في السنوات الأخيرة، أَلِف الرأي العام المغربي الاطلاع، من خلال الصحافة، على جملة من مظاهر تبذير المال العام التي يرصدها المجلس الأعلى للحسابات، سواء في الجماعات الترابية أو المؤسسات العمومية، وينشرها في تقارير دورية، لكنَّ الرأي العام نادرا ما يسمع عن فتح تحقيق حول الخروقات المتضمّنة في تقارير المجلس. أنشئ المجلس الأعلى للحسابات سنة 1979، كجهاز قضائي مكلف بتأمين المراقبة العليا على تنفيذ قوانين المالية، وحُدّدت مهامّه في التأكد من قانونية عمليات مداخيل ومصاريف الأجهزة الخاضعة لرقابته، "ومعاقبة، عند الاقتضاء، كل تقصير في احترام القواعد المنظمة لتلك العمليات". وفي سنة 1996، ارتقى المجلس إلى مؤسسة دستورية. مكانة المجلس الأعلى للحسابات عزّزها دستور 2011؛ إذ أضيفت إلى المهام التي أنيطتبه مهمّة مراقبة وتتبع التصريح بالممتلكات، وتدقيق حسابات الأحزاب السياسية، وفحص النفقات المتعلقة بالعمليات الانتخابية، ومهام أخرى، كما نصّت الوثيقة الدستورية على نشر المجلس لجميع أعماله، بما فيها التقارير الخاصة والمقررات القضائية. وقدْ اطّلع المغاربة، خلال السنوات الأخيرة، على عدد كبير من تقارير المجلس الأعلى للحسابات، التي عرّتْ مجموعة من الاختلالات التي شابتْ صرف المال العام، لكنّ الرأي العام لا يعرف مصير هذه التقارير، "التي لا تعدو، إلى حدّ الآن، كونها تقارير روتينية"، بحسب الباحث في العلوم السياسية رشيد لزرق. وزير العدل والحريات، مصطفى الرميد، اعترف في ردٍّ على سؤال في البرلمان سنة 2014، بأنّ مُتابعة التقارير التي يُصدرها المجلس الأعلى للحسابات تتسم بالتأخر، نظرا لكون الفرقة الوطنية للشرطة القضائية بالدار البيضاء هي التي تنظر في جميع ملفات الجرائم المالية. سنة بعد ذلك، كشف الوزير ذاته، في البرلمان أيضا، أنَّ عدد الملفات التي جرت إحالتها على النيابة العامة، بناء على التقارير التي أنجزها قضاة المجلس الأعلى للحسابات، منذ سنة 2001 إلى غاية شهر يونيو من 2015، لم يتعدّ 83 ملفا. بالنسبة لرشيد لزرق، فإنّ "الفساد يُعدّ ظاهرة متشابكة لا يمكن حلها من خلال تقارير المجلس الأعلى للحسابات لوحدها، على أهمّيتها"، مشيرا إلى أنَّ ثمة ضرورة ملحة لتفاعل كل الإدارات، من مؤسسات رسمية ووسائل إعلام وأفراد، من أجل الضغط لفتح تحقيقات حول ملفات الفساد، ومضيها في مسالكها الطبيعية، في إطار ضمان المحاكمة العادلة لمن ثبتت في حقهم تهم تبديد أو اختلاس المال العام. في هذا الإطار، أشار لزرق إلى مسألة إجبارية التصريح بالممتلكات، التي أقرّها المشرّع المغربي، وقال: "رغم أن المشرِّع أعطى للمجلس مهمة إيداع وتتبع ومراقبة التصاريح الإجبارية بالممتلكات،لكن في الواقع العملي تبقى هذه الوثائق بدون تتبع، فلم نسمع،إلى حدود الساعة، تقارير حول ثروات المسؤولين السياسيين والمنتخبين والمسؤولين الإداريين المشمولين بالتصريح، وهنا يطرح سؤال الجدوى من ذلك؟". الباحث في العلوم السياسية انتقد تعاطي الحكومة ووزارة العدل مع الملفات، قائلا إن هذا التعاطي يتمّ"وفق تقدير سياسي وليس قانوني؛ إذ إن وزارة العدل تعمل على تكييف فتح تحقيقات وفق حساباتها السياسية وليست المبدئية؛ فهناك ملفات تحال بسرعة للهجوم السياسي، وهناك ملفات تُنتظر فيها الإشارة، وهناك ملفات يقع التغطية عليها، حسب موقع الجهة صاحبة الملف". لكنّ وزير العدل والحريات، مصطفى الرميد، نفى، في وقت سابق، هذه التهمة التي وجهها إليه الفريق النيابي لحزب الأصالة والمعاصرة بالبرلمان، داعيا إلى عدم تسييس الموضوع، وقال: "لن أسمح بذلك،ومستعد للمحاسبة في أي انزلاق في هذا الباب". ولتجاوز الأسباب التي تعوق فتْح تحقيقات في ملفات الفساد التي تتضمنها تقارير المجلس الأعلى للحسابات، وكذا التوظيف السياسي لها، يرى رشيد لزرق أنّ الحل يكمن في "ملاءمة التشريع المغربي عبر اعتماد مقاربة تشاركية، وتنزيل حق الاطلاع على المعلومة، التي ينصّ عليها الفصل 27 من الدستور، تنزيلا فعليا، وتمكين الأفراد والهيئات من الاطلاع عليها". واعتبر المتحدث ذاته أنّ الظاهرة تهم المجتمع ككل وليست قضية دولة أو مؤسسة دستورية، مشيرا إلى أنّ المطلوب هو "إجراء تعديل للإطار التشريعي، بمُقتضاه يتمّ إلزام المجلس الأعلى للحسابات بإنشاء موقع إلكتروني يوفّر جميع المعطيات المتعلقة بثروة الشخصيات السياسية والمنتخبة والمسؤولين المشمولين بإلزامية التصريح بالممتلكات أمام أجهزته الرقابية". وأضاف أنَّ هذه الخطوة ستُمكّن العموم، خاصة رجال الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني، من تتبع ثروات المسؤولين والقيام بدورهم كسلطة رابعة وخامسة، لكشف الفساد ومكافحته، على غرار ما هو معمول به في التجارب الناجحة في هذا المجال؛ وذلك في إطار التكامل بين هاتين السلطتين والسلطة القضائية.