السكتيوي يؤكد عزيمة المنتخب المحلي على الانتصار في مواجهة كينيا    العودة الكبرى لنجوم مسرح الحي    مواجهات بركان والجيش في الأبطال    أخوماش يعود بعد 10 أشهر من الغياب.. دفعة قوية لفياريال وأسود الأطلس !!    الصخيرات تستعد لاحتضان الدورة الرابعة من مهرجان "تيم آرتي" بحضور 16 فنانا بارزا    "المغرب الصاعد" يحقّق تدبيرا ميزانياتيا حذرا ويتحكم في نسبة الدين الخارجي    80% من المقاولات تعتبر الولوج للتمويل البنكي "عاديا" في الفصل الثاني من 2025            مستثمرون من مغاربة العالم: عراقيل إدارية تهدد مشاريعنا بالمغرب    الرئيس الروسي بوتين يعرض وقف الحرب مقابل السيطرة على شرق أوكرانيا    العدالة الفرنسية تلاحق دبلوماسياً جزائرياً بتهم خطيرة.. باريس تكشف الوجه الإجرامي للنظام الجزائري    دول ترفض سيطرة إسرائيل على غزة    وفاة رائد الفضاء الأمريكي جيم لوفيل قائد مهمة "أبولو 13" عن 97 عاما        مشروع قانون مالية 2026..الحكومة تتعهد بمواصلة سياسة الربط بين الأحواض ودعم مدارس "الريادة"    التفاهة من منظور القانون المغربي    قرعة دوري أبطال إفريقيا تضع الجيش ونهضة بركان في مواجهات حاسمة    موسم مولاي عبد الله أمغار... 122 سربة و2065 فرس يرسمون لوحات التبوريدة في أبهى صورها    المغرب ينال ذهبية بالألعاب العالمية    ترويج الكوكايين يوقف ستة أشخاص    الملتقى الدولي لمغاربة العالم يحتضن مبادرات مغاربة العالم    الجزائر.. نصف قرن من الحَرث في العدم    "رابأفريكا" ينطلق بحضور جماهيري لافت    "زومبي" الرعب وموت أخلاق الحرب    "بعيونهم.. نفهم الظلم"    توقعات أحوال الطقس لليوم السبت    مداغ: شيخ الطريقة القادرية البودشيشية جمال الدين القادري بودشيش في ذمة الله    حكم ثقيل على إمام مسجد بجماعة المعاشات بسبب اعتداءات جنسية    الملك محمد السادس يواصل رعايته السامية لمغاربة العالم عبر برامج تعزز الارتباط بالوطن وتواكب التحول الرقمي    جلالة الملك يهنئ رئيس جمهورية سنغافورة بمناسبة العيد الوطني لبلاده    الدرهم يرتفع مقابل الدولار وتراجع مقابل الأورو خلال الأسبوع الماضي وفق بنك المغرب    بورصة الدار البيضاء .. أهم نقاط ملخص الأداء الأسبوعي    برنامج "نخرجو ليها ديريكت" يناقش تفاوت التنمية بين جهات المملكة وتحذيرات من استمرار المغرب بسرعتين    وفاة محمد المنيع عمدة الفنانين الخليجيين    محامية تتعرض لاعتداء خطير على يد زوجها المهاجر داخل مكتبها    المديرية العامة للأمن توقف ضابط مرور طلب رشوة 100 درهم مقابل عدم تسجيل مخالفة    أنفوغرافيك | سوق الشغل بالمغرب خلال 2025.. انخفاض طفيف للبطالة مقابل ارتفاع الشغل الناقص    أكثر من مليون مهاجر غير شرعي غادروا الولايات المتحدة منذ عودة ترامب    كيوسك السبت | التجارة الإلكترونية بالمغرب تلامس 2200 مليار سنتيم سنويا    زوما يصفع من جوهانسبرغ النظام الجزائري والموالين له بجنوب أفريقيا: نجدد دعمنا لمغربية الصحراء وعلم جنوب إفريقيا رمز للشعب وليس أداة بيد السلطة    تمديد فترة الميركاتو الصيفي بالمغرب إلى غاية 25 غشت    مجلس الأمن الدولي يعقد اجتماعا طارئا الأحد بشأن خطة إسرائيل السيطرة