رغم انخفاضها الكبير عالميا.. أسعار المحروقات بالمغرب تواصل الارتفاع    من المثقف البروليتاري إلى الكأسمالي !    كأس أمم إفريقيا لأقل من 20 سنة.. وهبي : "قادرون على تعويض الغيابات و اللاعبين في أتم الجاهزية ضد نيجيريا"    تنغير.. مسار المضايق والواحات، غوص في طبيعية دادس الساحرة    نقابة تندد بتجاهل الأكاديمية لأستاذة معتدى عليها بخنيفرة    الشرطة البريطانية تعتقل خمسة أشخاص بينهم أربعة إيرانيين بشبهة التحضير لهجوم إرهابي    الجمعية المغربية لطب الأسرة تعقد مؤتمرها العاشر في دكار    توقعات أحوال الطقس اليوم الأحد    قطر تعلن رفضها القاطع للتصريحات التحريضية الصادرة عن مكتب نتنياهو    دراسة: الشخير الليلي المتكرر قد يكون إنذارا مبكرا لارتفاع ضغط الدم ومشاكل القلب    استدعاء آلاف جنود الاحتياط الإسرائيليين استعدادا لتوسيع العمليات العسكرية في غزة    وهبي: مهمة "أشبال الأطلس" معقدة    مسؤول فلسطيني يثمن أدوار الملك    طنجة.. العثور على جثة شخص يُرجح أنه متشرد    بعد خيباته المتراكمة .. النظام الجزائري يفتح جبهة جديدة ضد الإمارات    في خطوة رمزية خاصة .. الRNI يطلق مسار الإنجازات من الداخلة    منتخب "U20" يستعد لهزم نيجيريا    وداعاً لكلمة المرور.. مايكروسوفت تغيّر القواعد    برشلونة يهزم بلد الوليد    الوداد يظفر بالكلاسيكو أمام الجيش    الناظور.. توقيف شخص متورط في الاتجار في المخدرات وارتكاب حادثة سير مميتة وتسهيل فرار مبحوث عنه من سيارة إسعاف    حقيقة "اختفاء" تلميذين بالبيضاء    جلالة الملك يواسي أسرة المرحوم الفنان محمد الشوبي    من الداخلة.. أوجار: وحدة التراب الوطني أولوية لا تقبل المساومة والمغرب يقترب من الحسم النهائي لقضية الصحراء    مقتضيات قانونية تحظر القتل غير المبرر للحيوانات الضالة في المغرب    أمسية احتفائية بالشاعر عبد الله زريقة    نزهة الوافي غاضبة من ابن كيران: لا يليق برئيس حكومة سابق التهكم على الرئيس الفرنسي    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    52 ألفا و495 شهيدا في قطاع غزة حصيلة الإبادة الإسرائيلية منذ بدء الحرب    تقرير: المغرب يحتل المرتبة 63 عالميا في جاهزية البنيات المعرفية وسط تحديات تشريعية وصناعية    تفاصيل زيارة الأميرة للا أسماء لجامعة غالوديت وترؤسها لحفل توقيع مذكرة تفاهم بين مؤسسة للا أسماء وغالوديت    الموت يفجع الفنانة اللبنانية كارول سماحة بوفاة زوجها    حادث مروع في ألمانيا.. ثمانية جرحى بعد دهس جماعي وسط المدينة    ابنة الناظور حنان الخضر تعود بعد سنوات من الغياب.. وتمسح ماضيها من إنستغرام    توقيف شخص وحجز 4 أطنان و328 كلغ من مخدر الشيرا بأكادير    الملك: الراحل الشوبي ممثل مقتدر    توقعات أحوال الطقس اليوم السبت    مجموعة أكديطال تعلن عن نجاح أول جراحة عن بُعد (تيليجراحة) في المغرب بين اثنين من مؤسساتها في الدار البيضاء والعيون    كلية العلوم والتقنيات بالحسيمة تحتضن أول مؤتمر دولي حول الطاقات المتجددة والبيئة    بيزيد يسائل كاتبة الدولة المكلفة بالصيد البحري حول وضعية مهني قوارب الصيد التقليدي بالجديدة    إسرائيل تعيد رسم خطوط الاشتباك في سوريا .. ومخاوف من تصعيد مقصود    تونس: محكمة الإرهاب تصدر حكما بالسجن 34 سنة بحق رئيس الحكومة الأسبق علي العريض    كازاخستان تستأنف تصدير القمح إلى المغرب لأول مرة منذ عام 2008    الداخلة-وادي الذهب: البواري يتفقد مدى تقدم مشاريع كبرى للتنمية الفلاحية والبحرية    أصيلة تسعى إلى الانضمام لشبكة المدن المبدعة لليونسكو    اللحوم المستوردة في المغرب : هل تنجح المنافسة الأجنبية في خفض الأسعار؟    الكوكب يسعى لوقف نزيف النقاط أمام "الكاك"    غوارديولا: سآخذ قسطًا من الراحة بعد نهاية عقدي مع مانشستر سيتي    الفنان محمد الشوبي في ذمة الله    الصحة العالمية تحذر من تراجع التمويل الصحي عالميا    دراسة: هذه الأطعمة تزيد خطر الوفاة المبكرة    "موازين" يعلن جديد الدورة العشرين    القهوة تساعد كبار السن في الحفاظ على قوة عضلاتهم (دراسة)    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نقد أيديولوجية "اللص المحرج" أي الأمازيغوفوبيا الجديدة
نشر في هسبريس يوم 25 - 01 - 2018

أسمي الخطاب المعادي للأمازيغية الذي أصفه في هذا المقال ب"خطاب اللص المحرج". اقتبست عبارة "اللص المحرج" the embarassed thief من بعض القصص العالمية التي تتحدث عن لص يبرّر أفعال السرقة التي يرتكبها بكلام يتجنب فيه أن يصرح فيه بأن مقصده ليس هو أن يتوب عن سرقته بل أن يستمر في ممارستها وأن يجعل الناس يتسامحون مع معه إذا مارسها وأن يُريح ضميره الشقي إذا ما لامه عليها.
