الأقاليم الجنوبية، نموذج مُلهم للتنمية المستدامة في إفريقيا (محلل سياسي سنغالي)    نبيل باها: عزيمة اللاعبين كانت مفتاح الفوز الكبير أمام كاليدونيا الجديدة    البطولة: اتحاد طنجة المنقوص عدديا ينتصر على نهضة بركان    مجلس الشيوخ الفرنسي يحتفل بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء المظفرة    "أونسا" ترد على الإشاعات وتؤكد سلامة زيت الزيتون العائدة من بلجيكا    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    الدار البيضاء تحتفي بالإبداع الرقمي الفرنسي في الدورة 31 للمهرجان الدولي لفن الفيديو    نصف نهائي العاب التضامن الإسلامي.. تشكيلة المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة أمام السعودية    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    كرة القدم ..المباراة الودية بين المنتخب المغربي ونظيره الموزمبيقى تجرى بشبابيك مغلقة (اللجنة المنظمة )    بعد فراره… مطالب حقوقية بالتحقيق مع راهب متهم بالاعتداء الجنسي على قاصرين لاجئين بالدار البيضاء    أيت بودلال يعوض أكرد في المنتخب    أسيدون يوارى الثرى بالمقبرة اليهودية.. والعلم الفلسطيني يرافقه إلى القبر    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    حصيلة ضحايا غزة تبلغ 69176 قتيلا    بأعلام فلسطين والكوفيات.. عشرات النشطاء الحقوقيين والمناهضين للتطبيع يشيعون جنازة المناضل سيون أسيدون    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    توقيف مسؤول بمجلس جهة فاس مكناس للتحقيق في قضية الاتجار الدولي بالمخدرات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    مديرة مكتب التكوين المهني تشتكي عرقلة وزارة التشغيل لمشاريع مدن المهن والكفاءات التي أطلقها الملك محمد السادس    عمر هلال: اعتراف ترامب غيّر مسار قضية الصحراء، والمغرب يمد يده لمصالحة صادقة مع الجزائر    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الرئيس السوري أحمد الشرع يبدأ زيارة رسمية غير مسبوقة إلى الولايات المتحدة    أولمبيك الدشيرة يقسو على حسنية أكادير في ديربي سوس    شباب مرتيل يحتفون بالمسيرة الخضراء في نشاط وطني متميز    مقتل ثلاثة أشخاص وجرح آخرين في غارات إسرائيلية على جنوب لبنان    دراسة أمريكية: المعرفة عبر الذكاء الاصطناعي أقل عمقًا وأضعف تأثيرًا    إنفانتينو: أداء المنتخبات الوطنية المغربية هو ثمرة عمل استثنائي    "حماس" تعلن العثور على جثة غولدين    النفق البحري المغربي الإسباني.. مشروع القرن يقترب من الواقع للربط بين إفريقيا وأوروبا    درك سيدي علال التازي ينجح في حجز سيارة محملة بالمخدرات    الأمواج العاتية تودي بحياة ثلاثة أشخاص في جزيرة تينيريفي الإسبانية    فرنسا.. فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات باريس الدامية للعام 2015    لفتيت يشرف على تنصيب امحمد العطفاوي واليا لجهة الشرق    الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    بنكيران: النظام الملكي في المغرب هو الأفضل في العالم العربي    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المغرب بين ثقافة المواطنة وثقافة الرعية
نشر في هسبريس يوم 30 - 10 - 2017

طرح تداول مفهوم المواطنة في البلدان العربية والمغاربية، بما فيها المغرب جملة من التعقيدات، منها ما ارتبط من جهة بعمق دلالات مفهوم المواطنة ذاته والمفاهيم المصاحبة له، كالديمقراطية وحقوق الإنسان، في مقابل هشاشة سياقات الممارسة السياسية في الدول المستقبِلة، وسيادة مفهوم الرعية أكثر، ومنها من جهة أخرى ما تعلق بالنسق الثقافي والقيمي للأفراد، ومن ثم المجتمع ككل. فبديهي أن الناس من صنع الثقافة التي يعيشون فيها ، وبما أن المواطنة تتجه إلى هؤلاء الناس فعليها أولاً أن تؤسس حمولاتها ودلالاتها وفق الشروط الكفيلة بتوطينها تماهيّاً مع ثقافتهم.
