لا يمكن اعتبار المرابطين أول من أعاد للمغرب وحدته السياسية فقط، بل يمكن اعتبارهم أيضا أول من رسم معالم السياسية الإمبراطورية المغربية. فباستثناء الفترة التي ضم فيها الملك بوكوس الأول جزءا من أراضي يوغرطة، لم يثبت تاريخيا أن المغرب توسع مجاليا بعد تلك الفترة نتيجة لتشرذمه السياسي الطويل وخضوعه للاحتلالات المتتالية. لذا فتوسع المغرب على الواجهة المغاربية والإيبيرية في عهد المرابطين كان نقلة نوعية في تطور الدولة بالمغرب بما صاحب ذلك من ملابسات سياسية أثرت بشكل كبير على مسارها التاريخي. وقد تجلى ذلك على الخصوص في تأرجحها بين الطموح في التوسع المجالي وما كان يتطلبه ذلك من إمكانيات سياسية سواء كانت عسكرية أو مالية. 1 - طموح الدولة في التوسع المجالي تعتبر الرغبة في التوسع من إحدى الغرائز السياسية الأساسية لكل دولة. فغريزتها في البقاء لا تضاهيها إلا غريزتها في التوسع سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي. فالسياسة الداخلية تحركها دائما غريزة التفرد بالسلطة وذلك من خلال" احتكار العنف المشروع" في حين أن السياسة الخارجية تحكمها غريزة الهيمنة سواء كان ذلك على الصعيد الإقليمي أو الدولي. وهاتان السياستان تخدمان في آخر المطاف رغبة الدولة في البقاء والتوسع. من هنا، نجد أن المرابطين بمجرد استعادتهم لوحدة الدولة، بدأت تحركهم عدة دوافع لتوسيع رقعة الدولة ومد سيادتها على محيطها الإقليمي. ولعل الظروف السياسية التي كانت تعيشها المنطقة المتوسطية في القرن 11 الميلادي هي التي شجعت المرابطين على التفكير في التوسع. وتتجلى هذه الظروف فيما يلي: أولا: ضعف الخلافة سواء العباسية أو الفاطمية ثانيا: الحروب الصليبية وتقدم المد المسيحي ابتداء من 1085 ثالثا: سقوط الخلافة الأموية وظهور ملوك الطوائف ويبدو أن العامل الأخير قد لعب دورا كبيرا في تفكير يوسف بن تاشفين التوسع على الواجهة الإيبيرية؛ بحيث أن الخلافة الأموية كانت تمثل أحد القلاع الرئيسية للإسلام السني في مواجهة الإسلام الشيعي ممثلا في الفاطميين الذين استقروا بمصر. في حين أن ملوك الطوائف وانتشار الإمارات السياسية بالأندلسية لا بد وأنه كان يذكر يوسف بن تاشفين بالوضع السياسي الدقيق الذي عاشه المغرب لعدة قرون، والذي ذاق خلاله سلبيات التشرذم السياسي وصراعات الإمارات وكثرة التدخلات الأجنبية. أما التوسع المرابطي على الواجهة المغاربية فيرجع إلى الأسباب التالية: أولا: هجرة بعض البطون الزناتية إلى الجزائر ثانيا: عبث القبائل العرب وما يمثلونه من خطر على المغرب ثالثا: محاولة إيقاف خطر دولة بني حماد وإلى جانب هذه العوامل الإقليمية؛ هناك عوامل ارتبطت بطبيعة النظام المرابطي الذي استند على ضرورة الجهاد لنشر المذهب المالكي والدفاع عنه. وتحت تأثير هذه العوامل، قام المرابطون بتكوين أول إمبراطورية مغربية امتدت حدودها الشمالية إلى شمال الأندلس والجنوبية إلى موريتانيا والشرقية إلى إفريقية. وقد تابع الموحدون نفس السياسة؛ إذ وسعوا رقعة الإمبراطورية لتمتد إلى حدود برقة بليبيا. وبتسلم المرينيين السلطة، ورثوا هذه السياسة وحاولوا جهد الإمكان الحفاظ عليها. فحروب أبي الحسن المريني بالأندلس لم تكن إلا استمرارا للسياسة الخارجية