سأبين أن فترة ما بعد دسترة الأمازيغية سنة 2011 عرفت ظهور خطاب معادٍ للأمازيغية يُخفي عداءه باستعمال حِيلٍ خطابية تمكن صاحبها من إظهار الإنسجام مع مقتضيات الدستور، والتي تقر برسمية الأمازيغية، ولكنها تسمح له، في نفس الوقت بمُمانعة تطبيق مقتضيات الطابع الرسمي لهذه اللغة. وهذا الخطاب المنافق هو عين ما أسميه ب"خطاب اللص المحرج".
ليسمح لي القارئ الكريم أولا أن أشرح مصطلحين أستعملهما في هذا المقال سيمكِّناني من توضيح مقاصد مقالي العامة وتفاصيله الخاصة بشكل يجعل ما ندرسه وندرّسه داخل أسوار الجامعات (خصوصا في مجال ما يُسمى ب"التحليل النقدي للخطاب") واضحا لدى القارئ الذي لا دُربة له في علوم اللسان ولا مِراس له في أساليب نقد الخطابات.
المصطلح الأول: "اللص المحرج"
"اللص المحرج"، في حالة الأمازيغية هو أيديولوجية أصبحت "محرجة" من إظهار العداء المباشر للغة الأمازيغية، خصوصا بعد أن اعترف بها دستور 2011 لغة رسمية وبعد الامتداد غير المسبوق للخطاب الأمازيغي وتزايد أعداد المنتمين إليه وانتشاره في الشارع وداخل أسوار الجامعات والمدارس بشكل لم يعرف له مثيلا في التاريخ الراهن للمغرب. وبدل أن تظهر هذه الأيديووجية عداء مباشرا للأمازيغية بسبب هذه المستجدات فإنها أصبحت تقاوم كل مظاهر الوعي الهوياتي الأمازيغي (ترسيم اللغة الأمازيغية، الإحتفال بالسنة الأمازيغية الجديدة، إيض ينّاير، الأسماء الأمازيغية، تصحيح التاريخ، إلخ) بأساليب خِطابية جديدة، أي باستعمال خطاب جديد، يُظهر احترام المكون الثقافي الأمازيغي والرغبة في حفظه وحمايته، ويبطن العداء الذي تدلّ عليه الآليات الخطابية التي سآتي إن شاء الله على وصفها وفضحها في هذا المقال وفي مقالات أخرى.
المصطلح الثاني: "الخِطاب"
الخطاب" في فهم علم التحليل النقدي للخطاب Critical Discourse Analysis هو سديم من النصوص المكتوبة (كالمقالات والكتب والمراسلات وغيرها) والخطابات الشفوية (كالحوارات والدردشات والمناوشات الكلامية وغيرها) والإنجازات الرمزية (كتعابير الوجه وأساليب النبر المختلفة والملبس الخاص بمناسبات محددة وغيرها) كما يُستعمل في سياق اجتماعي ملموس، من طرف فاعلين اجتماعيين محددين، في إطار زماني ومكاني مخصوص، لتحقيق أغراض اجتماعية تتجاوز وظيفة التّبليغ.
من خصائص "الخطاب" بهذا المعنى ما يلي:
1 "الخطاب" ليس مجرد وسيلة لتبليغ المعلومات والتعبير عن الأفكار والمشاعر، بل هو أيضا أداة لممارسة السلطة على الغير. من ذلك مثلا أن ما نستثمره من تأدُّبٍ في كلامنا يتوقف على دينامية العرض والطلب بين الناس. لذلك تجد أن البقال، الذي يمكن أن يتركه الزبون ويتجه لغيره، هو أكثر تأدبا من العامل في محطة البنزين، الذي يصعب على الزبون مغادرته لغيره إذا نفذ بنزين سيارته. من ذلك أيضا أن الموظف المنتخب بشكل ديموقراطي يكون أظهر لتقدير المواطنين واحترامهم في كلامه من الموظف الذي يُعين من طرف سلطة لا تُحاسب في اختياراتها. بهذا المعنى، فإن خصائص الخطاب ليست خصائص لسانية فقط، بل هي أيضا خصائص تعكس علاقة السلطة بين القوي والضعيف، بين المُحتاج والمستغني، بين الطبيب وزبونه، بين الشرطي والمواطن، بين المدير والموظف الذي يشتغل تحت سلطته.
2 الخطاب أداة لإعادة وضع الواقع الإجتماعي الحقيقي الملموس في سياق رمزي لساني يبتعد قليلا أو كثيرا عن هذا الواقع الإجتماعي الحقيقي الملموس. يسمي أحد علماء التحليل النقدي للخطاب هذه العملية (أي عملية إعادة وضع الواقع الإجتماعي الحقيقي الملموس في سياق رمزي لساني يبتعد قليلا أو كثيرا عن هذا الواقع الإجتماعي الحقيقي الملموس) ب"إعادة الأسيقة" recontextualization تستعمل إعادة الأسيقة "حِيلاً" لسانية تحويلية كأن يخفي الخطاب "العامل" الحقيقي بالتعميم (كأن تقول: "قتله المتظاهرون" بدل "قتله فلان الفلاني الذي كان ضمن المتظاهرين")، والتطويع (كأن تقول: "انفتح الباب" بدل: "فتح فلان الفلاني الباب")، والتعليل الزائف (كأن تقول: "لا ينبغي أن أُلام على ضربي لفلان وتعذيب جسده لأن كثيرا من الناس ينالهم نفس العذاب بحوادث السير ونحوها ولا تتحدثون عنهم أصلا!")، وإضمار المقدمة الكبرى (كأن تقول: "أنا إنسان كريم لأني من هؤلاء القوم" وأن تُضمر مسلمة لا دليل عليها مفادها: "كل من كان من هؤلاء القوم فهو كريم").
