ضرورة مناقشة ما حددته الحكومة بالأسبقية، وفق الترتيب الذي تحدده. في حين يعطي الفصل 57 للحكومة صلاحية منع أي تعديل، بذريعة كونه لم يعرض على اللجنة المعنية بالأمر.
أمام هذه الترسانة الدستورية والطريقة " النصية" التي تقرأ بها، يبرز موقع البرلمان الضعيف مقارنة بالحكومة، التي لها وزن سياسي مدعومة بالفصول الدستورية تارة والتنظيمية تارة أخرى. ينضاف إلى هذا العامل ، عامل آخر غاية في الأهمية وهو سلوك البرلمانيين المغاربة ، الشاذ مقارنة بنظرائهم الأوربيين . حيث يسجل عزوفهم عن توظيف الصلاحيات الدستورية المخولة لهم ، كاللجوء مثلا إلى المجلس الدستوري ، في الحالات التي تمس فيها صلاحيتهم من طرف الحكومة . أو التصويت ب"لا" ضد مشاريع هذه الأخيرة.
وهذا يقودنا إلى طرح "السؤال" التالي: لماذا لا يصوت البرلمانيون ضد مشروع قانون المالية أو على الأقل ضد بعض بنوده ؟ هل لكونه يخدم أهدافهم السياسية إذا افترضنا أنهم يعبرون عن مواقع اجتماعية معينة؟ أم أن ذلك ناتج عن ثقافة سياسية تتسم بالخضوع والإذعان ؟.
الكل يجمع أن هناك سلوك مشين لدى البرلمانيين المغاربة ، كظاهرة الترحال أي تغيير القميص السياسي الحزبي والغياب المتكرر عن الجلسات العامة ، وعدم التمكن من النصوص القانونية التي تحدد العمل البرلماني ،حيث أن أغلبهم أمي ، إضافة إلى تفشي "المحسوبية" و"الزبونية" على مستوى علاقاتهم الداخلية.
لتفسير هذا السلوك يمكن الرجوع إلى العوامل التاريخية و الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية و النفسية ( كالتماهي بالمتسلط ومحاولة استغلال النفوذ ، كالتملص الضريبي مثلا الخ ) .
فمصادقة "ممثلي الأمة" على مشروع القانون المالي ، يمكن إرجاعها إلى كون السلطة التنفيذية هي " حكومة جلالة الملك" ، والمشروع لا يعرض أمام أنظار ممثلي الشعب ، إلا بعد مروره بالمجلس الوزاري ، الذي يرأسه الملك . والنخبة البرلمانية لا يمكن أن تعارض الملك، نظرا لرمزيته في المتخيل الجمعي وللصلاحيات الدستورية التي يتمتع بها، ومن تم لا يمكن أن تعارض أي مشروع تمت المصادقة عليه بحضوره. باعتباره ،أي الملك / السلطان هو الروح بمنطق الآداب السلطانية والحكومة هي حاشيته المنفذة لأوامره، أما الشعب / الرعية فهو الجسد المطيع لهذه الأوامر، وبالتالي لا يمكن أن ننتظر من نواب الرعية، معارضة حاشية الملك . ذلك أن ولي الأمر أدرى بمصالح الرعية من نفسها، وحاشيته هي الوسيط المخلص لتوجيهاته. وما الدور الذي يقوم به مستشاري الملك اليوم، إلا دليل على ذلك.
