لم يُمهلها الموتُ قليلاً من "المعجزاتِ" حتّى تصدر آخر المواويل.. في زمن "الفواجعِ" الكبرى ترحلُ وحيدةً.. من سيرشدُ الآن تلكَ القوافل التّائهة في تلكَ الجبالِ؟ بصوتها الذي يخترقُ السّماء وأنينها الأزلي الذي سيظلّ شاهداً على رحيلها "الفادحِ"، حتّى في أشدّ لحظاتِ الضّعفِ الإنسانيّ، ظلّت ترتدي منديلها المزركشِ بألوانِ مُروجٍ تركتها بدونِ ونيسٍ، هي الفنّانة الجبلية شامة الزّاز. غنّت للحبّ وللهوّيةِ الجبليّة وللذّاكرة المنسيّة، وعندما حانَ وقتُ الرّحيل تزيّنت بكلّ ما أوتيت من خلاصٍ أبديّ وشغبٍ "طفولي" لمواجهة شبحِ الموت.. رحلت المغنّية الشّعبية المعروفة في قبائل "جبالة" في الشّمال بظلّها العالي وإشراقاتها الصّوفية، دون أن تتركَ وصيّةً للمحبّين والكارهين. البداية كانت من قريةٍ جبلية لا حدود لها ولا "اقتباس". من دوار "الرّوف" بجماعة سيدي المخفي ضواحي تاونات، انطلقت الفنّانة شامة الحمّومي في رحلتها "الخالدة" المفعمة بالسّفر الطّويل والمتعبِ نحوَ الذّاكرة والتّاريخ والذّات الجريحة. من هناك تشكّلت أولى علامات الفهمِ، وبحكم عادات وتقاليد المنطقة، زفّت الصّبية غصباً في الرّابعة عشر من عمرها إلى شيخٍ سرعان ما ترك حياة الدّنيا ورحل إلى "العدم". رحلة الصّعود إلى عالم "الأضواء" لم تكن سهلةً، كان لا بدّ أن تُحدث ضجيجاً صغيراً في تلك القرية النّائية لتخرج إلى العالم الكبير، غنّت متخفّيةً في أسماء مستعارة؛ تارة كانوا ينادونها بشامة الزّاز وتارة ب"نجمة الشّمال"، حتّى صار صوتها مألوفاً عند عامّة النّاس، يسافر بالمستمعِ الشّغوف إلى عوالمِ الجمال والدّلال. "أول مرّة غنيت أمام الجمهور كان خلال مشاركتي في المسيرة الخضراء، حيث كنت أشارك في إحياء السهرات الفنية لفائدة المشاركين في المسيرة"، تقول شامة الزَّاز في تصريحات سابقة لهسبريس، مبرزة أنها حصلت على صفة "مطربة" خلال هذه المناسبة. ظلت وفيّة لطبعها الجبليّ، ترفعُ رأسها على الدّوام ولا تقبلُ بأقلّ ما تستحق، كبريائها الذي لا يموت بصمَ ذاكرة عشّاق الطّقطوقة الجبلية إلى جانب رائدها محمد العروسي، الذي سار بها صوب العالمية، مخلّفةَ وراءها أزيد من 60 شريطاً غنائياً، لكن ذلك لم ينقذها من الانغماس في حياةٍ بئيسة وكئيبة. يقول عنها الإعلاميّ المغربي عتيق بنشيكر إنها "نجمة العيطة الجبلية، والفنانة الشهيرة بإطلالتها القروية الأصيلة وبجرأتها العفوية أمام الجماهير، ببساطتها، بقناعتها، شامة الزاز تغادر في صمت بعد معاناة. ظلت طوال حياتها تحلم بتملك سقف يغطيها وابنها من لفحات الزمن وصروف الدهر، رافقها حلمها هذا حتى وهي على فراش المرض. لم تستوعب أبداً أن حب الناس العارم يكفي للفرح والارتياح بل ظل قريناً عندها ببيت مستقل بفاس أو بتاونات أو بمسقط رأسها سيدي المخفي". هذا الحلم توقّف مع توقف نبض قلبها الرقيق والودود. رحلت وبقيت وقفتها وابتسامتها وعيونها وشموخها الفطري مرسوماً على جبين ذاكرة أهل جبالة والمغاربة أجمعين. وبعث الملك محمد السادس برقية تعزية ومواساة إلى أفراد أسرة المرحومة الفنانة شامة الزاز. وأكد الملك في هذه البرقية أنه "تلقينا بعميق التأثر النبأ المحزن لوفاة المشمولة بعفو الله ورضاه، الفنانة شامة الزاز، أحسن الله قبولها إلى جواره". ومما جاء في برقية الملك: "وبهذه المناسبة الأليمة، نعرب لكم ومن خلالكم لكافة أهلكم وذويكم، ولأسرتها الفنية الكبيرة، ولجميع عشاق ومحبي الراحلة، عن أحر تعازينا وأصدق مواساتنا في فقدان إحدى رائدات فن العيطة الجبلية ببلادنا التي ساهمت بأدائها الفني المتميز في صيانة وإثراء هذا الموروث الغنائي المغربي الأصيل". وقال الملك في هذه البرقية: "الله العلي القدير نسأل أن يلهمكم جميعا جميل الصبر وحسن العزاء، وأن يجزي الفقيدة المبرورة خير الجزاء على ما قدمته من جليل الأعمال، ويتقبلها في عداد الصالحين من عباده، المنعم عليهم بالجنة والرضوان".