التي سنها المرابطون. وحافظ عليها الموحدون. وقد استفادت الدولة المغربية من هذه السياسة التوسعية من خلال عدة أوجه: أولا: خلق مكانة سياسية في منطقة البحر المتوسط كقوة إقليمية ثانيا: الزعامة الدينية والسياسية للغرب الإسلامي ثالثا: المغانم المادية المترتبة عن حركة الجهاد (خراج، فديات...) رابعا: اقتباس بعض التنظيمات السياسية من تنظيم قضائي وبروتوكول وتنظيم عسكري... خامسا: الاستفادة من الخبرات الأندلسية والمغاربية التي تم استجلابها من بلاطات ملوك الطوائف أو بلاطات بعض الممالك المغاربية. لكن مقابل هذه المكاسب التي حققتها الدولة المغربية، فإن هذه السياسة كانت تتطلب مصاريف وإمكانيات لم تكن تتوفر عليها الدولة دائما. 2 - محدودية إمكانيات الدولة إن السياسة التوسعية للدولة المغربية كانت تشترط التوفر على الإمكانيات المادية لتنفيذها. وتتخلص هذه الإمكانيات في الإمكانيات العسكرية والإمكانيات المالية: - قصور الإمكانيات العسكرية إن عملية الجهاد، سواء على الواجهة المغاربية أو على الواجهة الإيبيرية، لم تكن فقط عملية تعبئة إيديولوجية ضد العدو، بل كانت أيضا عملية حربية تتطلب الكثير من السلاح والعتاد والجند. لذا فإن عبد المؤمن بن علي الكومي لما أراد التدخل في الأندلس، "راسل بني هلال يستحثهم عل جهاد الأندلس" مغريا إياهم بالمغانم الكبيرة. وبالمرعى الأخضر والمقام الطيب . فاستجاب له منهم جمع ضخم، فلما أراد الانفصال من الجزيرة رتبهم فيها، فجعل بعضهم في نواحي قرطبة وبعضهم في نواحي إشبيلية مما يلي مدينة شريش وأعمالها... وزاد فيهم أبو يعقوب وأبو يوسف حتى كثروا هنالك بالجزيرة. ويرجع السبب في استقدام عرب بني هلال وتجنيدهم إلى أن الموحدين لم يريدوا تكرار نفس الخطأ الذي وقع فيه خصومهم المرابطين، وكذا لرغبة الموحدين في الحصول على طاقة قتالية وعسكرية دون أن يؤثر ذلك على قوة الجيش الموحدي الذي احتفظ به للحاجات الأمنية الداخلية. كما أن التحكم في هذه المستعمرات كان يتطلب من الدولة جهودا عسكرية كبيرة نتيجة لثورات أبناء ملوك الطوائف بمساعدة إمارتي قشتالة والأراغون أو عمليات الانفصال في إفريقية التي تزعمها الحفصيون وبني عبد الواد. وكل ذلك كان يتطلب من الدولة أن تعبئة قسما كبيرا من جيوشها ومن إمكانياتها العسكرية. هذه الإمكانيات التي كانت لا تكفي للتدخل في الأندلس وإفريقية خصوصا في الوقت التي كانت تعاني فيه الدولة من بعض الضعف والاختلال. وقد ظهر ذلك جليا في عهد بني مرين؛ إذ أن انشغال أبي الحسن وخلفه أبي عنان باضطرابات إفريقية منعتهما من التفرغ لشؤون الأندلس وتوقيف عملية الاسترداد المسيحي أو مساعدة إمارة بني الأحمر على مقاومة الجيوش القشتالية.. - ضعف الإمكانيات المالية إن تنظيم العمليات الجهادية أو الحملات العسكرية كان يتطلب مصاريف مالية هائلة لتجهيز الجيش بالعتاد والأسلحة وصرف الرواتب للجند بالإضافة إلى مصاريف المؤونة والتنقل وبناء التحصينات والثغور. لذا فغالبا ما كانت تجد الدولة صعوبات كبيرة في الحصول على هذه المصاريف. وقد ظهر ذلك على الخصوص من خلال محاولة يوسف بن تاشفين فرض ضريبة استثنائية على السكان لتقوية الجيش. فطلب منه الفقهاء أن يؤدي قسما يقر فيه بأن بيت المال قد خلا