يقضي معظم اللسانيين ( = علماء اللغة) وقتهم في تحليل ظواهر لغوية لا يعرف عنها عموم الجمهور الشيء الكثير. فقد أصبحت اللسانيات اليوم علما في منتهى الدقة ترصد له الجامعات الدولية ميزانيات مهمة ليس فقط لتطوير جوانبه التطبيقية كاللسانيات الحاسوبية، واللسانيات الإستشفائية، واللسانيات البيداغوجية، واللسانيات القضائية (الشرعية) بل أيضا لتمكين الباحثين الجديين من الإجابة عن أسئلتهم النظرية الكبرى. لقد وصلت اللسانيات إلى مستوى محترم من الدقة والعمق مما قد يهدد بانفصال اللساني التدريجي عن هموم الناس وحياتهم الملموسة ... لكن لحسن الحظ، لم يحدث ذلك .. لأن اللسانيين أنفسهم أسّسوا علما لسانيا قائما بذاته هدفه ممارسة النضال بناء على نتائج العلم اللساني. كيف؟ .. سأشرح. علم جديد ميل اللسانيين للوصف والتفسير الموضوعيين لم يمنعهم من الإنخراط في قضايا المجتمع وهمومه وصراعاته. ففي بداية ثمانينات القرن الماضي، ظهر من قلب اللسانيات علم واعد هدفه نقد الظلم والإستبداد في المجتمع انطلاقا مما توفره لنا اللسانيات من فهم عميق للغة الإنسانية. سمي هذا العلم في السبعينيات ب"اللسانيات النقدية"، ليسمى بعد ذلك (بعد أن أدرك العلماء أن موضوع دراستهم في هذا العلم ليس هو اللغة فقط، بل السياق الإجتماعي الذي تستعمل فيه اللغة أيضا) ب "التحليل النقدي للخطاب" Critical Discourse Analysis. لقد مكن هذا العلم الجديد اللسانيين من أن يتخلصوا من تلك الصورة النمطية للساني بصفته إنسانا منعزلا، غارقا في نظرياته وتفسيراته وتحليلاته العلمية، منفصلا عن واقع الناس وآلامهم وأحلامهم. كيف ذلك؟ سنة 1989، كتب أستاذ اللسانيات الجامعي الذي يدرس بجامعه لانكاستر البريطانية نورمان فيركلاف كتابا مهما عنوانه "اللغة والسلطة" Language and Power والملاحظة الأساسية التي رصدها هذا الأستاذ البريطاني المتميز أن خصائص اللغة التي يكتشفها اللساني تتأثر بشكل كبير بطبيعة العلاقة السلطوية بين المتكلمين. لاحظ مثلا أن أسئلة الشرطة القضائية عادة ما تكون مقتضبة، وسريعة، وغير شخصية، وميالة إلى توجيه أجوبة المستجوبين إلى الإختصار ومقاطعتهم في الكلام. هذه خصائص "لسانية خِطابية" لا يمكن للإنسان أن يكتفي بوصفها وتفسيرها بصفتها ظواهر لسانية وخطابية فقط، بل لابد من نقدها وتقويمها باعتبارها تعبيرا عن بقايا الإستبداد في المجتمعات اللاديمقراطية.. ملاحظة هذه الخصائص الخطابية في الإستجوابات البوليسية دفع فيركلاف إلى طرح سؤال مهم: لنتخيل أن رجال الشرطة ينتخبون ولا يعينون كما هو حاصل الآن! هل كانت استجواباتهم ستتسم بنفس هذه الخصائص "الخِطابية"؟ بدون شك لا. فلو كان رجل الشرطة يُنتخب، لفرضت سلطة الناخب نفسها على أسلوب الإستجواب بشكل قد يجعل الخِطاب ميالا إلى اللباقة والتأدب في الحديث. اللغة والسلطة لقد اكتشف فيركلاف (ولسانيون آخرون أيضا) أن هناك بعدا جوهريا في استعمال اللغة لم تكن اللسانيات تهتم به، وهو "السلطة" Power ففي بعض الخطابات (كاستجواب الشرطة القضائية) تكون آثار ممارسة السلطة واضحة، ولكنها تميل إلى إخفاء نفسها في سياقات أخرى. لكن ليس من الصعب أن نجد في حياتنا العادية أمثلة عن تأثر أسلوب الخطاب بدينامية السلطة بين المتخاطبين. فالبقال، مثلا، يكون أكثر تأدبا من العامل في محطة الوقود لأن الزبون قد يختار التوجه إلى بقال آخر إذا لم يحسن الأول الحديث معه، لكنه لا يستطيع التوجه إلى محطة وقود أخرى إذا استهلك كل وقود سيارته أو دراجته.فعامل محطة الوقود يكتسب سلطته من احتياج الزبون له، فيتأثر أسلوبه في الحديث إلى الزبناء بهذه السلطة دون أن يشعر بذلك. والطبيب عادة ما يستعمل أسلوب السخرية الخفيفة مع وبنائه teasing لأن السخرية الخفيفة تجمع في نفس الوقت بين التفكه المستملح الذي يقوي العلاقة بين الطبيب وزبونه كما تسمح للطبيب من تأكيد سلطته بصفته طبيبا. لقد اكتشف فيركلاف بأن اللغة ليست وسيلة شفافة للتواصل بل هي أداة من أدوات تثبيت علاقة السلطة بين المتخاطبين أو ممارستها، يستعملها الغالب لقهر المغلوب، ويستعملها المغلوب لمحاولة التحرر من سلطة الغالب. كيف تخدعنا اللغة؟ مما يمكِّن اللغة من القيام بهذا الدور الدينامي في تثبيت السلطة الإجتماعية والسياسية والإقتصادية وممارستها أن اللغة نفسها تستطيع تحويل صورة الواقع باستعمال إمكانياتها التعبيرية بطريقة قد تخفي ما يريد صاحب السلطة إخفاءه، وتبالغ في إظهار ما يريده أن يظهر، وتضفي طابع الغموض والإلتباس على ما يريده أن يضيع وراء الكلمات الكثيفة. من ذلك مثلا أن اللغة تسمح بحذف "العامل" ( = الدور الدلالي الذي يجعل الإسم منجزا للحدث بشكل قصدي)، كأن تستعمل فعل المطاوعة في قولك "انسحب المتظاهرون" دون أن تشير إلى أن رجال الشرطة هم الذين فرقوا المظاهرة. ومن ذلك أن تستعمل المصادر التي يختفي معها "العامل" وزمان الحدث، فتقول، مثلا، "إن قتل الأبرياء عمل جبان" بدل أن تقول "لقد قتلت الجماعة الفلانية فلانا، وهذا عمل جبان". ومن ذلك أيضا أن تفرِّد الجموع (كأن تقول: "لقد تمرّد الإنسان الجزائري على حكامه" وأنت تقصد "لقد تمرّد القبايليون على حكامهم") أو تجمع الفرد (كأن تقول " تمرد الجزائريون على حُكّامهم" وأنت تقصد "تمرد الجزائرين على بوتفليقة"). ماذا يفعل رواد "التحليل النقدي للخطاب"؟ لقد اكتشف فيركلاف في في لسانيات هاليدي، اللساني البريطاني من أصل نمساوي ، وفي النقد الأدبي للناقد الروسي ميخائيل باختين، وفي التأملات الإپستيمولوجية للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو أدوات علمية بنى بها صرحا كبيرا لنقد أساليب المستبدّين في التضليل، والتدليس، والمراوغة، وهيمنة الأوهام الإعلامية، والخداع البلاغي. فوضع بذلك أساسا علميا قويا نفضح به الوعي الزائف المزيّف في كل أساليب التعبير، من المقالات والحوارات الصحافية إلى أساليب التعبير الفني كالسينما والمسرح، بالإضافة إلى مختلف أشكال التفاعل الشفهي والمكتوب والإفتراضي (الإلكتروني). مما مكن الباحثين من انتقاد الخطاب التربوي وما ينطوي عليه من أيديولوجيات (تجد التفاصيل في مجموعة من المقالات العلمية جمعتها ريبيكا روجرز في كتاب نشر عام 2004 عنوانه "التحليل النقدي للخطاب في التربية")، وتفكيك أساليب التضليل الأيديولوجي في الصحافة (تجد التفاصيل في كتاب "تحليل الجرائد" الذي نشره جون ريتشاردسون عام 2007)، وفي فضح الهيمنة الجنسية الذكورية (تجد التفاصيل في مجموعة المقالات التي جمعتها ميشيل لازار عام 2005 في كتاب عنوانه "التحليل النقدي النسائي للخطاب")، وغير ذلك من أشكال التدخل النقدي التي تساهم بتطوير قيم الديمقراطية والعدالة الإجتماعية والمساواة وقيم المواطنة في المجتمع. ماذا يفعل القارئ إذا رغب في تعلم التحليل النقدي للخطاب؟ ليأخذ القارئ غير المتخصص فكرة مكتملة عن التحليل النقدي للخطاب وعن كيفية اشتغاله، أقترح عليه أن يطلع على كتاب لفيركلاف نفسه عنوانه "اللغة والسلطة" Language and Power أُلِّف هذا الكتاب بأسلوب بيداغوجي سلس يستطيع أن يفهمه كل قارئ حتى ولو لم تكن له دربة في التحليل اللساني. وإذا كان القاريء يرغب في اكتساب مهارات عملية في ممارسة التحليل النقدي للخطاب، أقترح عليه كتابا لڤان لووين عنوانه "الخطاب والممارسة" Discourse and Practice يقدم هذا الكتاب وصفا مفصلا لمختلف مظاهر التباعد بين الممارسة الإجتماعية من جهة وما نستعمله من خطابات لتمثيل هذه الممارسة الإجتماعية من جهة أخرى. يسمى ڤان هذا التباعد ب"إعادة الأسيقة" recontextualization (وضع تمثيلنا للواقع في سياق آخر نصنعه صنعا بواسطة اللغة وغيرها من وسائل التعبير). فيصف الكاتب بناء على ذلك مختلف أنواع "التحويل" التي يستعملها الناس لخلق سياقات جديدة بواسطة الخطاب إذ يشوه ما يمثله من ممارسات اجتماعية، ويخفي بعض عناصرها أو يعتم عليها. خلاصة التحليل النقدي للخطاب علم "مناضل" يجمع بين العلم والعمل، بين الذكاء الأكاديمي والإلتزام السياسي والأخلاقي، بين البحث الرصين والمسؤولية القيمية. لذلك فمدارسنا وجامعاتنا في حاجة ماسة له، خصوصا في عالم ما فتئ ينزلق شيئا فشيئا نحو التخصصية الضيقة غير المثمرة والأكاديمية الباردة. [email protected]