في المنهج القرآني القويم تنتصب فضيلة السبق في الدين والبلاء والعطاء، واحدة من أمهات الفضائل والقيم التي يربي عليها الإسلام الناس، في المجتمع وفي الجماعات، وفي العلاقات بين الأجيال. فقد ميز الله عز وجل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار على غيرهم، وحض المؤمنين على الدعاء للذين سبقوا بالإيمان، وفاضل بين الذين أسلموا وأنفقوا قبل الفتح وقاتلوا، وبين من جاؤوا بعدهم وعلى آثارهم، وجعلهم أعظم درجة. وفي المنهج النبوي خص الرسول صلى الله عليه وسلم من شهد غزوة بدر، وهي الغزوة الأولى في الإسلام، بالمكانة الأولى في تراتبية الصحابة وتنظيم المجتمع الإسلامي الأول. لكن هذا المنهج التربوي الذي أحاط أولي السابقة بالرمزية والاعتبار، بدأ يندرس تحت دهس أقدام من يفترض فيهم أنهم رعاة البديل الإسلامي أو هكذا يعلنون، حينما أصبح التهافت على الفتات السياسي يعلو على الوازع الأخلاقي. فأن تخلّد الحركة الإسلامية في المغرب ذكراها الخمسين؛ إذ ابتدأ مسارها منذ 1966، وأن يكون العالم الداعية المناضل الأمين بوخبزة من الآحاد القلائل الذين رافقوا مسيرتها وقطعوا أشواطها طيلة هذه الخمسين سنة، ضراءها وسراءها، صبيا يرتع في حقولها، ثم شابا يؤسس بنيانها، ثم قائدا يوجه طلائعها، ويربي أجيالها، فمهندسا لانبثاق بنائها السياسي في حزبها السياسي: حزب العدالة والتنمية، ثم ينتهي به المسار بعد هذه العقود الخمسة أن يلفظه هذا الحزب الذي صنع على عينه قطعة قطعة. ليس هذا فحسب، بل يعلن طرده على رؤوس الأشهاد، وينعته رفاقه من سادة الحزب وعلى سمع الدنيا وبصرها بأنه قد ضل سياسيا وقد مرض نفسيا، ومن يدري ماذا يقال له بعد ذلك، فما زال الحبل على الجرار. أن يكون الأمر كذلك، وفي الذكرى الخمسين لانطلاق قطار الحركة الإسلامية، فإنه المكر والغدر وسقوط القيم. وللشهادة التاريخية، وحتى تعلم أجيال الحركة الإسلامية، وتعلم قواعدها السياسية في الحزب السياسي، ما يحجب عنها من سيرة رجالاتها وروادها، أن العالم الداعية، خريج الجامع الأزهر بأرض الكنانة، الأمين بوخبزة، كان من أوائل من أسس الخلايا الأولى للحركة الإسلامية بتطوان، وقبل أن تولد الشبيبة الإسلامية بالدارالبيضاء بسنوات، عندما كانت تطوان أولى الحقول التي استزرعها الزارعون الأولون للحركة الإسلامية، بعد أن وطئت أقدامهم المغرب سنة 1966. وعندما التحق بالرباط لإكمال دراسته الجامعية، وانتمى لتنظيم الحركة الإسلامية الوحيد آنذاك، تنظيم الشبيبة الإسلامية، كان في كامل نضجه الحركي الدعوي، وفي عميق وعيه ومعرفته بالإسلام عقيدة وثقافة وتصورا، لما نهل منه من كتب ومؤلفات بين يدي عمه العلامة محمد الأمين بوخبزة، مما أهله ليكون في الطليعة وفي النخبة القيادية للتنظيم بالرباط. ومنذ البداية كان حضوره بالجامعة بالرباط دفعا قويا للتنظيم الحركي الإسلامي الناشئ في جناحه الطلابي، بعد أن كانت قد ارتجت هياكله عند هبوب عاصفة واقعة قتل الزعيم الاتحادي عمر بنجلون سنة 