3 الخطاب كُلٌّ يميل إلى الإنسجام الداخلي يظهر، فيتشكّل، فينمو، فيموت. قد أمثّل لهذه الخاصية بخطاب كان سائدا في مدينة مراكش في السبعينيات مفاده أن "مدينة مراكش هي مدينة الأولياء والصالحين"، فعليك إذا دخلت إليها "أن تطلب التسليم من رجال البلد"، وإلا قد يصيبك مكروه لا تدري من أين يأتي. فقد كان الناس يعبرون عن هذا الخطاب في الدارج من كلامهم، وفي أدعيتهم، وفي معاقبة الخصم بإنزال "لعائن الأولياء والصالحين" على الأعداء، إلخ. قد أمثل لهذه الخاصية أيضا بخطاب شبابي كان سائدا في مغرب السبعينيات والثمانينيات مفاده "أن فلانا" يتميز بكونه "الدنيا هانية" (مع إطالة حرف المد في "هانية") قاصدين بذلك أنه إنسان يتسامح مع ممارسات الشباب، كربط الصداقات بين الشباب والشابات، والإنغماس في عالم المتع الحسية، وغير ذلك من الممارسات التي قد تصل إلى درجة التهور والتسيب. لقد كان خطابا سائدا في دارج كلام الشباب يميزون به بين "المفتّْْح" و"الرجعي"، بين "العصري" و"البلدي"، إلخ. فرغم أن الخطاب يُستعمل في سياقات ملموسة مختلفة لإقصاء المخالف، وعقاب الشارد عن القوام المعياري الذي يفرضه الخطاب، فإنه يحتفظ بانسجامه الداخلي بعد أن يتشكّل وينمو ويُقَوّيَ شوكته.
بهذا المعنى، فالخطاب هو وعاء التضليل الأيديولوجي، وأداةٌ للممارسة اليومية للقوة والهيمنة، ووسيلة للتحكّم والتسلط على أنصبة الناس. لهذا فنحن نحتاج للتحليل النقدي للخطاب لأن به نفضح الأيديولوجيات الشريرة مهما تعددت الأقنعة الخِطابية التي تتستّر خلفها.
استعمال اللص المحرج ل"الصمت الدال"
يميز علماء "تحليل الخطاب" Discourse Analysis بين ثلاثة أنواع من الصمت. أولها "الصمت المؤقت" gap، وهو عندما يتوقف الإنسان عن الكلام مؤقتا ليستأنف كلامه بعد قليل. ثانيها "الصمت الطويل" lapse، وهو أن يتوقف المتخاطبون عن الكلام لوقت أطول نسبيا وكأنهم أنهووا كلامهم ليستأنفوه كلامهم بعد ذلك بالحديث عن موضوع قد يكون مختلفا. ثالثها "الصمت الدال" significant silence، وهو أن يمتنع المتكلم عن الكلام عمدا ليعبر بصمته عن أمر ما، كأن تسأل من تُخاطبه: "ما اسمك؟" فيمتنع عن الإجابة ويطيل النظر إليك وكأنه يقول لك: "ما دخلك أنت باسمي؟ هذا الأمر لا يهمك!"
فمن الإستراتيجيات التي يستعملها "اللّص المحرج" أنه يتحدث عن الشأن اللغوي في المغرب، فيقول فيه ما يقول، ويفصل في التعبير عن رأيه حول ما ينبغي أن يكون عليه شأن اللغات في المغرب، إلا أنه يتعمد الصمت عن موقفه حول اللغة الأمازيغية التي هي "أيضا لغة رسمية" حسب منطوق نص الدستور المغربي. فالصمت في هذه الحالة "صمت دال" يوحي به صاحبه أن اللغات المهمة بالنسبة له هي تلك التي يتحدث عنها، أما الأمازيغية فلا يعنيه أمرها. من المؤسسين لهذا النمط من التفكير اللساني المغربي عبدالقادر الفاسي الفهري الذي عبر عن هذا الملمح من خطاب "اللص المحرج" في حوار أجراه معه منبر هيسپريس سنة 2015.
ففي هذا الحوار، يصرح السيد الفاسي الفهري في معرض جوابه عن سؤال متعلق بسبب تشبث الدولة بالفرنسية بأنه غير مهتم بأمور السياسة وبأن همه الأساسي هو "مصالح المواطنين" و"العدالة اللغوية" التي كتب فيها "عدّة مرات". وهذا هو نص جواب الفاسي:
"أنا لا أدخل في التفاصيل السياسية، أو السياسوية على الأصح. أنا انشغالي بشيئين: (أ) مصالح المواطنين، ونوع المواطن الذي نريد أن نكونه بالنسبة للمستقبل، و(ب) نحن كما ذكرت لك منشغلون أيضا بسؤال كبير يشغلني وكتبت فيه عدة مرات وهو مشكل العدالة اللغوية، هل نحن عادلين حينما نختار لأبناء الشعب مثلا الفرنسية وحدها، وتكون نخبة نفوذ من نوع آخر تكون أبناءها باللغة الإنجليزية في معاهد فرنسية أو أنجلوساكسونية، إما كليا أو جزئيا، علما بأن أوربا نفسها مدارسها والمدارس العليا الفرنسية فيها أصبحت تكون باللغة الإنجليزية."
ظاهر نص الفاسي الفهري أن غايته أن يحقق المغرب "العدالة اللغوية" باقتراح سيناريو مستقبلي تكون فيه اللغة الإنجليزية متاحة للجميع، وهذا مطلب نبيل لو يصمت صمتا دالا عن الأمازيغية في معرض تحليله واقتراحه. لنُوَضِّحْ.
ولو عدنا إلى الأدبيات المتخصصة في شأن "العدالة اللغوية"، سنجد أن المرجع الأساسي لمفهوم "العدالة اللسانية" هو كتاب من 390 صفحة صدر عام 2009 عنوانه "العدالة الاجتماعية من خلال التربية المتعددة اللغات"، وهو كتاب متضمن لدراسات عديدة لمتخصصين لسانيين وسوسيولسانيين مرموقين مثل يوهانتي ويونجانڭ تامانڭ وغيرهما. والمرجع الأساسي الثاني لمفهوم "العدالة اللسانية" هو كتاب آخر عنوانه "العدالة اللغوية لأوروپا والعالم" من إصدار مطبوعات أكسفورد سنة 2011 ومن تأليف فيليپ ڤان پاريجس.
