الراوي والشَّاهد في رواية «اللجنة» لصنع الله إبراهيم، يتوحَّد كلٌّ من البطل، والراوي، والمؤلف. في التدوينات هذه المُكرَّسة للنموذج التنموي الجديد يتوحَّد الراوي، أو السَّارد، مع الشَّاهد. ساردٌ « جواني » وشاهد «من أهلها» (أي اللجنة الخاصة). سرْدٌ ذاتي، «انعكاسي» ( réflexif)، بمفهوم بورديو (Pierre Bourdieu)، وشهادةٌ من بين شهود. يُصيخُ الشاهد السَّمْع إلى تدخلات الأعضاء المختلفة، والمتباينة، والمتجافية في بعض الأحيان فتتبدَّى له، بجلاء، المسافة الفاصلة بين «الأنا» و «الأنا الذي ليس أنا». مسافة لا يقطعها التمايُز، أو التفاضُل بين الآراء، بل يردمها التكامل، عملاً بالقاعدة الجِدالية للإمام الشافعي: « قَوْلي صوابٌ يحتمل الخطأ، وقَوْلُ المخالف خطأ يحتمل الصواب»، وتكون الرُّجُوحية بصحة الدليل وبقوَّته. الجدل، عند المناطقة، «قياسٌ مؤلف من مشهورات أو مُسلَّمات ». وهو يقوم، في السياقات التفاوضية، على الاستدلال العقلي، حيث تكون غايتُه التجاوز، والتوافق، والتسوية العملية. وقد يجترح المزايدة، والمقايضة، والمخاتلة لكسب المفاوضة، كما هو الأمر في «نظرية المباريات» أو «الألعاب» (Théorie des jeux)، التي تُفْضي، في آخر المطاف، إلى «لعبة صفرية»، لا أحد فيها رابح، بل الكل خاسر. تُشدِّد «نظرية الضبط» (Théorie de la régulation) على المسعى التَّفاهُمي في سيرورة التفاوض لتجاوز التناقض بين الفاعلين، ولإعادة بناء علاقات اجتماعية متقدمة. يقول الراوي: تحيَّزتُ إلى «نظرية الضبط»، في بداية التسعينيات من القرن الماضي وأنجزتُ، في إطارها وتحت سقْفها، أطروحةً جامعية في موضوع «ضبط العلاقة الأجْرية في المغرب» (منشورات كلية العلوم الاقتصادية، والاجتماعية، الرباط، 1993). نظرية الضبط امتدادٌ، وتحيينٌ، وتكييفٌ للفرضية الماركسية المتعلقة بتطور الرأسمالية في المدة الطويلة، وبدور الأزمات في تجاوزها، والسلوك منها نحو أنماط إنتاجية وعلاقات اجتماعية تَهْمد فيها التناقضات، ويَخْمد فيها الاستغلال. فرضية «ميل معدل الربح إلى الانخفاض» في المدة الطويلة لم تصدق كما تشهد على ذلك التجربة التاريخية التي أبانت عن قدرة لامتناهية للرأسمالية على تخطي الأزمة، وتجديد أنماط الاستغلال، وتطوير أشكال الهيمنة. مع « التحول الكبير » (Karl Polanyi) الذي عرفته الرأسمالية «الفوردية»، أو «الكينزية»، سوف تُدْرك الطبقة البورجوازية أنها لن تتَوقَّى «حفر قبرها بيدها» (ماركس) سوى بالتفاوض، والتوافق، والتعاقُد على توزيع فائض القيمة. في نفس المنظور، لكن على الصعيد الميكرو اقتصادي، يخْلُص «اقتصاد الاتفاقيات» Economie des conventions)) إلى أن «اللعبة التعاونية» «لعبة بين ذاتية»، تأخذ في الحسبان موجِب «الأنا»، ومُسوِّغ «الآخر»، في نفس الآن. يَسُوق الراوي هذه الإضاءة النظرية السريعة لتبيُّن «الصيغة المنهجية» التي كان الشاهد يرى أن ليس هناك بُدٌّ من اعتمادها من طرف اللجنة في اشتغالها، وتداوُلها. صيغة لا تُسِرُّ «الأنا»، ولا تُجْهِرُ به كل الجهر، كما أنها لا تُسْقِط «الآخر» من الحساب، ولا تُسيءُ الظن به. «استراتيجية تداوُلية» (بمفهوم هابرماس) تقوم على تفاعُلية الاسْتفْهام، والتفهُّم، والتفاهُم التي سبقت الإشارة إليها.