1975، واتهام الشبيبة الإسلامية بالتورط فيها. ولعب دورا كبيرا في امتداد مد حركة الشبيبة الإسلامية بمدن الشمال، بفضل الشبكة الطلابية الواسعة التي كانت تلتف حوله من الطلبة القادمين إلى الجامعة من مدن الشمال والوسط. وكان نجاحه الدعوي يرجع إلى جمعه بين الصفتين، صفة المؤطر القيادي التنظيمي للتنظيم الطلابي السري في الجامعة، وصفة الواعظ التربوي من خلال دروسه في مساجد الكليات والمعاهد، ومن خلال اعتلائه المنبر كخطيب جمعة في مسجد الجامعة. وكان يواصل عمله الدعوي والحركي ليل نهار، حتى إن غرفته بالحي الجامعي كانت تمور بالحركة كخلية نحل، من كثافة الاستقبالات والاجتماعات التي لا تنقطع، بل إن ارتباطه الشديد بالأنشطة التنظيمية والدعوية دفعه إلى أن يحرص على البقاء في الأوساط الطلابية، وأن يتشبث بغرفته بالحي الجامعي، فيتعمد لأجل ذلك الرسوب في امتحانات السنة الرابعة من الإجازة في كلية الآداب لثلاث مرات متتالية، وهو واسع الثقافة وممتاز اللغة، والأقدر على النجاح بتفوق. في تلك السنوات من أواخر السبعينيات كان الأمين بوخبزة يتميز بكونه محبوبا لدى عموم الطلبة لما كان مشتهرا به من دماثة الخلق ولطافة المعشر ومجادلة بالحسنى ومعاملة بالحكمة والتؤدة. وهو ما جعله مثال القدوة ومقام الصدق والمروءة والأمانة لدى إخوانه في التنظيم الإسلامي. وفي سنة 1981، خلال شهر مارس منه، وفي الاجتماع الشهير الذي التأم فيه شمل عشرين قياديا من قياديي تنظيم الشبيبة الإسلامية في مدن البلاد وجهاتها للحسم في موقف الفصل مع عبد الكريم مطيع، بعد تحوله إلى أحضان ليبيا القذافي، وعندما احتدم الخلاف بين فريقي التنظيم، بين جناح الدارالبيضاء الذي كان يرى موقف القطع الفوري مع مطيع، وبين جناح الرباط الذي كان يرى التمسك بقيادته، كان الحكم بين الفريقين هو الأمين بوخبزة الذي اختاره الجميع لحكمته وهدوئه وصدقه وأمانته، وانتدبه الفرقاء للسفر إلى إسبانيا لملاقاة مطيع والاستماع المباشر لوجهة نظره، وتبليغه قرار القيادة الجماعية الداخلية، والحوار معه حول مصير الحركة. وبعد عودته من هذا الحوار التفاوضي، كان قرار الأمين بوخبزة هو القرار التحكيمي الفيصل في الحسم النهائي بالقطيعة التاريخية مع مطيع، وكان قراره هو المحصن للتنظيم من التمزق، وكان هو اللبنة الأولى في بناء الجماعة الإسلامية التي ستصبح حركة الإصلاح والتجديد بعد اعتقال بعض قيادييها ومحاكمتهم سنة 1984، ثم ستتحول إلى حركة التوحيد والإصلاح لتصب في تشييد حزب العدالة والتنمية، الحزب الذي سيطرد حكيم الحركة الإسلامية، بعد مساهمته في تأسيسه وقيادته ونجاحه، لا لشيء سوى لإبداء رأي تضايق منه من له المصلحة. أفبعد خمسين سنة من العطاء والبلاء والبناء، يصبح الحكيم مريضا نفسيا وضالا سياسيا. سلام على الدنيا، سلام على الورى .. إذا ارتفع العصفور وانخفض النسر إِذَا الْعَدْلُ وَالْإنِصَافُ فِي الْأَرْضِ لَمْ يَقُمْ .. فَمِنْ أَيْنَ يَأْتِي أَهْلَهَا الْعِزّ وَالنَّصْرُ؟