على غزة    المقاتل المغربي الرشيدي يرفع التحدي في بطولة PFL إفريقيا    تيزنيت : شبهات تواطؤ بين مسؤولين ولوبي العقار في قضية الواد المدفون    الولايات المتحدة.. ترامب يعين مستشاره الاقتصادي عضوا في مجلس البنك المركزي    بطاقة «نسك» لمطاردة الحجاج غير الشرعيين وتنظيم الزيارات .. طريق الله الإلكترونية    وفاة الفنان المصري سيد صادق    النجم الحساني سعيد الشرادي يغرد بمغربية الصحراء في مهرجان "راب افريكا"    العربيّ المسّاري فى ذكرىَ رحيله العاشرة    هنا جبل أحد.. لولا هؤلاء المدفونون هنا في مقبرة مغبرة، لما كان هذا الدين    المغرب يواجه ضغوطا لتعقيم الكلاب الضالة بدل قتلها    تسجيل 4 وفيات بداء السعار في المغرب خلال أشهر قليلة    "دراسة": تعرض الأطفال طويلا للشاشات يزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب    من هم الأكثر عرضة للنقص في "فيتامين B"؟        الملك محمد السادس... حين تُختَتم الخُطب بآياتٍ تصفع الخونة وتُحيي الضمائر    المغاربة والمدينة المنورة في التاريخ وفي الحاضر… ولهم حيهم فيها كما في القدس ..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المدينة إما حياة لمثقفيها أو مقبرة لهم!
نشر في هسبريس يوم 19 - 08 - 2011

هل يحتاج المثقف ­أحيانا ­ إلى تغيير المكان والزمان حتى يتسنى له التفكير بحرية وبمقاصد أسنى من تلك التي سيقف عندها لو بقي في مكانه كما هو، ألا تشكل هذه الشجاعة في "الرحيل" واختيار المنفى قسرا، خروجا من إطار الزمان والمكان اللذان يعتبران من جملة الشروط المحددة لكل تفكير في المدينة‐الوطن؟ أم نستطيع أن نبدع المفاهيم ونستشكل الإشكالات ونتطارح الأطروحات ونتنادى بها في «داخل» الزمان والمكان كما في «خارجهما»، مع العلم أننا لا نقصد بالمكان هنا سوى الوطن، وبالزمان، الانتماء التاريخي له. وهل يستطيع المثقف المفكر الباحث عن الحق والحقيقة أن يعيش زمانه ويقصد مكانه «بين بين»، بين الغياب والحضور، بين الوطن واللاوطن؛ حينها سيكون حضوره بالجسد قطعا، أما روح فكره فهي في الغياب سابحة، أو قل في عوالم لا يستطيع العالم المادي بلوغها. وها نحن هنا نقترب أكثر إلى تجارب المتصوفة ومن سار على دربهم في التفكير والعبادة، لكن التساؤل الآخر الذي يطرح هنا : هل كل من سار على دربهم وصل، أم تاه في متاهات ما فوق المحسوس والخيال، بل والمجرد نفسه !
قيل عن الإنسان إنه «مدني بالطبع»؛ ويشرح إبن خلدون هذا القول (أن الإنسان لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية .. وهو معنى العمران) . ومنه فإن الاجتماع المدائني ضروري للإنسان حتى يكمل وجوده، بل إنه «جزء مدينة» كما يقول إبن رشد، أي أنه لا يستكمل كمالاته وفضائله الإنسانية، بل وحاجاته الضرورية، إلا من حيث هو جزء مدينة، لا من حيث هو جزء من الطبيعة كما وضح ذلك د‐ محمد المصباحي.
وعلاقة المثقف بالمدينة عبر التاريخ تكاد تتراوح بين مد وجزر، حب وكراهية، وعندما ترفض المدينة مثقفيها فهي تكون بداية نهايتها، بشكل أو بآخر؛ فالمثقف في عمقه يحمل روحا نقدية، ولم يوجد سوى للنقد والهدم ثم البناء وإعادة البناء، لأن الأدوات التي يشتغل بها لا تصلح أبدا للتجميل.