هذه العلاقة تتضح من خلال استدلال الحكومة بخطب الملك ، محاولة منها لشرعنة ممارستها . فهذا المشهد السياسي تولدت عنه نخبة برلمانية ، راكمت نتيجة لمواقعها الاجتماعية وانتماءاتها السياسية وسيادة أنماط التقرب و التزلف والتملق كأنماط تقليدا نية، هكذا معرفة حول السياسة ورجالاتها في نسق سياسي مغلق ، تراكمت فيه تمثلات وقيم حول الحاكم ، باعتباره سليل البيت النبوي ، ومن تم تعد طاعته من طاعة الله والعكس بالعكس . قد يجوز هذا التفسير من ناحية ، ومن ناحية ثانية يمكن القول إن سبب الطاعة / الإذعان راجع إلى كون الملك / الرئيس هو الموزع الرئيسي للثروة و العطايا والكرامات على الموالين له حسب تمثل أغلب النواب، الذي قد يجانب الصواب في بعض الأحيان. فهذا التصور تكرس في الثقافة السياسية المغربية أثناء مرحلة ما بعد الاستقلال، وذلك أثناء توزيع أراضي المعمرين الفرنسيين،على العديد من المكونات الاجتماعية، التي كانت تنتمي لما اصطلح عليه تاريخيا بقبائل الجيش، التي شكلت عبر التاريخ السياسي المغربي العمود الفقري، لما يسمى بالمخزن . وما استفادت "نواب الأمة" اليوم،من الإعفاءات الضريبية ، والحظوة والعناية الرسمية، إلا تكريس لهذا النمط ، على الأقل في ذهنيات المنتخبين . رغم أن دعاة اقتصاد السوق يقولون بأن تراجع الدور التوزيعي للدولة وصعود المرفق الخاص على حساب المرفق العام،سيساهمان في تغيير الممارسة البرلمانية ، وبالتالي تغيير تمثل المنتخب للعملية برمتها، نتيجة لتضرر النواب من الجمود المرتقب على مستوى دور القطاع العام .
لكن الأزمة الاقتصادية الحالية وما رافقها من مقاربات اقتصادية وسياسية قد تفند هذا التصور، حيث أصبحنا اليوم أمام بوادر جديدة لميمكن أن نسميه " بعودة العام" أو لنقول عودة الدولة.مما سيذكي التنافس على المجالس المنتخبة ويؤبد الحظوة والنفوذ، في فسيفساء اجتماعي وسياسي، تتجاذبه تيارات التحديث "المعاق" وتشده روافد التقليد المبهم.
خلاصة لما ذكر، يمكن القول إن ثقافة الخضوع ، كشكل من أشكال الثقافة السياسية ، هي السائدة في أوساط النخبة البرلمانية بالمغرب، وفي باقي البلدان المغاربية الأخرى . هذا النوع من الثقافة يجد أساسه في العلاقات الأبوية المكرسة في الأسرة، والعشيرة والمدرسة والجامعة والمسجد و الحزب والجمعية والنادي، وبالتالي في التنشئة الاجتماعية والسياسية. والتي من أبرز سماتها:
كون الأفراد / البرلمانيين ، يعرفون أفعال الحكومة / السلطة ، ولديهم مواقف تجاهها ، لكن تبقى هذه المواقف سلبية ، حيث يحترمونها إذا كانت سياساتها لصالحهم ، ويخضعون لها إذا كانت عكس ذلك بل يتماهون معها . وتبقى فكرة وجود عمل فردي أو جماعي، من شأنه التأثير على عمل السلطة / الحكومة، هي فكرة غريبة عن هذا النوع من النخب، التي عادة ما تعمل بمقولة "الله ينصر من صبح " ليس بمعنى الحاكم ولكن بمعنى السياسات المنتهجة، مادام التقدم إلى الانتخابات يمثل سبيلا للاغتناء والنفوذ في نظر أغلب البرلمانيين.
هذه النتيجة يدعمها عدم استغلال البرلمانيين للصلاحيات الدستورية المتوفرة لهم ، كالتصويت ضد المشاريع الحكومية ، أو على الأقل السعي إلى تعديل بعض بنودها أو المطالبة بتعديل دستوري مثلا . علاوة على الغياب عن الجلسات العامة ، من منطلق أن كل شيء سيسير وفق التوجيهات العليا ؟؟؟.
*باحث بسلك الدكتوراه وحدة البحث والتكوين في علم السياسة والقانون الدستوري كلية الحقوق مراكش.
[email protected] mailto:[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.