هنا نتساءل: هل يطابق مضمون المواطنة الواقع المغربي ؟ وكيف أسس المشرع المغربي لهذا المفهوم ؟ وما موقع المواطنة في المسار الديمقراطي الذي يحاول المغرب تكريسه في ظل ثقافة الخنوع السياسي السائدة ؟
عودةً إلى التاريخ السياسي المغربي، يتبين لنا أن هناك مفهوماً آخر قد أطر علاقة الحاكم بالمحكومين ولازال يؤطر هذه العلاقة وإن بأشكال مختلفة، وهو مفهوم الرعية Sujétion ( مفهوم بصيغة الجمع ولا يقبل صيغة المفرد ). هذا الأخير أوجده المناخ الاجتماعي والسياسي السائد آنذاك، والذي يرسخ ثقافة الخنوع والخضوع والراعي والرعية. والمتأمل "للأدب السياسي السلطاني المغربي، يجد مفهوم الرعايا يتكرر مراراً للإشارة إلى المحكومين الذين يسدون واجباتهم تجاه السلاطين. إن الرعية كأساس تتمظهر أولاً بالولاء للسلطان، أي "الامتناع عن أي عمل سياسي.". إن الاستخدام الحصري لمصطلح الرعية للدلالة على المحكومين، هو تصور للفضاء السياسي ورؤية لعلاقة الدولة بالمجتمع قائم على الاستحواذ من قبل راعٍ على غنمه، هذا الأخير يجابهه بالطاعة".
لقد كانت المشاريع القانونية والدستورية التي عرفها المغرب قبل الألفية الثالثة متميزة بنوع من التطور المفاهيمي في مسألة العلاقة بين الدولة والأفراد. إذ يلاحظ مدى تراجع البيروقراطية السلطانية في مقابل وجود إرادة للإصلاح السياسي وبناء دولة الحق والقانون. ومع ذلك كان لمفهوم الرعية حضور في تلك المشاريع، وإن بطبع أخف، بل وصل الأمر إلى حد إظهار مساوئ ثقافة الرعية هذه. وهنا بالذات "ومع تلاشي حدة استخدام مفهوم الرعية، برزت سلسلة من المفاهيم: الفرد، المغربي، الناخب، الشعب، السكان ... هذه المفاهيم، إضافةً إلى مفهوم الأمة، شكلت الخطوة الأولى في اتجاه التأسيس لمفهوم المواطنة".
هكذا تطورت الأمور، فبدأت بعض التنظيرات تخوض في مسألة العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وأبرزها ما أسس له السياسي المغربي علال الفاسي، فالبرغم من أنه لم يستطع الابتعاد كثيراً عن الترسانة المفاهيمية التقليدية، إلا أنه استفاد منها في بلورة مشروعه، حيث تمرد بفكره على الفكر السلطاني، فوصف المحكومين بمفاهيم من قبيل الشعب، الأمة ومجموعة من المواطنين. لقد تجاوز بهذا المعنى مفهومي السلطان والرعية ليؤسس لمفهومين جديدين هما الملك والشعب.
وبالنظر إلى الواقع المغربي وما يؤطره اليوم من تفاعلات بين الأفراد والجماعات والنظام السياسي والثقافة السائدة، ومع بعض الأسس القانونية التي تم إنجازها، و "على اعتبار أن المواطنة تتضمن عناصر النظام المدني والسياسي والاجتماعي. ويتكون العنصر المدني من حقوق ضرورية للحرية الفردية ومن الحقوق والواجبات المواكبة لها. أما العنصر السياسي، فيقتضي الحق في المشاركة في الحياة السياسية. في حين، يشترط العنصر الاجتماعي مجموعة من الحقوق المتعلقة بالحق في الرفاه الاجتماعي والسلامة الجسدية والنفسية، إضافة إلى الحق في العيش حياة كائن متحضر حسب القواعد التي تتحدد داخل المجتمع. ومن نافلة القول الإشارة إلى أنه لابد أن يرتبط كل هذا بتوفير آليات التمكين والولوج والممارسة لهذه العناصر."( ) . نلاحظ جليّاً أننا أمام نسق مغاير لما تستدعيه ثقافة المواطنة من بنى قانونية، تربوية واجتماعية ممأسسة، إذ ينعدم ذلك المناخ الداعم لفكرة المواطنة بفعل التنشئة التي تطبق على الأفراد منذ ميلادهم كأناس تابعين لراعيهم. ففلسفة المواطنة وفقاً لهذه المعطيات محاصرة بثقافة سياسية رعوية يغذيها غموض مهام المؤسسات والترهيب بالقوة والقمع الممنهج وهيمنة الدين الرسمي في ظل مجتمع تتعايش فيه المتناقضات بين الحديث والقديم.