وبالعودة إلى هذه المصادر (وغيرها) نكتشف أن الفاسي لم يستعمل مفهوم "العدالة الإجتماعية" لما جُعل له في الأصل. فجملة كلامه أن طالب العلم الذي تكون بالفرنسية يُحرم من التوسع في العلم ومن تبليغ هذا العلم في المجلات المتخصصة والمؤتمرات الدولية كما يستفيد من ذلك من كان تكوينه انجلوساكسونيا. ووجه الخبط في كلام الفاسي أن سياق سياق "العدالة اللغوية" التي يتحدث عنه الخبراء ليس هو ما يحدث في المجلات والمؤتمرات الدولية بل ما يحدث في قلب المجتمع المتعدد لغويا من تفاوتات في فرص التحصيل العلمي بسبب استعمال المنظومة التربوية للغة غير لغة عامة الناس في سياق اجتماعي متعدد اللغات. وللتدليل على المقصود ب "العدالة اللغوية" عند أهل الاختصاص، أورد النص التالي الذي يعرف فيه يوهانتي بكل وضوح معنى "العدالة اللغوية" الذي حرفه السيد الفاسي الفهري لأسباب سأذكرها:
“In a true multilingual system, all languages can have their legitimate place: mother tongues, languages of regional, national and wider communication. English and all other world languages can play their role; they can be healer languages and not ‘killer languages'. In a politically uncontaminated society that would not permit evil entrepreneurs of identity to rob others of their linguistic capital and cultural rootedness, mother tongues and other languages can complement each other with beauty, the beauty of the ‘petals of the Indian lotus', as Pattanayak (1988) so elegantly puts it, beauty with diversity”
"العدالة اللغوية" إذن هي أن نمنع "اللصوص من مقاولي الهوية" كما يسميهم يوهانتي من حرمان الناس من استخدام لغاتهم الأم ومن سرقة مُقدّراتهم الثقافية واللغوية لصالح ثقافة وافدة ولغة مهيمنة. يبني صاحب كتاب العدالة اللغوية لأوروپا والعالم" أطروحته على نفس الزخم الحقوقي ليعالج مسألة هيمنة اللغة الإنجليزية على اللغات الأم وليحلل مظاهر عدم الإنصاف اللغوي التي تنتج عن هذه الهيمنة.
فإذا كان هذا هو المعنى المُحَقَّق ل'العدالة اللغوية" عند أهل الإختصاص، فلماذا أخرجه الفاسي من دلالته الأصلية إلى معنى "الإنصاف في فرص التحصيل والتبليغ لغير المتكلمين باللغة الانجليزية"؟ لا تحتاج الإجابة لذكاء خارق: يحرف الفاسي المعنى الأصلي للعدالة الاجتماعية لأن معناه الأصلي يكشف عن حالة "الظلم الاجتماعي" الذي تعرضت لها اللغة الأمازيغية بسبب الأديولوجية الشريرة المعادية للأمازيغية التي كان الفاسي الفهري يدافع عنها في الظاهر والباطن، قبل دسترة الأمازيغية، وصار، بعد ذلك، يدافع عنها بشكل محتشم. إنه "الصمت الدال" الذي يستعمل اللص المحرج ليبني سيناريوهات تقصي الأمازيغية من المستقبل.
فجميع المعايير العلمية لغياب "العدالة اللغوية" تتحقق في وضعية الأمازيغية. فهي لغة أم لأغلبية عددية مُنع إحصاؤها عمدا في إحصاء الحليمي (الذي هو فاسي أيضا!). وهي لغة رسمية "أيضا" مُنع استعمالها قسريا في البرلمان من طرف برلمانيين من حزب بنكيران (ذي الأصول الفاسية أيضا!) وحزب الاستقلال (المهيمن عليه فاسيا أيضا!). وهي لغة حُرم متكلموها من دراستها والتدريس بها. وهي لغة ألقي في السجون بكثير ممن دافع عنها. وهي لغة حرم من لا يتقن غيرها من التساوي مع من يتقن غيرها في فرص التحصيل ... فإذا كان هدف الفاسي الفهري، كما يدعي، هو "مصالح المواطنين" فلماذا لم يدافع عن "المصالح اللغوية" للأمازيغ .. هذه الأمة التي يدّعي أنه منها وهي منه؟ لماذا لم يسبق له أن استعمل مفهوم "العدالة اللغوية" للدفاع عن ترسيم الأمازيغية قبل ترسيمها وعن تفعيل قانون ترسيمها بعد ترسيمها؟ بدل ذلك، يفضل الفاسي الفهري أن يصمت عن الموضوع "صمتا دالا" ستتضح دلالته في ما يلي.
لفهم دلالة صمت الفاسي الفهري عن "الأمازيغية"، ينبغي أن نتأمل في إزاحته لهذه اللغة من السيناريو اللغوي الذي يريده لمستقبل المغرب. ومن الشواهد على عدم رغبة الفاسي في الاعتراف بما يقره صريح نص الدستور المغربية من كون الأمازيغية "أيضا" لغة رسمية أن الرجل يفترض افتراضا أن اللغة الوطنية والرسمية الوحيدة التي تستحق النقاش هي العربية. من ذلك مثلا أنه كلما تحدث عن سيناريوهات لغوية للمستقبل كلما ذكر العربية ولغات أجنبية أخرى دون أن يشير إلى اللغة الرسمية الأخرى التي هي الأمازيغية. فتأمل في هذا الشاهد من حواره:
"وهذه السيناريوهات، في رأيي، لا ينبغي أن تكون ثنائية، وإنما ثلاثية، وأنا كتبت بتفصيل في هذا الموضوع، بحيث لا يمكن أن ننتقل فجأة من ثنائية عربية - فرنسية إلى ثنائية عربية-إنجليزية بين عشية وضحاها. فهناك صيغ ثلاثية، كما فعلت أوربا أو الهند، بحيث نعتمد على الأقل في التعليم ألتأهيلي والعالي على اللغة العربية والفرنسية والإنجليزية"
فالممكن في سيناريوهات الفاسي هي العربية بالإضافة إلى لغات أجنبية أخرى كالإنجليزية والفرنسية. أما الأمازيغية فلا يشير إليها إلا كنوع من "الضرورة الشعرية" صادق عليها الدستور لا طائل من الحديث عن مكان لها في سيناريوهات المستقبل؛ لذلك لا يضع لها الفاسي أي مكان في المستقبل الذي يريده لوَطَنِه. هنا أيضا يخرج الرجل مرة أخرى عن مقتضيات "العدالة اللغوية" التي يدعي أنه مهتم بها.
