زنيبر.. رئاسة المغرب لمجلس حقوق الإنسان ثمرة للمنجز الذي راكمه في مجال النهوض بحقوق الإنسان وحمايتها    توصيات بمواكبة تطور الذكاء الاصطناعي    هل يتجه المغرب إلى تصميم المدن الذكية ؟    المنتخب المغربي يستقبل زامبيا في 7 يونيو    شبيبة البيجدي ترفض "استفزازات" ميراوي وتحذر تأجيج الاحتجاجات    رفع أسطول الطائرات والترخيص ل52 شركة.. الحكومة تكشف خطتها لتحسين النقل الجوي قبل المونديال    إسرائيل تقول إنه يتعين على مصر إعادة فتح معبر رفح مع قطاع غزة، والقاهرة تستنكر محاولات تحميلها الأزمة الإنسانية    "البسيج" يفكك خلية إرهابية بمدينتي تيزنيت وسيدي سليمان    إدارة الزمالك تسجل اعتراضا جديدا قبل مواجهة نهضة بركان    السيتي يهزم توتنهام ويقترب من التتويج بالبريمرليغ    ميراوي يجدد دعوته لطلبة الطب بالعودة إلى الدراسة والابتعاد عن ممارسة السياسة    طقس الأربعاء.. نزول أمطار متفرقة بهذه المناطق        الطاقة الاستيعابية للأحياء الجامعية.. ميراوي: الوزارة تهدف إلى 410 ألف سرير        توقيف 8 طلبة طب بوجدة بعد يوم واحد من تهديدات ميراوي    توقيع عقد للتنزيل الجهوي لخارطة طريق السياحة بجة الشمال    عميد المنتخب المغربي يتوج هدافا للدوري الفرنسي    الأمثال العامية بتطوان... (598)    رئيس "الليغا" يؤكد انضمام مبابي لريال مدريد بعقد مدته 5 سنوات    كيف يمكن الاستعداد لامتحانات البكالوريا بهدوء وفعالية؟    تاريخها يعود ل400 مليون سنة.. الشيلي تعيد للمغرب 117 قطعة أحفورية مهربة    وزير التجهيز: 3000 كلم طرق سيّارة ستواكب تنظيم المغرب لكأس العالم    تنسيقيات التعليم تؤكد رفضها القاطع ل"عقوبات" الأساتذة وتحذر من شبح احتقان جديد    القضاء يتابع مُقتحم مباراة نهضة بركان والزمالك    الجامعة تعين مساعدا جديدا لطارق السكتيوي    340 نقطة سوداء على مستوى الطرق الوطنية تتسبب في حوادث السير    الاتحاد الأوروبي يمنح الضوء الأخضر النهائي لميثاق الهجرة واللجوء الجديد    "الطابع" لرشيد الوالي يكشف عن مأساة مهاجر مغربي في رحلة بحث عن الهوية    قيمة منتجات الصيد الساحلي والتقليدي المسوقة ارتفعت لأزيد من 3,5 مليار درهم    جماعة طنجة ترصد نصف مليار لتثبيت مئات الكاميرات لمراقبة شوارع المدينة    دار الشعر بمراكش تواصل الانفتاح على التعدد اللساني والتنوع الثقافي المغربي    هذا الجدل في المغرب… قوة التعيين وقوة الانتخاب    "أكديطال" تفتتح مستشفى ابن النفيس    بسبب إياب نهائي الكونفدرالية.. تأجيل مواجهة نهضة بركان والرجاء إلى يوم 23 ماي القادم    ارتفاع حصيلة قتلى العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 35173 منذ بدء الحرب    إدارة السجن المحلي بتطوان تنفي تعرض سجين لأي اعتداء من طرف الموظفين أو السجناء    "أطلنطا سند" تطلق