في سياق هذا التشابك بين الحداثة والتقليد "يؤكد السوسيولوجي المغربي بول باسكون أن النخب السياسية الحاكمة في المغرب تلجأ إلى سياسة الترقيع بمزج الجديد بالقديم وبتوفير التأطير والتسيير للبنى التقليدية المدمجة، خاصة البنى القبلية، القائدية والجمعيات الدينية بأقل تكلفة وعلى المدى القريب المؤجل باستمرار، ولهذا اعتبر باسكون المجتمع المغربي مجتمعاً مزيجاً يتجنب تحديد المشروع المجتمعي، يتحالف مع التقاليد ويدعم أو يحافظ على علاقات الإنتاج والصلات الاجتماعية التي تنتمي إلى عصر آخر لرفض التمكن من وسائل التحويل، لأن المجتمع المغربي لا يملك مشروعاً وطنيا وتراكما داخليا يسمحان بتحريك الطاقات وبأداء ثمن الانتقال." .
تفيدنا تجارب النظم السياسية الحديثة في الغرب بأن عملية بناء المواطنة متكاملة مع سيروة ترسيخ فكرة الديمقراطية وتوطينها في الثقافة السياسية، وأن المواطنة والديمقراطية متلازمتان من حيث التطور والمآل. فالمواطنة بحسبها درجةً من وعي الانتماء إلى هوية جماعية، تحتاج إلى إطار دستوري وسياسي، أي دولة تحضنُها، وتصونها، وتضمن للأفراد إمكانيات وفرص الشعور بها، أي بمواطنتِهم. هنا نتساءل: هل نملك الإرادة الكافية للتخلي عن الخنوع في المغرب ؟ وهل يمكن تحقيق انتقال ديمقراطي فعلي يعين على إثمار التغيير الجذري الذي تلعب فيه المواطنة دور الفاعل المركزي ؟
الحال أن دولةَ ما بعد الاستقلال في المغرب منحت الأفرادَ جنسيةً، لكن لم توفر لهم شروطَ امتلاك مواطنة بمعناها العام والشامل، كما حددناه سابقاً. ولهذا كان استنبات المواطنة في المجال السياسي المغربي عسيراً، ويرجع ذلك إلى مجموعة من العوامل أبرزُها طبيعة الدولة الوطنية الحديثة، ونوعية النظام السياسي الحاكِم، والصعوبات التي حالت دون مراكمة ثقافة سياسية ديمقراطية.
فمن جهة، ظلت دولة ما بعد الاستقلال مرتبطةً بإرثها التاريخي ذي الطبيعة السلطانية على الرغم من مظاهر التحديث والعصرنة التي طالت مجمل تشريعاتها وقوانينها، وطبعت مؤسساتها. ومن جهة أخرى، استمرت علاقة الدولة بالمجتمع موسومةً بقدر كبير من التسلّط والتحكم، الأمر الذي حال دون ميلاد المتطلبات اللازمة لبروز مفهوم المواطنة وتوطّنه في المجتمع المغربي. فالمواطنة ليست بسيطة، إنها "وعي الفرد بانتمائه إلى جماعة محددة مندمجة اجتماعيا وذات هوية سياسية، والحال أن ذلك لا يتحقق إلا في دولة مؤسسة على شرعية دستورية وسياسية، وقادرة على احتضان الجميع على قاعدة ميثاق اجتماعي، يكفل للألفراد مواطنتهم، سواء في وجهها الحقوقي والقانوني، أو على صعيد المشاركة السياسية التي تسمح لهم بتقرير مصيرهم بطواعية واقتناع، وتجعل منهم كائنات سياسية مندمجة في المعمار الاجتماعي والسياسي العام، ومساهمة بفعالية في التفكير في الشأن العام، والاجتهاد في حلِّ إشكالياته.".
ليست العلاقة إذاً تلازمية بين المواطنة والديمقرطية فحسب، بل هي أكبر وأعمق من هذا. إنها علاقة وجود، واستمرار وديمومة. والواقع أن تاريخ المواطنة غير مفصول عن تاريخ الديمقراطية، فهما معاً نتاج مسار واحد، لذلك، تعتبر الديمقراطية الوعاءَ الذي يحضن المواطنة، ويُيَسِّر لها شروط الاستقرار والتوطن في الثقافة السياسية، خاصة إذا كانت هذه الأخيرة في ظل دولة تكون فيها الشرعية للأفراد، وليس كما هو الحال في المغرب، إذ "إن ما يسم النموذج المغربي هو أن الدولة هي التي تتحكم وتحتكر الشرعية، وبالتالي هي الممثلة الأولى للأمة، إنها التي تتحكم في أشكال التنظيم والتمثل وقواعد الانتماء فيه، وهكذا تصبح المواطنة خاضعة وغير فاعلة" .
