مباشرة بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إنسحاب بلاده من الإتفاق النووي المبرم بين إيران والدول الست (الصين، روسيا، فرنسا،أمريكا، ألمانيابريطانيا) في لوزان السويسرية بعد مفاوضات مراطونية ربيع 2015، تناثرت إلى الأذهان الكثير من الأسئلة و التكهنات حول المصير الذي ستعرفه المنطقة بعد هذا التحول الفجائي في موقف واشنطن اتجاه الملف النووي الإيراني، هذا الغموض تضاعف بعد حرص حلفاء واشنطن ( ابريطانيا ، فرنسا ، ألمانيا) إضافة إلى الصين و روسيا على التمسك ببنود هذا الإتفاق باعتباره الحل الأمثل الذي من شأنه منع إيران من امتلاك ترسانة نووية مستعملة لأغراض عسكرية، و كذلك يمكن جعله منطلقا لنزع فتيل التوتر في الشرق الأوسط بين الجمهورية الإسلامية و خصومها الكثر الموزعين بين دول الخليج و إسرائيل. كما أسلفنا الذكرأعلاه، فالبرغم من تمسك الدول الأخرى بتطبيق بنود هذا الإتفاق، إلا أن ترامب كان له رأي آخر بعد وصف إياه بأنه "كارثي" و يمكن أن يجلب العار للولايات المتحدةالأمريكية…، هذا الإجراء واكبه مجموعة من الخطوات الأخرى التي كان الهدف منها " تجفيف منابع العملات الصعبة " التي تستخدمها إيران لتوسيع نفوذها في المنطقة ، و النقطة الأساسية التي ركزت عليها واشنطن في هذا الصدد، هي الخنق الإقتصادي من أجل إجبار إيران على الجلوس إلى طاولة الحوار في محاولة لنسخ التجربة الكورية الشمالية. العقوبات المسلطة من الولايات الولايات المتحدةالأمريكية على إيران منذ انسحاب ترامب من هذا الإتفاق كانت كثيرة و متنوعة، و شملت جل القطاعات الحيوية المحركة للإقتصاد الإيراني، فالبداية كانت مع القطاع المصرفي و الأشخاص المفترضين بتمويل الأنشطة العدائية ضد واشنطن و حلفائها في المنطقة ، مرورا بالتهديد الموجه للشركات الأوربية التي كانت بصدد الشروع في بدء استثماراتها في إيران غداة اتفاق " لوزان " ، وصولا إلى الحرب المعنلة على بيع النفط الإيراني التى وصلت ذروتها مع الفاتح من ماي الجاري بعد قرار واشنطن بعدم تمديد الإستثناءات التي كانت مقدمة لمجموعة من الدول المستهلكة للنفط الإيراني، قبل أن يوقع ترامب الأربعاء المنصرم عقوبات جديدة استهدفت قطاع الصلب الذي يساهم في تمويل الأنشطة النووية الإيرانية حسب ما جاء على لسان سيد البيت الأبيض . حسب العديد من المتتبعين للتجاذبات المستمرة بين واشنطن و طهران ، فإن هذه العقوبات لم تستطع كبح النفوذ الإيراني بالمنطقة، و الأكثر من هذا فإن الجمهورية الإسلامية الإيرانية زادت من حضورها في كل من اليمن و العراق و سوريا إضافة إلى الدعم اللامتناهي لحركة حماس في غزة… لكن يبقى التساؤل المحوري الذي يطرح في هذا الجانب هو: هل تستطيع هذه المناوشات الإقتصادية أن تتحول إلى حرب عسكرية شاملة تدخل المنطقة في آتون الحرب، في حالة تحقق حلم ترامب المتمثل في صفر برميل كرقم للمعاملات النفطية الإيرانية، و استحضار تهديد الحرس الثوري بإغلاق مضيق هرمز في حال تحقق ما تصبو إليه واشنطن. استحضارا لقاعدة الموازنة التي غالبا ما تلجأ إليها الدول الكبرى قبل الإقدام على إعلان الحرب، نعتقد جازمين أن خسائر واشنطن ستفوق كثيرا المكاسب المحتملة من وراء هذا السيناريو " الحرب " المستبعد على الأقل في هذا الوقت الذي نشهد فيه استعراضا متبادلا للعضلات في مياه الخليج ، فالولاياتالمتحدة من خلال آلية "الخنق الإقتصادي تعي جيدا أنها تستطيع التوفيق بين مصالحها القومية و كذلك إرضاء بعض نزوات دول الخليج التي تدفع بسخاء من أجل بلوغ الهدف المنشود المتمثل في حصار إيران اقتصاديا و عسكريا. – البعبع الإيراني : الدجاجة التي تبيض ذهبا لأمريكا