وأنا في الطائرة التي تقلني إلى تل أبيب من مطار شارل دوڭول بفرنسا فكرتُ إن صرتُ الآن خائنا لقضايا القوميين العرب بزيارتي لدولة إسرائيل..فكرت في خيبة الذين يُطالبون بتجريم التطبيع مع إسرائيل كلما سمعوا أن شخصا مغربيا زار إسرائيل، رغم عدم وجود أي عداوة بيننا، وحتى دون أن نفهم الوضع بشكل جيد، ونكتفي بما تلوكه الألسن في التلفزيون. ألا يحق لي أن أزور الكيان الصهيوني لأعرف ماذا يحدث على الأقل؟ (على فكرة، عبارة "الصهاينة"، و"الكيان الصهيوني" لا تعضب أبدا الإسرائيليين، بل تشعرهم بالفخر وليست شتيمة كما كنت أعتقد). جزء كبير من الفلسطينيين أصحاب الأرض يعيشون في سلام مع الإسرائيليين، ويشتغلون داخل الأراضي التابعة حاليا لسلطة الدولة العبرية، فما الذي "أدخل حمارتي أنا في أسبوع الفرس؟". أن تزور إسرائيل لا يعني أنك تتفق مع جرائمها، أو أنك تعادي الفلسطينيين أو ضد نضالهم المشروع، وإلا فكل الذين شاركوا في كأس العالم بروسيا يتفقون مع ما تقوم به في سوريا. خمنت أن الذين يحرمون زيارة هذه البقاع لا يختلفون كثيرا عن الفقهاء الذين أفتوا بتحريم القهوة في بداية ظهورها لدى المسلمين. لقد تعرض المسلمون الذين شربوا القهوة أول مرة للتنكيل، وتعرضت مقَاهٍ تُقدم هذا المحلول الذي يُشرب على مهل للحرق، وتعرض مرتادوها للتشهير، بل إن فقهاء حرموا ماء الصنبور واعتبروه غير جائز للوضوء في بداية ظهوره. مع مرور الوقت ستصبح زيارة إسرائيل أمرا عاديا جدا مثل شرب القهوة، وربما مع تقدم هذا البلد وتأخر بلدان الجوار سيحلم الشباب بفرصة عيش في إسرائيل، ويشاركون في "قرعة للهجرة نحو إسرائيل"، ويسهر الناس ليالي في انتظار نتائجها لعل إسرائيل تقبل بهم وتعطيهم بطائق إقامة كما هو الشأن الآن بالنسبة لأمريكا. وسيسخر الناس وقتئذ مما يكتبه الآن آخر ما تبقى من القوميين في الجرائد الورقية والإلكترونية الحالية بعد عقدين أو ثلاثة، كما "نتفرقع" ضحكا عندما نقرأ بعض الأخبار التي كتبها الصحافيون في الأربعينيات والخمسينيات. أُطِلّ من نافذة الطائرة التي ستنزل بعد قليل في مطار بن غورييون بتل أبيب، وأنا أتمنى أن تتاح لي زيارة القدس والصلاة في هذا المقام الذي كان يصلي فيه أجدادي المغاربة، وهم في طريقهم إلى الحج أو أثناء العودة.. حتى صار لهم باب باسمهم في هذه البقاع المقدسة، والتضرع إلى الله تعالى أن ينعم الجميع بالأمن والعيش الكريم مهما اختلفت عقائدهم..فعادت بي ذاكرتي إلى أيام دراستي بالثانوية.. تذكرت المسرحيات الحماسية التي ألّفتها ومثلت فيها دور البطولة، إما مُحرِرا لفلسطين من ربقة اليهود، شاتما لحكام العرب الغاشمين، أو داعيا إلى فتح الحدود أمام الشباب لتحرير القدس. وغالبا تنتهي مسرحياتي بهزيمة الصهاينة وفوز المسلمين وتحرر فلسطين. . ذات يوم كانت جرعة الحماس التي حقنتها خُطب أساتذتي في دماغي الصغير كبيرة جدا في إحدى المسرحيات. التصفيق الصاخب، ونظرات الفتيات المعجبات تنعش خيالي فأخرج عن النص قليلا ثم أعود كممثل كبير، وأساتذتي يشعرون بالزهو، وهم يشيرون إلى ويتهامسون: "ذلك الصبي تلميذي، ذلك البارع أنا من درسته ودرّبتُه". صدقت نفسي كما نقول في التعبير الدارج، رميت بالميكروفون أرضا في هستيريا، صارخا بأن القدس الشريف يحتاجنا الآن. وأنا أستنهض الهمم ليفعلوا شيئا من أجل ذلك المقام الشريف، دون أن أعرف أن أغلبهم يخيفه مقدم الدوار، وترتعد فرائصه لرؤية القايد.. لما انتهت