المشكلة تكمن في من لا يقبل النقد، خصوصا إن كان متفردا في مدينة يملؤها الخوف من هذا التفرد نفسه، فضلا على خوفها من تجديد التفكير ووضع سهام النقد في مرمى الجرح؛ لهذا فمثل هذه المدينة لا تجد من حل أمامها سوى أن تعمل على رفض كل مثقف يتكلم في تأخرها التاريخي وأمراضها المزمنة وذاتها الممزقة، ودفعهم إلى اعتزالها كراهية أو بطيب خاطر‐ إلا قلة قليلة من الصابرين على بأسها‐ إن لم ترميهم بالكفر والخيانة : وهل يستطيع التكفير أن يكون رحيما بالمفكرين !
المدينة إما أن تكون حياة لمثقفيها أو مقبرة لهم، لا توجد منزلة بين المنزلتين؛ إما أن يشاركوها الحياة بتفكيرهم وعملهم، أو يشاركوها الموت بغيابهم واعتزالهم لقضاياها؛ ومنه نفهم لماذا نجد المثقف أكثر اتهاما من غيره، وأحيانا كثيرة يكون في أعيننا المسؤول الأول عن كل الشرور التي تحدث في المدينة، وإلا لمن نتركها هل لحفنة من السماسرة الذين تختلط دماء عروقهم برائحة الخيانة : خيانة الأمانة والكرامة والعدالة !
ثم هناك معضلة أخرى تكاد تكون أشبه بظاهرة سوسيولوجية، هي ظاهرة " إرادة الاعتزال" أو" العزلة" أو ما عرف بالسكن في البرج العاجي– بعيدا عن المعنى الصوفي للكلمة–؛ إذ ما معنى أن يقرر مثقف مفكر الحياة في المنفى وإرادة العزلة في لحظة من لحظات الوجود المتدفق بالأسئلة، والمملوء بكثير من الدهشة، هل يمكن أن يصير المنفى ذات أخرى وهوية ؟ وهل يحلو لنا التفكير ونحن غرباء أكثر مما يسعفنا في أوطاننا الأصلية، أم ­وهنا المفارقة القاتلة أحيانا­ لا وطن للمثقف كما للفكر! فأينما وجد الظلم فَثَمَّ موطنه، وأين وجدت الأسئلة فَثَمَّ مقامه؛ لأننا نعتبر المفكر مثقفا يرفع عن الناس الظلم ويبسط الأسئلة حتى لا تبقى العقول في سباتها العميق. أليس المثقف كائن مدائني، يفكر في مدينته التي ينتمي إليها بالوجود، لا انتماء قوة، بل انتماء فعل وعمل ؟! أليست المدينة هي الأساس الذي يبنى عليه الوطن فضلا على أن المثقف عندما يفكر فهو يفكر انطلاقا من فضاء المدينة، فهل يصح أن نفكر خارجها، أو أن يكون قلبه معلق بفضاء آخر! والذي لا يفكر في مدينته هل يمكن أن يفكر في وطنه، وفي المصير الذي يجمعنا كأمة، وبالأوطان الأخرى كإنسانية ؟!
****
الحكيم اليوناني سقراط (470- 399ق.م) واحد من هؤلاء الذين كانت مدينتهم قاسية عليهم جدا؛ فرغم حبه وإخلاصه لأثينا إلا أنها لم تشأ أن تبادله عين الود بالود. ومن المعلوم، أن محنة سقراط بدأت عندما تقدم كل من أنيتوس ومليتوس ولوكون بدعوى يتهمون فيها سقراط بتحريض الشباب ضد الدولة وإنكار آلهة اليونان وابتداع آلهة جديدة غير آلهة الدولة، وصنع قضية قوية من قضية ضعيفة، وفي ذلك يقول" هذه الإفتراءات هي التي حرضت ضدي ميليتوس وأنيتوس ولوكون، ميليتوس مملوءا ضغينة باسم الشعراء، وأنيتوس ممثلا للصناع والسياسين، ولو لكون ممثلا للخطباء " وهذه الفئات هي التي كان سقراط يحاججها؛ فمن المعروف تاريخيا، أنه كان يجوب دروب أثينا، سائلا مستشكلا مواطنيها البسطاء والأعيان على حد سواء، يحركه هم مدائني والرغبة في أن تكون أثينا وكل مواطن ينتمي إليها في أفضل حال، لكن تجري رياح أثينا بما لا تشتهي سفن سقراط .. حيث لم يكن مراده سهل المنال.