كما يسوقها (أي الإضاءة النظرية) تفاعُلاً مع ملاحظة، جاءت على أكثر من لسان، بعد صدور التقرير، تتعلق ب «الخطوط الحمراء» التي قيل، وإنْ هُمْ إلاَّ يَظنُّون، إنَّ اللجنة قد وضَعتْها عن طواعية، وهوما يَجْلوهُ الراوي عن الشاهد في موْضِعٍ آخر. كل شيء، ولا شيء قالوا : «لقد وضع أعضاء اللجنة لعملهم خطوطًا حمراء لا يقربونها». رقابة ذاتية، مُسْبقة، متخفِّية. وقالوا: التقرير النهائي ليس سوى «جبل تمخَّض عن فأر». وقالوا أيضاً: جاء النموذج التنموي الجديد إمعاناً في الصيغة النيوليبرالية للنماذج السابقة التي أبانت عن فشلها الذريع. يقول الشاهد: كل هذه الأقوال «ضعيفة» للأسباب التالية. أولاً، «الخطوط الحمراء» التي يقصدونها، تلميحاً أو تصريحاً، تهم، بحصر المعنى، «صلاحيات الملك الدستورية» في علاقتها بمبدأ «ربط المسؤولية بالمحاسبة» خاصة، وبمنظومة «الملكية البرلمانية» عامة. في هذا القول ضرْبٌ من «التَّهافُت» لسببين اثنين: الأول، إن عمل اللجنة ينضوي تحت سقف الدستور، هي تشتغل في كنفه، ضمنه لا خارجه. الثاني، إن اللجنة لا شرعية لديها حتى تتخطَّي النص الدستوري، وتجاوز بنوده، بالزيادة أو بالنقصان. ثانياً، في القول بأن «الجبل تمخض عن فأر» تحيُّزٌ منهجي (biais méthodologique)، ذلك أن الخيارات الجماعية لا تعادل مجموع الأفضليات الفردية. الأولى ترتيبٌ، وترجيحٌ، وتقريبٌ، وتوليفٌ. الثانية متشعِّبة، مُتباينة، مُتنافرة، ومُتضاربة، لا يجمعها جامع. لكلِّ «مغربُه الذي يريد»، ولكل صياغتُه الخاصة للنموذج التنموي الأفضل والأمثل. من «المواقع» الخاصة، ومن «المواقف» الذاتية، ومن «الزاوية الميتة» ل«الفردانية المنهجية»، لا من باب «المنهجية الشاملة»، التوافُقية، والمقاربة التفاهُمية، نظر البعض في تقرير اللجنة. لسانُ حال هؤلاء «ما لا يُدْركُ كُلُّه، لا يُؤْخذُ جُلُّه». «كلُّ شيء»، أو «لا شيء»، لا منزلة بين المنزلتين. في فيلم «الفهد» للمخرج فيسكونتي المأخوذ عن رواية دي لاسيجوازا، يقول تانكريدي (ألان ديلون)، الذي التحق بالثورة، لعمِّه دون فابريستي (برت لانكستر) على سبيل الإقناع: «ينبغي أن يتغير كلُّ شيء، لكي لا يتغير أيُّ شيء». في مجال التغيير، تكشف «الخبرة التاريخية» أن من يبْتغي «كل شيء» قبل الأوان، لا يجْني، في الأغلب الأعم، سوى «لا شيء»، ورُبَّ زارعٍ لنفسه، حاصدٍ لسواه. ثالثًا، وأما من يزعم بأن النموذج التنموي الجديد لا يختلف عن القديم من حيث «النزعة النيوليبرالية» فهو مجانِبٌ للصواب، مُجانِفٌ للموضوعية، أو إن في قراءته للتقرير عيٌّ، أو شيء من حتَّى. قد يكون النموذج الذي يريده أصحاب هذا القول نازعاً منزعًا آخر، هم لا يُفْصِحون عنه، ولا يُحدِّدون شروطه، منزعًا يقتضي، فيما يقتضيه، قطيعةً تامة مع المسارات القديمة، ومسحًا للطاولة، وإعادة للبناء من الصفر. «كلُّ شيءِ» مِنْ «لا شيء». الموقف الحدِّي ذاتُه، والتَّحيُّزُ المنهجي ذاتُه، والمقاربة الفردانية ذاتُها. في اللاحق من التدوينات، يقول الراوي، سوف يتبيَّن للقارئ أن الطريق السالك إلى التنمية ليس بالطريق الخطِّي، بل ينتهج مساراتٍ مُتعرِّجة، مُتحوِّلة. النموذج التنموي الجديد تحوُّل في المسار، وتحويل للمسار. تحوُّل في السياسات الماكرو اقتصادية، وتحْويلٌ لمساراتها السابقة، المُقيَّدة بإكراهات «إجماع واشنطن». تحوُّل في البنية الإنتاجية من التبعية والمناولة نحو المنافسة والابتكار، وتحويلٌ لسلوكات الفاعلين من الريع والمضاربة إلى المبادرة والريادة.