المسرحية قَدِمَ إلي التقني الذي يملك تلك الميكروفونات ووبخني على تكسيري ذلك الجهاز، ثم حكى لي تلك النكتة السمجة التي نرددها في مجالسنا المغلقة، عن الرجل الذي أرهق زوجته بطلباته الجنسية الشاذة، مستغلا جهلها وثقتها في الفقهاء، إلى أن قالت له ذات يوم متمردةً "أتريد أن تحرر القدس على حساب مؤخرتي؟". أمسكَ الرجل أذني بين الجد والهزل ثم خاطبني وهو يضغط بأصبعيه على حلمة أذني اليمنى: "حتى أنت تريد تحرير القدس بتكسير أجهزتي؟". أتذكر تلك القصائد الحماسية التي كنت أرددها في المجامع لاعنا كل من يطبع مع اليهود والصهاينة، وأنا لا أُفَرّق بينهما مثل غيري. أتذكر بحة صوتي من ترديد "خيبر خيبر يا يهود..جيش محمد سيعود"..وأنا الآن ذاهب لزيارة هذا الكيان الغاشم الذي شتمته مرارا في قصائد حفظتها عن ظهر قلب ونسبت بعضها لنفسي، ماذا تغيّر فيّ يا الله؟ كم أعطتني وزارة الخارجية الإسرائيلية لأغير موقفي وآتي ضيفا لهذا البلد الغاصب؟ كم ضخ الموساد من ملايير الدولارات في حسابي البنكي؟ أنا بئيس جدا، زنديق وخائن لقضايا الأمة العربية، أنا لا أعرفني، وقسما بالله لو أمسك بي ذلك التلميذ الذي كنته لوبّختُنِي وربما لصَفَعتُنِي، "الخائن لاخور".. أم كما يقول المغاربة إن الرأس التي لا تدور مثلها مثل الكُدية. من حق الفلسطينيين أن يدافعوا عن أراضيهم، وحوزة بلادهم، لكن من حقنا نحن البعيدون عن بؤرة الصراع أن نزورهم معا، ونرفع الأكف متضرعين أن يجدوا حلا، فليس لدينا بما ننفعهم غير الكلام الذي لا يسمن ولا يغني. فلا تضامني ينفعهم في شيء، ولا زيارتي إلى إسرائيل تضرهم في شيء. بالعكس، لقد نفعت كثيرا منهم، كل أصحاب "الطاكسيات" الذين نقلوني من الفندق نحو المسجد الأقصى، أو نحو القدس الغربية، أو نحو الأحياء القريبة من القرى المهجرة، فلسطينيون، ولهم دفعت بالشيڭل (عملة إسرائيل) مقابل خدمتهم. لا أسخر أبدا من الذين يشاركون في المسيرات المليونية نصرة لفلسطين في الرباط أو الدارالبيضاء، من حقهم ذلك، مادامت المسيرة سلمية ولا تخريب فيها، على الأقل هناك من سيسمع صوتهم، عكس مسيراتنا في قرانا البعيدة جدا عن الأضواء. لكنني أسخر من المسيرات التي شاركت فيها عندما كنت تلميذا، وأتذكرها بالكثير من الشفقة عليّ وعلى الذين شحنوني بكل ذلك الحماس الذي لم يكن في محله.. كانت الثانوية التي درست فيها في شعبة العلوم التجريبية بدون معدات للتجارب، كانت الأجهزة قليلة، لكننا لم نكن نحتج أبدا، نتخيل نتائج التجارب وألوان المحاليل التي من المفروض أن نراها ونشم رائحتها، ثم يملي علينا أستاذنا نتيجة تجربة لم نعش أدق مراحلها، تكتبها بحبر أخضر جاف، ثم نحيطها بالأحمر لنحفظها كشهادة زور. مع ذلك لم نحتج، أو نادرا ما فعلنا ذلك. كانت قرانا بلا كهرباء وبلا ماء، لكننا لم نحتج يوما، اعتبرنا ذلك قدرا محتوما. والمدرسة الإعدادية بعيدة جدا عن قرانا، وكنا نعيش في داخلية بخدمات رديئة، وطعام لا يسد الجوع، وحارس عام يصفعنا مثل أيتام فقدوا أهلهم في حرب قبلية، ينادي على أحدنا نحو مكتبه، ثم يأمره بأن يبسط يديه، ولا يجد من يخفف عنه الألم بين الضربة والأخرى سوى جعل الأكف تحتك فيما بينها إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.. مع ذلك نادرا ما نحتج. كانت الميزانية المخصصة لإطعام التلاميذ لا تصل كلها إلى أفواههم، كان لا بد أن يقتطع منها الموظفون ما يبنون به منازلهم العالية، وكان لا بد أن يسرق العمال بعض المؤونة قبل الطبخ، و"ينتف" موزعو الطعام منه ما يشاؤون بعد الطبخ، وما تبقى من طعام يُلهي عصافير البطن بعض الوقت. مع ذلك نادرا ما نحتج. عشرات أقراني ماتوا في حضن أمهاتهم بسبب نزلة برد. كل النساء من جيل أمي فقدن على الأقل خمسة أبناء قبل سن العاشرة بسبب الأمراض المختلفة.