كل من حاوره سقراط يبطل دعواه و يتركه في دهشة وشك في المعارف والحقائق التي يعتقد في رجاحتها و ثباتها؛ كل من حاوره سقراط كشف له جهله حتى وإن كان من كبار أعيان المدينة، بمن فيهم رجال السياسة. وهذا ما جعل العديد من أهم رجالات أثينا يحقدون عليه؛ يقول سقراط فيما يرويه أفلاطون في محاورة (الدفاع):"أحد رجال السياسة، وقد جعلني فحصه، أيها الأثينيون، أحس بالتالي: فأثناء الحوار معه بدا لي أنه يبدو في نظر الكثيرين من الآخرين، وفي نظره هو نفسه على الخصوص، حكيما، أما في الحقيقة فإنه ليس بالحكيم. فحاولت إذن أن أبين له أنه يعتقد أنه حكيم ولكنه في الواقع ليس كذلك، فكانت النتيجة أن حقد علي هو وكثير من الحاضرين ".
عندما ترفض مدينة مثقفا ما، فإنها مستعدة إلى أن تطعمه السم أو تصلبه أمام مواطنيها، أو تحكم عليه بالإعدام (كما حدث مع سقراط) هدفا في الحفاظ على صمتها وخوفها ووجهها القبيح من وراء جدرانها، لكنها تجهل تماما أن الحق مثل حبات الماء ينقش الحجر كلما توالت قطراته !
نعود ختاما لنتساءل: في مغربنا، ومن هذا الوطن العربي الكبير.. هل المدينة مؤهلة بما يكفي لتحتضن أراء مثقفيها، أم أن العلاقة بينهما ستبقى دائما بين مد وجزر. وقبل ذلك، كيف يصبح المثقف مدائنيا مواطنا؛ هل يكفي الإنتماء، أم أن المثقف لا يعتبر مثقفا إلا شريطة أن يشارك في إشكالات كونية بعيدة عن إهتمام مدينته، وما يحقق خيرها وسعادتها في العاجل وفلاحها في الآجل . ثم كيف يجب أن نفكر في المثقف المدائني؟ من يكون ؟ وما هويته؟ وما موقفه من قضايا ترتبط بالدولة والأمة والإنسانية؟ ..
قبل الختم .. لا بد من الإشارة إلى أن الدكتور المغربي محمد بلال أشمل ألف كتابا تحت عنوان ′ تطاون العامرة، أفقا للتفكير′ سنة2002 كنموذج فلسفي من النماذج القليلة جدا في الوطن العربي التي اهتمت بالفكر المدائني .. نقطف من بستانه الزهور التالية، فتأمل ..
يقول أشمل: تولد المواطنة الفعلية، في نظرنا، بوعي مكوناتها الجزئية، وعيا كليا في الزمان والمكان والإنسان، وتنشأ باختيار الانتماء إليها إرادة؛ عبر نسج عواطف المحبة معها، وإبداء آيات الولاء لها، والسلوك بإخلاص معها، واستشعار مشاعر الفخر والاعتزاز بها، وتنضح بالاستعداد للدفاع عنها متى تعرضت لهجوم، أو حاق بها خطر، أو تربص بها عدو. ولعل أولى مهمات هذه المواطنة الفعلية، جعل المدائن الوطنية موضوعا للتفكير العام، في أفق تحقيق وطن جديد على شروط النظر المدائني، يبدأ بمكوناته الجزئية، وينتهي إلى كليته العامة، وطنا مدائنيا بالبداية، ووطنيا بالإمتداد.
فاتحة الكتاب، ص 9.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.