إن المواطنة في ظل مناخ تتحكم فيه الدولة حتى في أبسط ما يحق للأفراد التحكم فيه تعيش حالة أزمة، والإشكال أن هذه الأزمة هي في " إحدى أهم وظائفها وهي المشاركة السياسية، إنها حقا أزمة في الرابط المدني، أي في النظام التمثيلي" . وفي هذه الحالة يصعب المطالبة بتحديث النظام السياسي من طرف جهات وتيارات وهيئات هي نفسها حاملة لعوائق التحديث والمواطنة. قد يقال بأن " ما يجري على صعيد الشرق الأوسط وشمال إفريقيا له دور في تسريع صياغة المطالب، أو أن الحراك الاجتماعي الذي عرفه المغرب، هو ما أملى الدعوة إلى الانتقال إلى زمن سياسي جديد بمطالب سياسية جديدة، من أبرزها تجاوز ثقافة الرعية. لكن الواقع يؤكد افتقار مؤسساتنا إلى ما يكفي من التأهيل والجاهزية للارتقاء إلى مستوى الانسجام مع المطالب" ، بما فيها إعادة النظر في علاقة الفرد المغربي بالدولة.
قانونياً، ومع حلول الألفية الثالثة، أصبح الحق والقانون شعار ومرتكز الدولة المغربية في علاقتها بالأفراد، وإن على مستوى التشريعات الرسمية، وتم الاشتغال أساساً على الجانب التربوي باعتباره الدعامة الأساسية لترسيخ مبادئ الديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان، " والتربية المعنية هنا ليست هي التعليم والتأهيل فحسب، فالتعليم والتأهيل يجب أن نطالب الدولة بالقيام بهم. لكن الأهم من هذا وذاك هو التربية على المواطنة. فالتربية على المواطنة لا يمكن لها أن تكون إلا ديمقراطية مبنية على صياغة الفرد الحر المسؤول، المتجه أساسا نحو المصلحة والفائدة عن طريق توظيف العلم التجريبي. وقد آن الوقت لكل من يريد أن ينخرط في المشروع التحديثي أن يعتبر أن المسؤولية عليه، وأنه لا يمكن مستقبلا أن ينتظر كل شيء من الدولة". إن الاهتمام بهذا الجانب لا يمكن أن يتم إلا بتوافقٍ تامٍّ لمختلف الفاعلين المغاربة، خاصةً في الحقل السياسي. إذ إن " التوافق يمثل آلية عصرية في الفعل السياسي، وتغييبه باسم منطق التحكم كثيرا ما يؤدي إلى نتائج كارثية على الجماعة الوطنية، ونشهد اليوم على شخوصها ومشاهدها وفصولها فيما تعرفه بعض الدول " من تمزقٍ لأوصالها ومؤسساتها.
إن المشرع المغربي وانطلاقا من مختلف التغيرات الجارية في محيطه الإقليمي، قد تفطّن نوعاً ما لأهمية الجانب التربوي، ونلمس ذلك حتى في الميثاق الوطني للتربية والتكوين، هذا الأخير ينصّ على نموذج جديد للمدرسة، أي المدرسة المواطِنة، إذ " تسعى المدرسة المغربية المواطِنة الجديدة إلى أن تكون مفعمة بالحياة، بفضل نهج تربوي نشيط، يجاوز التلقي السلبي والعمل الفردي إلى اعتماد التعلم، والقدرة على الحوار والمشاركة في الاجتهاد الجماعي [...]، إن المواطنين بهذا المعنى يربون مشبعين بالرغبة في المشاركة الإيجابية في الشأن العام والخاص وهم واعون أتم الوعي بواجباتهم وحقوقهم " .
وفيما يتعلق بدستور 2011، فقد أَوْلى أهمية بالغة للمواطنة، إذ اعتبرها أساساً لبناء الدولة الوطنية الحديثة القائمة على مبدأ المساواة بين جميع المواطنين دون تمييز، وعلى احترام حقوق الإنسان، وينص الدستور خاصة على المساواة في تلك الحقوق بين المرأة والرجل، سواء الحقوق المدنية والسياسية، أو الحقوق الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية. لقد تكررت كلمات المواطنين والمواطنات عشرات المرات في الدستور، وذلك في بداية كل فصل يتوجه لهؤلاء المواطنين والمواطنات، وهو ما يؤكد ذاك الاهتمام الذي أشرنا إليه.