عشرات ماتوا بعضة كلب لا دواء له في المستوصف البعيد، عشرات ماتوا بسبب لسعة عقرب وغياب الأمصال. كانت الطبيعة وحدها من يختار القوي الصامد ليبقى حيا. مع ذلك لم يحتج آباؤنا، ولم نحتج بعدهم. لكن في القضايا القومية نكون أول المنددين. عندما قتل الجيش الإسرائيلي طفلا فلسطينيا خرجت ثانويتنا عن بكرة أبيها، ونظمنا مسيرة كبيرة، جابت مركز أكدز..رفعنا شعارات كبيرة تندد بالعدوان. شتمنا أمريكا وإسرائيل وحرقنا أعلامهما الوطنية، وعندما شعرنا بأن ذلك لم يشف الغليل شتمنا النظام المخزني الغاشم. وكانت سيارات رجال الأمن مكتظة برجال غلاظ يراقبون المشهد خوفا من أي انفلات، وكي يكتمل المشهد كان لا بد لنا من رشق رجال الأمن بالحجارة، كي نكون نحن هم أطفال الحجارة ويكونوا هم المحتلون الصهاينة الغاشمون، رغم أن أغلب أولئك الرجال هم مْخازنية من أبناء البلدة أو من نواحيها، ونلتقيهم في السوق كل خميس ونصلي بجانبهم في المسجد كل جمعة، ونتقابل معهم بزي أو بدونه في الأزقة الضيقة "للدرب" يوم السبت، وقد برزت بطونهم من كثرة أكل الخبز والكسكس ومختلف النشويات وقلة ما يُفعَل.. لا أدري أما يزال تلاميذ الثانويات البعيدة يتوقفون عن دراستهم، ويخربون الممتلكات العامة، نصرة لقضايا الشرق الأوسط، أم أنهم لم يكونوا أغبياء مثل جيلي، لكن مع ذلك، كانت تلك المسيرة التي تحدثت عنها آخر نشاط تضامني من هذا النوع أشارك فيه. وحدها السنوات تفعل فينا فعلتها، وها أنا ذا بعد سنوات أتخلص من كل ذلك الحماس الذي شُحنت به في المدرسة والشارع، وأصبحت "خَائنا" حقيقيا للقضايا القومية. أصافح اليهود وأزور الكنيست وأقابل وزيرا في الحكومة الإسرائيلية وجها لوجه في مائدة عشاء. قبل عقود قتلت فرنسا آلاف الرجال والأطفال من قومي، كما قتل أجدادي ما استطاعوا من الفرنسيين، لكن الحرب وقتها لم تكن متكافئة، وانتصرت فرنسا على أجدادي، وسلبتهم أسلحتهم، وجعلتهم يعيشون تحت ربقة الاستعمار ما تيسر من السنوات، مع ذلك نهرول نحن حفدة المقتولين في معارك التحرير نحو فرنسا دون أن نشعر بأي ذنب، ونفس الأمر بالنسبة لإسبانيا التي استعملت أسلحة كيماوية في الريف، وما تزال تستعمر مدينتين، يقال إنهما مغربيتين. مع ذلك لا أحد يشعر بالعار إذا زار إسبانيا. لكن عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، فإن من يزورها يُنعتُ بالخائن والمُطَبّع والمرتزق والخارج عن الإجماع، رغم أنني لا أعرف متى اجتمع هؤلاء واتفقوا على أن نقاطع إسرائيل. من السخيف جدا أن تحاول تبرير سفرك لوجهة ما، بلد ما، إلا إذا كنت تسافر على حساب المال العام، فيجب أن يكون في سفرك منفعة بأي شكل ما لدافعي الضرائب. أما عندما تكون شخصا عاديا، فمن مضيعة الوقت أن تجاري أشخاصا "ساطت الرياح في مخهم"، وليس لديهم شغل سوى اقتحام حياة الناس وأسفارهم والوجهات التي اختاروا ليذهبوا إليها. لقد وصلت الطائرة مطار بن غوريون الآن، سأنزل منها..دعوني فقط أنقل إليكم مشاهداتي في هذا البلد بكل حياد. إن هذه التجربة جديرة بأن تُروى. بعدها، من لم يكفه فمه، فليكتري براحا..