خلاصة تحليلنا إذن أن غرض الفاسي الفهري الحقيقي ليس هو الدفاع عن الإنجليزية بديلا عن الفرنسية، بل غايته أن يرسم سيناريوها لغويا لمستقبل المغرب تكون لغته الرسمية والوطنية هي العربية التي تستخدم في كل مراحل التدريس ومكوناته بالإضافة إلى الإنجليزية التي فرضت نفسها لغة دولية. مشكلة هذا النموذج الذي يريده الفاسي للمغرب أنه يقصي الأمازيغية بشكل تام ويتناقض مع مقتضيات "العدالة اللغوية" التي يدعي أنه يدافع عنها، كما يتناقض مع مقتضيات الدستور الذي يعتبر أن اللغة الأمازيغية هي "أيضا" لغة رسمية ويدعو إلى سن قانون تنظيمي يدعّم طابعها الرسمي وينفِّذه.
الآلية المستعملة في إقصاء الأمازيغية من سيناريوهات المستقبل التي يرتضيها الفاسي الفهري لبلده هي آلية "الصمت" عن الأمازيغية الصمت الدال الذي لا تخفى دلالته.
من الخطابات الراهنة التي استعملت آلية "الصمت الدال" ما سُمي مؤخرا ب"مقترح قانون يقضي بحماية وتطويروتنمية استعمال اللغة العربية"، وهي وثيقة تعبر عن اقتراح حزب العدالة والتنمية تقدم به للبرلمان إدريس الأزمي "رئيس فريق العدالة والتنمية وباقي أعضاء فريقه".
الهدف العام لهذا المقترح حسب منطوق نصه هو "وضع الإطار العام لحماية وتطوير وتنمية استعمال اللغة العربية" ب صفتها "اللغة الرسمية للدولة". (ص 2). إلا أن مقدمة هذا المقترح لا تصمت عن اللغة الأمازيغية صمتا كاملا، فهي تدعو إلى أن تمتد مقتضيات المقترح إلى اللغة الأمازيغية أيضا:
" ... في انتظار تمديد مفعوله إلى اللغة الأمازيغية، بعد تفعيل طابعها الرسمي، واستكمال إدماجها في مجال التعليم ومجالات الحياة العامة ذات الأولوية" (ص 2).
بل إن المادة 40 من مقترح القانون هذا، وهي من المقتضيات الختامية، تؤكد على أن مقتضياته "لا تمس بالمقتضيات الخاصة بتفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية ولا أن تتعارض مع استعمالها باعتبارها لغة رسمية للبلاد حسب المقتضيات التي يقرها القانون". (ص 13)
إلا أننا بمجرد أن نتجاوز المادة 40 الموغلة في الغموض والإلتباس (مثلا: ما هي "المقتضيات التي يقتضيها القانون"؟ هل هو "القانون لمراحل الطابع الرسمي للأمازيغية بصفتها لغة رسمية" الموغل هو أيضا في الغموض والإلتباس؟) ،وبمجرد أن نغادر المقدمة التي لا تصمت عن الأمازيغية إلى المضامين الداخلية للمقترح، سنجد بأن النص يفترض أن هناك لغة رسمية واحدة لا تشاركها في طابع الرسمية أية لغة أخرى. ففي المادة 2 مثلا نقرأ: "اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة". فاستعمال أداة التعريف (ال) وضمير الشأن (هي) يدل على أن المقترح لا يعترف سوى بلغة رسمية واحدة ووحيدة وهي اللغة العربية ويصمت صمتا دالا عن اللغة الرسمية الأخرى التي أشار إليها في مقدمته إشارة لا تعدو أن تكون نوعا من "التَّوْشية" الدستورية التي تضمن تمرير المقترح في البرلمان.
من مظاهر الصمت الدال المريب في هذا المقترح أيضا ما نجده في المادة 6 (ص 4) الذي يجعل اللغة العربية "لغة تدريس المواد الإجتماعية والعلمية في جميع المؤسسات التعليمية العمومية والخاصة"، مما يعني أن المادة الوحيدة التي ينبغي أن تُدرس بها المضامين في المغرب هي العربية. وهذه خطوة استباقية لمواجهة أي دعوة آنية أو مستقبلية لتدريس المضامين باللغة الأمازيغية. إنها آلية التصريح بما نريده أن يكون والصمت عما لا نريده أن يكون، حتى نفرض ما نريده أن يكون بصريح النص، ونقصي ما لا نريده أن يكون بعدم وجود نص.
