لقد حظي التدوين التاريخي بعناية مرموقة من قبل أهل سبتة، منذ القاضي عياض (ت.544ه) على أدنى تقدير، وإلى عهد ابن القاسم الأنصاري ( حيا: 825ه)، بعد سقوط هذه المدينة الإسلامية في قبضة الاحتلال البرتغالي (818ه). وترجع كثرة المصنفات الموضوعة من قبل مؤرخي هذه المدينة بوجه خاص، إلى الأهمية الإستراتيجية والسياسية التي أدتها عبر تاريخها؛ فقد شكلت سبتة منذ فجر تاريخها الإسلامي في أواخر القرن الأول للهجرة، بوابة المغرب ومعبره نحو الضفة الأخرى لمضيق جبل طارق، فكانت المدينة بمثابة محطة أساسية للصادرين والواردين بين عدوتي المغرب والأندلس، وقبلة لجاليات متعددة الأعراق والنحل. كما تعتبر المدينة موطنا ومستقرا لعدد من رجالات الأدب والدين، ومعنيا لا ينضب للمؤرخين والجغرافيين والرحالة. ومن ثمة، نستطيع تفسير كثرة التصانيف في تاريخها وأعلام أهلها وخططها ، فضلا عن طموح همم علمائها إلى تدوين تاريخ الغرب الإسلامي وتراجم رجالاته.
نحاول في هذا المدخل العام، استعراض أبرز المدونات التاريخية التي وضعها علماء سبتة، وذلك من خلال بعض الإشارات والتلميحات التي جاءت في مصادر أخرى، سلمت كليا أو جزئيا من عوادي الزمن؛ وقد أعملنا جهدنا في تتبع مختلف النقول والإحالات على التواريخ السبتية، واستخلاص ما أمكن الوصول إليه بلفظه الأصلي إن وجد، أو بالإيجاز والتلخيص إن نبه عليه أصحاب الكتب الناقلة عنها.
وينتظم حديثا عن هذه المصادر وفقا لترتيبها الزمني، والملاحظ أن أقدمها يعود إلى القرنين الخامس والسادس للهجرة، وهو من نتاج أعلام السبتيين الأصليين أو من بين الطارئين على لمدينة. ولا نشك أن حركة التدوين التاريخي بسبتة قد انطلقت قبل هذا الزمن، على اعتبار وجود نصوص مدونة لبعض علمائها منذ وقت مبكر نسبيا، ويمتد بنا الحديث إلى أواخر القرن الثامن للهجرة، وقوفا عند أبي عبد الله الحضرمي، الذي تنسب إليه أحد التواريخ السبتية، بل إلى ما بعد احتلال سبتة سنة 818ه/ 1415م، على اعتبار أن محمد بن القاسم الأنصاري السبتي عاش وألف في أخبارها وخططها بعد هذا التاريخ ولكونه من جالية المدينة الذين استقروا خارجها عقب نكبتها. - كتاب " التاريخ الكبير"، أو " جامع التاريخ"، للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي السبتي (ت.544ه). يعتبر القاضي عياض أحد أبرز أعلام الغرب الإسلامي في السيرة والفقه، وعلم السنة، والتراجم والأخبار، ومع أن كتبه قد وصلنا أكثرها، وفي طليعتها " الشفا، بتعريف حقوق المصطفى"، و " إكمال المعلم، بفوائد مسلم"، و " مشارق الأنوار"، و "التنبيهات المستنبطة، في شرح مشكلات المدونة والمختلطة"،و " ترتيب المدارك، وتقريب المسالك، لمعرفة أعلام مذهب مالك"، و " الغنية" ؛ فإن طائفة من مصنفات عياض لم تبلغنا، ونخص منها الذكر أحد التصانيف الضخمة في التاريخ، وهو " التاريخ الكبير" أو " جامع التاريخ". ويبدو أن الكتاب قد ضم من بين محتوياته بعض التراجم التي تتصل بأعلام الغرب الإسلامي، وخاصة أولئك الذين أثروا تأثيرا عميقا في مسار تطوره السياسي، أمثال الفقيه عبد الله بن ياسين الجزولي داعية المرابطين؛ فمن المعلوم أن قاضي سبتة خصه بترجمة فريدة، تطرق من خلالها للخطوات الكبرى التي قطعها الملثمون بقيادة داعيتهم المالكي، حتى تمكنوا من إرساء قواعد دولتهم الفتية؛ وبالوقوف على ترجمة عبد الله ياسين التي تضمنها كتاب" ترتيب المدارك"، نرى أنها ختمت بالعبارة الآتية: " وقد بسطنا أخباره في كتاب التاريخ" .أما ابن حمادوه - الذي يأتي الحديث عنه لاحقا - فقد قال عن عياض: " إنه ألف كتاب " جامع التاريخ"، فأربى على جميع المؤلفات، فيه أخبار سبتة، وقضاتها وفقهاءها، وجميع ما جرى من الأمور فيها، واستوعب أخبار الدولة الحسنية".
وإشارة ابن حمادوه هذه، تدل على أن الكتاب قد ضم بين دفتيه تاريخ مدينة سبتة وأعلامها، غلى جانب تاريخ الأدارسة الحسنيين بالمغرب الأقصى. وإن كنا لا نعلم تحديدا كيفية تصميم الكتاب، ولا حجمه على وجه التقريب، ولا توجد نقول منه في غيره من الكتب المتأخرة - حسب علمنا - بل تكاد الإحالة عليه تقتصر على ما ذكره عياض وابن حمادوه فيما أثبتناه، ومع ذلك فإن إحالة عياض على كتابه، وعبارته " بسطنا القول..." من جهة؛ ثم إشارة ابن حمادوه القائلة " استوعب فيه ..." من جهة أخرى، تدل كلاهما على توسع مؤلفه في سرد الأخبار، واستيعابه لما بلغت إليه طاقته من الروايات والتراجم المتصلة بموضوع كتابه. منشورات المجلس العلمي المحلي بعمالة المضيق - الفنيدق(4) إصدار خاص بمناسبة الذكرى المئوية السادسة لاحتلال مدينة سبتة السلبية(1415م-2015م)