لعل الشعار المركزي الذي رفعه ترامب إبان حملة الإنتخابية المعنون ب " أمريكا أولا " وما واكبه من إجراءت حمائية للإقتصاد الأمريكي من خلال فرض مجموعة من الرسوم الضخمة على مجموعة من الخصوم ( الصين، روسيا…) و الحلفاء ( اليابان ، كوريا الجنوبية…) ، يحيلنا على فكرة أساسية و هي أن ترامب يحاول إعادة عظمة أمريكا عبر البوابة الإقتصادية التي بدأت تميل فيها الكافة لبعض القوى الإقتصادية التي أضحت تهدد أكثر من أي وقت مضى عرش واشنطن الذي اعتلته غداة نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945…، فسيد البيت الأبيض عبر مستشاره المكلف بالأمن القومي من خلال هذه "البروغابندا " الإعلامية المتمثلة في تحريك الأسطول البحري ( حاملات الطيران، و مختلف القطع البحرية و بعض الغواصات…) إلى المياه المتخامة لإيران، يحيلنا على أن واشنطن من خلال هذا الإستعراض تريد إرسال رسالة لحلفائها في الخليج على أنها مستمرة في حمايتهم، و أن الأموال المدفوعة لها ستضمن لهم هذه الحماية، في تنزيل صريح للمبدأ الذي يدافع عنه ترامب في خراجاته الإعلامية " الدفع مقابل الحماية " و رسالة أخرى لخصومها ( خاصة الصين و روسيا ) مفهادها أنها لا زالت هي من تقود العالم، و أن هذا الأخير خاضع للقطبية الأحادية في استبعاد " للعالم متعدد الأقطاب " الذي تتحدث عنه كل من الصين و روسيا، تحت شعار " لا شرعية لمعاهدة لا تخدم المصالح الأمريكية". بعض من الفرضيات التي من شأنها استبعاد فكرة الإصطدام العسكري المباشر بين الطرفين المتصارعين : أمريكا تعي جيدا أن الإقدام على مغامرة إسقاط النظام الحاكم " ولاية الفقيه " في إيران سيجلب لها الكثير من التبعات الإقتصادية السلبية، خاصة ما يتعلق منها بصفقات الأسلحة الضخمة التي تبرمها الدول الخليجية مع بلد "العم سام" في سباقها التسلحي ضد إيران ( توازن الرعب ) التي تشكل تهديدا عقديا و وجوديا بالنسبة لهذه الدول حسب المسؤولين السعوديين، و على هذا الأساس فإيران أصبحت بمثابة الفزاعة التي تستعملها الولاياتالمتحدةالأمريكية للحصول على الملايير من الدولات التي تدفعها بشكل أكبر كل من السعودية و الإمارات من أجل تحديث و تدعيم ترسناتهما العسكرية ، أو تلك التي تدفع نظير الحماية التي تزعم واشنطن أنها تقدمها لهذه الدول الموجودة تحت التهديد الإيراني. استمرار البعبع الإيراني على هذه الشاكلة، يستغل أيضا بشكل مثالي من قبل الإدارة الأمركية لخدمة مصالح حليفتها الإستراتيجية إسرائيل، فمن خلال هذه " الفزاعة " أضحى التقارب مع إسرائيل من المسلمات لدى بعض الدول العربية، و خرجت الإتصلات من الخفاء إلى العلن ، و تحولت إسرائيل من العدو اللدود إلى الحليف الذي يمكن التعاضد معه لوقف الزحف الإيراني على العديد من العواصم العربية، هذه الأمور و غيرها تؤكد على الإدارة الأمريكية لا مصلحة استراتيجية لها في شن حرب شاملة على إيران ، و هو ما يحيلنا على أن الحروب بالوكالة ستطول في الشرق الأوسط، و ستبلغ ذروتها في السنوات المقبلة على النحو الذي يخدم الأهداف الإستراتيجة للدول المصدرة للأسلحة لهذه المنطقة. و النقطة التي يمكن أن تفسر التحركات العسكرية الأمريكية في الخليج بهذه الحركية التي نشهدها الآن في سيناريو مماثل للتهديدات التي كانت وجهت لكوريا الشمالية قبل جلوسها إلى طاولة الحوار، يمكن إدراجها في إطار الإجراءات الإحترازية المتخذة من قبل واشنطن لحماية قواعدها العسكرية المنتشرة بكثرة في بعض من دول الخليج العربي، ما دام أنها توجد في مرمى الصواريخ الإيرانية المنتشرة على حدود هذه البلدان في إطار توازن الرعب. باحث في العلاقات الدولية و العلوم السياسية