من مواد هذا المقترح التي تتناقض بشكل صارخ مع ما تسلم به المقدمة من أن "اللغة الأمازيغية هي أيضا لغة رسمية" المادة 14 (ص 6) التي تصرح بأن "اللغة العربية لغة الحياة العامة والإدارة والتجارة الداخلية وجميع الخدمات العمومية. و تعتمد في جميع مراسلات ووثائق اجتماعات الإدارة والمؤسسات العمومية". فإذا كانت "اللغة العربية هي لغة الحياة العامة" فكيف يمكن تكييف هذا المقترح مع تسليم المقدمة برسمية الأمازيغية وتأكيد المادة 40 علي عدم ضرورة عدم تعارض مقتضيات "هذا القانون" مع "المقتضيات الخاصة بتفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية"؟
إنها مرة أخرى "آلية الصمت الدال": نصرح برسمية الأمازيغية في المقدمة ونصمت عن وجودها وعن أهميتها في مواد القانون المقترح. نصرح بما نريده، ونسكت عما لا نريده، حتى نستعمل صريح النص للتلاعب بكل ما صمتنا عنه.
من خطابات اللص المحرج التي استعملت آلية "الصمت الدال" ما سُمي "بمشروع القانون التنظيمي المتعلق بتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وكيفيات إدماجها في مجالات التعليم وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية" والذي اقترحته حكومة بنكيران قانونا تنظيميا لإنزال الطابع الرسمي للغة الأمازيغية.
من مظاهر "الصمت الدال" أيضا في هذا المشروع أنه يقتضي "الكتابة" بالأمازيغية في الفضاءات العمومية الثابتة (مثلا لوحات التشوير، المادة 27)، و غير الثابتة (مثلا لوحات وسائل النقل العمومي، المادة 28)، وفي رموز سيادة الدولة (مثلا طوابع البريد وأوراق النقود، المادة 22)، والوثائق الرسمية (مثلا البطاقة الوطنية، جواز السفر، رخص السياقة، إلخ)، ولكنه يسكت، على طريقة "الصمت الدال"، التصريح بنوعية الحروف التي ينبغي استعمالها: هل هي الحروف التاريخية للأمازيغية، تيفيناغ، والتي صادق الملك على استعمالها؟ أم أنظمة هجائية أخرى؟ عدم التصريح بالنظام الهجائي الرسمي نوع من الثغرة القانونية تحرم هذا النظام الهجائي من الحماية القانونية التي قد تسمح بالهجوم عليه مستقبلا والقضاء على استعماله في بلدنا.
من مظاهر "الصمت الدال" في هذا المشروع أيضا أنه لا يعطي أية وضعية قانونية للأمازيغية المعيارية الموحدة، ويكتفي بالإشارة إلى ما يسميه ب"التعابير اللسانية" و"المنتوج اللسني والمعجمي الأمازيغي الصادر عن المؤسسات والهيئات المختصة" (المادة 1، الفقرة الثانية). فمن وجهة نظر علمية، لا تمتلك عبارة "التعبير اللساني" أي تأويل نظري أو تجريبي، مما يطرح السؤال حول ما إذا كان مشروع القانون هذا قد عُرض على الخِبرة العلمية التخصصية، أم إن صياغته كانت على يد محرِّرٍ غير مؤهل لإبداء الرأي في الشؤون اللسانية.
فربما كان المقصود من "التعابير اللسانية" ما يسميه أهل التخصص ب"التنويعات اللسانية للأمازيغية"؛ أي تلك التنويعات التي تتداخل في ما بينها بالتفاعل والتلاقح إذا كان مستعملوها يتفاعلون بينهم بواسطة الإعلام مثلا ، والتي يؤدي تفاعلها وتلاقحها، في نهاية المطاف، إلى انبثاق تنويعة معيارية يساهم فيها الإعلام والتعليم مساهمة رئيسية.
كما أن الأمازيغية المعيارية ليست "منتوجا لسانيا" تصنعه المؤسسات كما يعتقد العوام، بل هو ناتج إما عن استعادة تراث لغوي منسي بسبب اكتساح الدخيل اللغوي، وإما إنه وضع اصطلاحي لا يوجد أصلا في اللغة الأمازيغية (المصطلحات التقنية مثلا).
من مظاهر "الصمت الدال" أيضا أن مشروع القانون لا يتضمن أية مقتضيات لتحسين الوضعية الاعتبارية للغة الأمازيغية بصفتها لغة رسمية للدولة. فلا يجرم الانتقاص منها أو التهجم عليها، كما لا يحدد بشكل واضح المسؤول القانوني عن "تثمين" الموروث الثقافي واللغوي الأمازيغي، اللهم إذا استثنينا المادة 19 التي تتحدث عن "تثمين الموروث الحضاري والثقافي الأمازيغي ..." الذي يُسند مهمة "التثمين" بشكل فضفاض ل"الدولة" ودون أن يعطي أي مضمون محدد لهذا "التثمين".
من مُغَيّبات "الصمت الدال" أيضا ما نجده في المادة 5: "مراعاة للخصوصيات الجهوية، يمكن اعتماد التعبيرات اللسانية الأمازيغية المتداولة ببعض المناطق في جهات المملكة، إلى جانب اللغة العربية، لتيسير تدريس بعض المواد التعليمية في سلك التعليم الأساسي بالمؤسسات التعليمية الموجودة بهذه المناطق".
ظاهر هذا النص أنه يمكن استعمال إحدى التنويعات الأمازيغية لتيسير مضامين المواضيع المدرسة التي ستكون بالعربية فقط، مما يعني أن مشروع القانون يُقصي الأمازيغية إلى "الأبد" من التعميم الأفقي الذي يخوّل لها إذا طُبِّق أن لا تُدَرّس فقط بل أن تستعمل أيضا لتدريس المضامين. فبأي اعتبار دستوري أو قانوني تُحرم لغة رسمية مما يُسمح به للغة رسمية أخرى؟ لاحظ أن عبارة "إلى جانب العربية" تستعمل في هذا القانون بينما تغيب في مقترح "حماية العربية" حيث لا نجد تذكيرا مطردا بضرورة فعل كذا وكذا بالعربية "إلى جانب الأمازيغية".
بمقابل الميل إلى التصريح الذي يظهره مقترح القانون المتعلق ب"حماية" اللغة العربية نجد أن القانون المتعلق بتفعيل مراحل إنزال الطابع الرسمي للأمازيغية مليء بمظاهر الغموض والإلتباس ك"تعويم الأفاظ" و"اختزال المضامين".