إن تأسيس ثقافة المواطنة في المغرب يستدعي بالضرورة، إضافة إلى الترسانة القانونية التي تم بناؤها، "هدم ثقافة الرعية التي تمتلك بنىً راسخة، بينما ثقافة المواطنة مازالت فكرة تجوب الأجواء" . ومن المؤكد أن القائمين على السلطة في المغرب واعون بهذه المعادلة، لكنهم يقاومون حتمية التغيير باستغلال البطئ الذي يسم عملية التغيير ذاتها، وهكذا يتم الحفاظ على الثقافة السياسية الرعوية "عن طريق تحويل عناصر ثقافة المواطنة من عناصر يفترض أن تحدث صدمةً وصراعاً مع مكونات الثقافة السابقة إلى عناصر مهادنة تم تطويعها لتنصهر في جسم الثقافة التقليدية فتغذيه وتكيفه." . لابد إذاً من تجاوز هذه الأنساق الثقافية التقليدية، ورغم أن المسار ليس بيسير إلا أنه ليس بمستحيل أيضاً، خاصة إذا انخرط الأفراد أنفسهم في عملية التغيير هذه، لأنهم المعنيون والمسؤولون عن تحررهم كما الحكام مسؤولون عن قهرهم واضطهادهم.
يجب إذاً الدفع بالإيمان بأهمية المواطنة وانخراط المواطنين في بنائها بدل خطاب الإحباط واستحالة التغيير، وذلك من خلال التعريف ببعض المنجزات التي تمت مع الوقوف على هشاشة عدد منها سواء على مستوى القوانين أو الحقوق والخدمات والولوج إليها وجودتها. إن الاحتجاج هو الآخر من إحدى المهام النضالية الواجبة، لكن التفكير في أشكاله ونتائجه يتطلب نظرة عميقة وتفكيرا هادئا يرتكز على قيم المواطنة ذاتها وتبيان الحق من الواجب. وهو ما يتطلب النظر إلى المواطنة من الزاوية التربوية ومحاربة السلوكات اللامدنية ليس فقط على مستوى الأسرة والمدرسة، بل على مستوى مختلف المؤسسات التمثيلية والتنشيئية.
إن التحولات السياسية والاجتماعية الجارية حاليا، تحتم على النخب المغربية المحايدة السعي لانتزاع الحقوق السياسية لتكريس قيم ومبادئ المواطنة في المجتمع، كأحد السبل لترسيخ قيم الممارسة الديمقراطية ودولة الحق والقانون على أرض الواقع، وإن تطلب الأمر التحالف مع من يقف ضد هذا المسار في البداية، المهم الوصول إلى مراكز قرار تمكن تلك النخب من تدشين مشروع مجتمعي واضح المعالم بأسس تربوية، قانونية واقتصادية قادرة على إنتاج مواطنات ومواطنين واعيين بمضمون المواطنة فكراً وسلوكاً.
هكذا إذاً يمكن القول بصعوبة الحديث عن المواطنة في ظل مجتمع لازالت بنى التسلط التقليدية هي التي تتحكم فيه، مع ما يحيط بها من ثقافة رعوية. لكن ذلك لا يعني أبداً استحالة تدشين مشروع مجتمعي، غايته بناء مجتمع المواطنة الحقّة. ولهذا ينبغي القطع مع خطابات الحتمية والإحباط، ورسم مسار مستقيم يمهد لتوطين قيم المواطنة في ممارسة كل الفاعلين في المجتمع المغربي، وإن تطلب ذلك الانتقال إلى دولة بفلسفة جديدة، شعارها الشرعية الدستورية والقانونية وسيادة القانون.
إن مصدر التفاؤل في هذا المشروع هو تلك العلاقة التلازمية بين المواطنة والديمقرطية، فلا أحد يتصور أن القائمين على السلطة حالياً في المغرب يرفضون الديمقراطية، وإلا فلماذا يتغنون بها في كل المناسبات؟ هنا بالذات ينبغي الانطلاق، والمسؤولية على عاتق النخب الواعية لتدرك أن تاريخ المواطنة غير مفصول عن تاريخ الديمقراطية، فهما معاً نتاج مسار واحد. لذلك، لابد من ترسيخ ثقافة المواطنة كجزء أساسي في الثقافة السياسية المغربية، وهذا سيضمن بالضرورة بناء دولة تكون فيها الشرعية لمجموع المواطنات والمواطنين، وليس لأشخاص وجماعات بعينها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.