من النقود اللازمة لهذا الشأن، فعدل عن رغبته. كما أنه من "أخبار يوسف بن تاشفين أيضا ما نقله غير واحد من الأئمة، أن أمير المسلمين طلب من أهل البلاد المغربية والأندلسية المعاونة بشيء من المال على ما هو بصدد من الجهاد، وأنه كاتب إلى قاضي المرية.." يأمره بفرض معونة المرية، ويرسل بها إليه، فامتنع محمد بن يحيى من فرضها، وكتب إليه يخبره بأنه لا يجوز له ذلك، فأجابه أمير المسلمين بأن القضاة عندي والفقهاء قد أباحوا فرضها، وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد فرضها في زمانه. فراجعه القاضي عن ذلك بكتاب يقول فيه"..."قد بلغني ما ذكره أمير المسلمين من اقتضاء المعونة وتأخري عن ذلك، وأن أبا الوليد الباجي وجميع القضاة والفقهاء بالعدوة والأندلس أفتوه بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اقتضاها، فالقضاة والفقهاء إلى النار دون زبانية فإن كان قد اقتضاها فقد كان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيره وضجيعه في قبره، ولا شك في عدله، وليس أمير المسلمين بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بوزيره ولا بضجيعه في قبره، ولا ممن يشك في عدله. فإن كان القضاة والفقهاء أنزلوك منزلته في العدل فالله تعالى سائلهم وحسيبهم عن تقلدهم فيك. وما اقتضاها عمر رضي الله عنه حتى دخل مسجد رسول الله صلى عليه وسلم، وحضر من كل معه من الصحابة رضي الله عنهم، وحلف أن ليس عنده في بيت المال المسلمين درهم واحد ينفقه عليهم. فليدخل أمير المسلمين المسجد الجامع بحضرة من هناك من أهل العلم، وليحلف أن ليس عنده في بيت مال المسلمين درهم ينفقه عليهم، وحينئذ تجب معونته"..."فلما بلغ كتابه إلى أمير المسلمين وعظه الله بقوله، ولم يعد عليه في ذلك قولا". لكن رغم هذه التحفظات الدينية ومعارضة بعض الفقهاء، فقد اضطر الأمراء إلى فرض ضرائب غير شرعية لكي يستطيعوا تغطية التكاليف الكبيرة للجهاد والحصول على الموارد الكافية لمواجهة الاضطرابات السياسية التي كانت تندلع بين الحين والآخر ضد الوجود المغربي في مستعمراته الخارجية. وعموما، فرغم المكاسب السياسية والمادية التي حققتها الدولة من توسعاتها الخارجية؛ فقد فرض عليها ذلك تكاليف ضخمة كانت لا تتناسب والحجم الحقيقي للمغرب بوصفه كان دائما عبر تاريخه قوة إقليمية متوسطة. (une puissance moyenne) لذا فقد كان لهذه التكاليف عدة آثار سلبية سواء على خزينة الدولة، أو على قوتها العسكرية أو حتى على مصير الأسرة الحاكمة. إذ لا ننسى أن المصير السياسي للموحدين قد تقرر بشكل حاسم في موقعة العقاب التي كانت لها نتائج وخيمة على النظام القائم سواء في ضربها لمصداقيته العسكرية أوفي إظهار بعض مكامن ضعفه السياسي. بل لقد كان لهذه الهزيمة آثار سلبية حتى على اقتصاد البلاد وتوازنه. كما أن الهزائم العسكرية التي مني بها الجيش المريني سواء في إفريقية أوفي الأندلس لا شك أنها قد أثرت بشكل كبير على مصير الأسرة الحاكمة بل وعلى مصير الدولة بأكملها، إذ "تعتبر هزيمة طريف بالأندلس أفدح النكبات بعد العقاب"..."إذ إثرها قرر الإسبان العزم على طرد المسلمين من الأندلس نهائيا، وماحلت 818 ه حتى استولى البرتغال على سبتة والإسبان على جبل طارق سنة 869 ه".