استعمال اللص المحرج ل"التعويم والإختزال"
"التعويم" و"الإختزال" هما أيضا آليتان للتحكُّم الخِطابي يستعملهما اللص المحرج في خطاب الأمازيغوفوبي الجديد لإخفاء نواياه المعادية للأمازيغية. أقصد بآلية "التعويم" أن يقوم المحرِّرُ باستعمال ألفاظ مُجْمَلة (ذات معنى غير مخصص) أو ملتبسة (حمالة لأكثر من وجه واحد في التأويل) أو غامضة (لا معنى لها أصلا) أو غير مشبعة (لا فاعل لها حيث تحتاج لفاعل، أو لا مفعول لها حيث تحتاج للمفعول، إلخ). وأقصد بآلية "الاختزال" أن يُليّن المحرِّر من قوة الكلمات، كأن يُنزل معنى "الضرورة" إلى "الإمكان"، و"الوجوب" إلى "الإباحة".
سأبين بأن محرِّر نص ما دُعي ب"مشروع القانون التنظيمي المتعلق بتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وكيفيات إدماجها في مجالات التعليم وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية" استعمل هاتين الإستراتيجيتين التحكميتين من أجل التدليس على القارئ من جهة النوايا الحقيقية للمحرِّر/اللص المحرج.
من مظاهر "التعويم" في منطوق مشروع القانون أنه يكثر من استعمال الصيغ التي تمكّنه من تجنُّب تحديد المسؤولين عن صلاحيات ومهام بعينها حاسمة في إظهار القيمة الديمقراطية لمشروع القانون. للتوضيح، لنعتبر النص التالي المقتبس من ديباجة مشروع القانون:
"وقد تم إعداد مشروع هذا القانون التنظيمي وفق مقاربة تشاركية أخذت بعين الاعتبار مذكرات ومقترحات الفاعلين والمهتمين، المتوصل بها إثر فتح الباب للإدلاء بالمقترحات" ("غاية مشروع هذا القانون التنظيمي").
من مظاهر التعويم المذموم في هذا النص أنه يغيّب الفواعل الدلالية بشكل تحكمي إما بالتعميم، كما في قوله "الفاعلين والمهتمين" (هل يتعلق الأمر بجميع الفاعلين والمهتمين أم بالزبناء السياسيين لحزب العدالة والتنمية؟)، وإما بالحذف، كما في قوله "فتح الباب"، فلا يذكر أن الأمر يتعلق ب"باب إلكترونية" لا يمكن الاعتماد على معطياتها، وإما ب"البناء للمجهول"، فلا يصرح قولُه "المُتَوَصَّل بها" بمن توصّل وكيف توصل بها، وهذا مناط ضبط المعطيات الإلكترونية بعد التحقق من الجهة المرسلة.
من مظاهر التعويم المذموم في وثيقة المشروع أيضا أنها تكثر من استعمال عبارة "تعمل الدول" (ثماني مرات) وما يقترب من معناها ("تشجع الدولة"، "تسهر الدولة"، "تحرص الدولة") دون أن تحدد المقصود ب"الدولة": المؤسسة الملكية؟ الحكومة؟ كلاهما؟ ... مما سيسمح بالتهرّب من تحديد المسؤولية، خصوصا عندما تكون الصلاحيات أو المهمات المسندة ل"الدولة" أمرا في منتهى الحساسية، كما نجد في المادة 17؛ حيث تسند مهمة "تأهيل الموارد البشرية العاملة في قطاع الإعلام باللغة الأمازيغية" للدولة. وهذا هو النص: "تحرص الدولة على إعداد وتكوين وتأهيل الموارد البشرية في قطاع الإعلام باللغة الأمازيغية".
فمن المسؤول عن هذا "الإعداد والتكوين والتأهيل" بالضبط؟ من هي هذه "الدولة" التي سنحاسبها على عدم إنجاز هذه المهمة إذا لم تنجزها؟
بمقابل هذا التعويم الممنهج نجد أن مقترح القانون المتعلق ب"حماية العربية" يصرح بأن المسؤول عن تطبيق القانون هي الحكومة (المادة 10، ص 5)، ويصرح بالعقوبات التي تستتبع عدم تطبيقه (المواد 35 حتى 39 ص 12 و 13)، ويحدد إطار سنة واحدة فقط لتطبيقه (المادة 42، ص 13).
وما يزيد في خطورة هذا التعويم أن معظم المواد التي تسند مقتضياتها لما يسميه مشروع القانون ب"الدولة" يرتبط بالدعم المالي واللوجيستيكي والبشري (أنظر المواد 12، 13 ف2، المادة 17، المادة 30 ف2). مما يعني أن مشروع القانون يسنِد إلى كائن غير محدد بشكل جيد معظم ما ينبغي أن يُفعل للنهوض بوضعية اللغة الأمازيغية ببلدنا.
ومن أخطر مظاهر التعويم في وثيقة مشروع القانون ما سمته هذه الوثيقة ب"التدرج". وقد تكررت هذه العبارة ومشتقاتها أكثر من عشر مرات في نص الوثيقة. ووجه الخطورة في استعمال هذه العبارة أن ظاهر نص المادة 31 يصرح بمراحل التطبيق "التدريجي" لمقتضيات تفعيل الترسيم وآليات تتبعه، ولكنه لا يصرح بآليات التطبيق العملي لهذا التدرج وبالاستتباعات القانونية لعدم تطبيقه.
من ذلك مثلا أن نص مشروع القانون يصرح بضرورة تطبيق المادة 12 المتعلقة بإدماج اللغة الأمازيغية في الإعلام في إطار 5 سنوات، ولكنه لا يحدد نسبة الحصة الزمنية التي ينبغي أن تخصص لهذه اللغة في هذه السنوات الخمس. والشيء نفسه يقال عن المادة 13 التي تتحدث عن تأهيل الإعلام السمعي البصري من البث المباشر بخدمة متنوعة في أفق 5 سنوات ولكنه لا يصرح بما إذا كانت "الدولة" أو "الحكومة" أو "الإدارة" ملزمين بالرفع من عدد محطات البث الإذاعي والتلفزي مثلا، خصوصا إذا علمنا أن التأهيل الحقيقي والتنوع الحقيقي لا يكون إلا بتعدد المحطات وتنافسها.
