افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس فاتح ماي 2025 حسنا لنكن واقعيين في عيد العمال، أوَ ليس التضارب ما زال على أشُده بين الأسمال والرأسمال، لنكن واقعيين بما يتناغم مع أقنعة أهل الوقت، فالوجه الواحد في زمننا الأغبر، غير قابل للتداول بما أن للعملة وجهين، انتهى زمن المثقف البروليتاري غير المنسلخ عن هموم الشعب، ولم يعد مقبولا من الأفكار إلا الجارية مع السيولة في الجيب، تلك التي خلقت من عجينة مرنة، مثقفا قابلا للتّشَكُّل ولو على هيئة حذاء، ولا يهم الشّرف، فهو إرث بالي من نصيب الفقراء، المهم هو ذاك المثقف المحيط بكل الموائد كنادل المهرجانات الثقافية، إنه المثقف الكأسمالي.. فإيّاك والقرف ! ألم أقل ذات مرارة، وأعود إلى قولها ألف مرة، يَحقُّ لحَمَلة القلم بالمغرب، الذين يهرقون من عرق الحبر في التفكير والإبداع سواقي، أن يشاطروا كل عمال العالم، قيامة فاتح ماي، أليس يعتبر الاشتغال في الثقافة، صنفاً من الكدح اليومي، في غياب كل الحقوق الإعتبارية للمبدعين، مادياً ورمزياً؟ كان أجدر بأضرحة المؤسسات الثقافية التي تغط في رخام النسيان البارد، أن لا تُفوِّت تسجيل حضور قوي بكل نخبها الفكرية في شارع فاتح ماي، للمناداة ولو على مسامع الريح، بتحقيق كل المطالب الإنسانية للمثقف المغربي، فما أكثر ما هُضِمت حقوقه في هذا البلد، ألا يكفي أنها أصبحت إسهالا لا تحتويه أوسع المجاري! لن أستعرض كل الحاجات الأقرب في حيويتها من الهواء، تلك التي تُعوز المثقف المغربي ليكون معْتَبَراً في المجتمع، لأني أخجل من عضلاتها الضامرة، فقد حولت هذا الإنسان الذي يعيش أو يموت بمنتوجه الفكري، جلداً على عظم، في الوقت الذي يسمن آخرون بهذا المنتوج المعصور من دماغ، فلا هو يستخلص من الناشرين أتعابه المادية نظير ما يُسوِّده في كتب تتحول مع الأيام إلى محرقة كبرى للأعصاب، ولا هو يحظى بجائزة تقديرية رفيعة وفاخرة تكرم فيه التجربة في أرذل العمر، ولا هو يحمل بطاقة اعتراف بمهنة الكاتب تقيه صروف الدهر من عوز ومرض، فكيف لهذا الضمير الحيوي الذي توليه المجتمعات المتقدمة مراتب النبوة، أن يُعبِّر عن الأمة وذاكرتها، بحرية وقوة لتنقشع من رأسه الأنوار، إذا لم يكن مرتاحاً غير مقموع، محفوفاً بكرامة العيش، وليس بكدح ثقافي لا ينتج خبزاً فبالأحرى أن يبدع فكرا أو شعرًا ! ولا أعجب إلا للانقلاب الذي شهدته الكثير من القيم الإنسانية في الإتجاه المطأطئ للرؤوس، ليصبح المثقف أحوج لمن ينادي بحقوقه الفكرية المغموطة، بينما هو الذي كان يتبوأ الصفوف قُدماً، منادياً بتحويل عرق الناس الذي استبخسه الجشع الرأسمالي المتوحش، إلى ذهب في جيوب الفقراء، أليس هذا المثقف بدوره الطلائعي الذي يتجسد في الطالب والفيلسوف والكاتب واليساري وكل قوى التحرر الإنسانية في العالم، هو الذي جعل من ماي الشهير في عام 1968، مناسبة عالمية لترجمة كل الأفكار التنويرية بالصوت العالي، في شارع أحوج إلى من يرفع عنه الخرس والضيم والقهر والإستبداد الرأسمالي بقوة المعرفة؟ أيننا من مفكرين كبار أمثال، جون بول سارتر وميشيل فوكو وجيل دولوز، الذين جسدوا فصيحا بالنزول إلى الشارع، نموذج المثقف العضوي في حركة ماي 1968، ولم يتخذوا من جماجمهم أبراجا عاجية للتفرج من شقوقها على المِحَن اليومية لمجتمع مسحوق، فما جدوى نظريات مؤجلة بنبوءاتها على الرُّف المتعالي، ولن تعرف يوما موطئا على أرض الواقع، وكأن الممارسة لا تكون إلا على السرير! أيها المثقف، لقد احتشدت الحنجرة بالصراخ، وما عاد في حيزها المخنوق، مُتَّسع لنَفَس أو غناء، وإذا أردت أن تقول شيئا، يكفيك تضميدا لجراح الكلمات في الأوراق، قل كل شيء فهذا فاتح ماي وليس عزفا على الناي !