بالمنطق نفسه يمكن أن نتساءل عن كيفية تطبيق معايير استعمال الأمازيغية لتحفيز البث بهذه اللغة الذي نجده في المادة 14. ما هي نسبة الاعتماد على معيار "الأمازيغية" في تحديد الدعم العمومي: 0،1%؟ 20%؟ 50%؟ لا شيء يُصرّح به بهذا الخصوص.
من الأمثلة الأخرى على التعويم في تحديد "التدرج" أن المادة 11 تفرض على الإدارة العمل على "نشر النصوص التشريعية والتنظيمية ذات الصبغة العامة في الجريدة الرسمية باللغة الأمازيغية". من أوجه التعويم المذموم هنا (المرفوق بشيء من التدليس) أن هذه المادة لا توضح معنى "الصبغة العامة" التي جعلتها معيارا لما يمكن كتابته بالأمازيغية مما ينشر. وفي المادة 31 اعتبرت المادة 11 من المواد التي يرتبط تطبيقها في أفق 15 سنة. فهل هذا يعني مثلا أن ترجمة نصوص الجريدة الرسمية لن تتعلق سوى بتلك النصوص العامة ذات الطابع التلخيصي ...؟ وإذا الأمر كذلك، فهل يحتاج هذا إلى 15 سنة من أجل إنجازه؟
من الآليات التي يستعملها "اللص المحرج" أيضا في خطاب قانون الأمازيغية آلية "الإختزال" ، وذلك باستعمال تعابير لغوية في إسناد الصلاحيات والمهمات القانونية لا تصرح بدرجة الإلزامية القانونية لهذه الصلاحيات والمهام. من ذلك مثلا أنه كلما أوكل مشروع القانون صلاحية أو مهمة ما لما يسميه ب"الدولة"، استعمل أفعال مثلا "تعمل الدولة" (المادة 2 و13) و"تسهر الدولة" (المادة 12) و"تحرص الدولة" (المادة 17) و "تشجع الدولة" (المادة 20). فمثل هذا التعابير لا تحدد المسؤول القانوني كما لا تحدد درجة المسؤولية القانونية لأنها لا تصرح بنتائج الإخلال بمقتضيات المواد.
من مظاهر الاختزال أيضا أن تعليم الأمازيغية لا يُعرّف في نص المشروع بصفته "واجبا"، بل هو مجرد "حقٍّ" (المادة 3)، مما يوحي بإمكان تخلي صاحب هذا "الحق" عن حقه بأن يختار ألا يتعلم أبناؤه الأمازيغية. بينما هو إلزامي "لكل الأطفال المغاربة" .. "في كل المؤسسات التربوية العاملة في المغرب" (المادة 7، ص 5). من ذلك أيضا ما تقرره المادة 6 (في القانون المتعلق بالأمازيغية) إذ تجعل إنشاء مسالك تكوينية ووحدات للبحث المتخصص في مؤسسات التعليم الجامعي أمرا "ممكنا"، موحية بعدم إلزامية هذا المطلب. ومن ذلك أيضا جعل التخاطب بالأمازيغية في الجلسات العمومية واللجان البرلمانية مجرد أمر "ممكن" لا إلزام فيه (المادة 9)، مما يعني أن مشروع القانون لا يلزم البرلمانيين بتعلم الأمازيغية حاضرا أو مستقبلا. فلا غرابة إذن أن نص مشروع القانون لا يُلزم أي موظف أو مسؤول حكومي بتعلم الأمازيغية، مكتفيا بتوفير خدمة الترجمة كما يُفعل مع اللغات الأجنبية.
ختاما
لقد أصبح "اللصوص من مقاولي الهوية" كما يسميهم يوهانتي محرجين، وسيزداد حرجهم بقدر ما تمتد الحركة الأمازيغية ويرتفع صوت مطالبها العادلة. إلا أن "تحرّج" اللص المحرج لن ينفعه مهما كانت الإستراتيجيات الخطابية التي يستعملها للتدليس على الحق الأمازيغي في نشر اللغة وتصحيح التاريخ واسترجاع المقدّرات الطبيعية المسلوبة.
من لا يؤمن بالأمازيغية، فإنه لا يؤمن بالعدل. لأن الأمازيغية حق هوياتي سُلب ينبغي أن يُعاد إلى أهله. من لا يؤمن بالأمازيغية، فإنه لا يؤمن بالتعايش، لأن الأمازيغية هوية تسعى إلى التعايش مع غيرها. من لا يؤمن بالأمازيغية، فإنه لا يؤمن بالمحبة، لأنك لا تستطيع أن تحب قوما وتكره لغتهم وثقافتهم. من لا يؤمن بالأمازيغية، فإنه لا يؤمن بالإختلاف، لأن أعظم مظهر من مظاهر الإختلاف اختلاف الألسن. من لا يؤمن بالأمازيغية، فإنه لا يؤمن بالكرامة، لأن أحط أنواع الإهانة أن تمنع المرء من أن يعبر عن نفسه بلغته. من لا يؤمن بالأمازيغية، فإنه لا يؤمن بحق الغير في السعادة، لأن مصدر كل سعادة أن تستقل بهويتك عن كل غير. من لا يؤمن بالأمازيغية، فإنه لا يؤمن بالحرية، لأن الحرية هي أن تكون نفسَك لا غيرَك. من لا يؤمن بالأمازيغية، فإنه لا يؤمن بالعقل، لأن عقل كل أمة لغتها ولغة كل أمة عقلها ... قل لي ما هو موقفك من الأمازيغية، أقل لك ما هي أخلاقك. ومشكلة خطاب "اللص المحرج" أنه خطاب غير أخلاقي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.