التأمين المتعدد المخاطر منتوج "برو + المكتب"    قُصاصة حول إصدار    الباحث البحريني نوح خليفة: جهود المغرب تأتي موازية لتطلعات العالم الإنساني وعالم الطبيعة    بعد القضاء.. نواب يحاصرون وزير الصحة بعد ضجة لقاح "أسترازينيكا"    هاشم تقدم مؤلف "مدن وقرى المغرب"    دعوات متزايدة عبر الإنترنت لمقاطعة مشاهير يلتزمون الصمت حيال الحرب على غزة    بيع لوحة رسمها الفنان فرنسيس بايكن مقابل 27.7 مليون دولار    الصين تدعو لعلاقات سليمة ومستقرة مع كوريا    المخرج الإيراني محمد رسولوف يفر من بلاده "سرا" بعد الحكم عليه بالجلد والسجن    السعودية: لاحج بلا تصريح وستطبق الأنظمة بحزم في حق المخالفين    أسعار النفط تواصل الارتفاع وسط توقعات شح الإمدادات    دراسة: البكتيريا الموجودة في الهواء البحري تقوي المناعة وتعزز القدرة على مقاومة الأمراض    جامعة شعيب الدكالي تنظم الدورة 13 للقاءات المغربية حول كيمياء الحالة الصلبة    اعتقالات و"اقتحام" وإضراب عام تعيشه تونس قبيل الاستحقاق الانتخابي    إسبانيا ترد على التهديد الجزائري بتحذير آخر    لماذا يجب تجنب شرب الماء من زجاجة بلاستيكية خصوصا في الصيف؟    الأمثال العامية بتطوان... (597)    نقابة تُطالب بفتح تحقيق بعد مصرع عامل في مصنع لتصبير السمك بآسفي وتُندد بظروف العمل المأساوية    وفاة أول مريض يخضع لزرع كلية خنزير معدل وراثيا    الأمثال العامية بتطوان... (596)    هل يجوز الاقتراض لاقتناء أضحية العيد؟.. بنحمزة يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شاعرُ ريلكه في مَرايا رَسائِلهِ (1)
نشر في الأحداث المغربية يوم 14 - 05 - 2016

كَلِمَة ريلكه إلى "شاعر شاب" هي أكثر مِن "رسائل" في فَنِّ الشعر الصعب. هي وصية مُعتقة في ثنايا الفكر والوجدان، أسَرَّ بها الشاعرُ في لحظات شفافية من حياته، المنذورة لنوع نادر من "النحت" الشعري. إنها شيءٌ من درس رودان وقد تحوّلَ مجالُ نحتِه وعَملِه الشغوف إلى سُمْك اللغة بوصفها أداة كشفٍ وغاية شعرية. ما تعلَّمَهُ ريكله في ليالي اعتكافه الطويلة، أرادَ اقتسامَ بَعْض أسراره مع أوَّلِ طارق يَطلبُ وُدَّ كلماته، مُتوَسِّلاً الاقترابَ من ظلالِها العالية. إنَّها أيضا شيءٌ مِن فيضِ الصداقة التي تجْعلُ الشاعِرَ لا يَرْسم حُدودا تقيِّدُ عَطاءَه. كلمتُه مُندفِعةٌ بِحِسِّها الإنسانيِّ لِتُحطِّمَ أسوارا لامرئية، تفصِلُ عادة "الشاعرَ" عَمَّن ما يَزالُ في أوَّل الطريق. كلمةٌ ظاهِرُها (غير المُخاتِل) تواضُع أمام الشِّعر والإنسان الذي يَتلقفٌه وينادي عليه، وباطِنُها "وفاءٌ لِلبريق"، لِنداءِ المٌستقبل المُلَتمِع في عُيون أذهلَها الشوق.
لم تكن رسائلُ ريلكه مجرَّدَ لحظاتٍ مسروقة مِن زمن ارتخائه الوجودي، استعدادا لِهَجمةٍ أخرى على العمل الفنيِّ، بِكلِّ ما يَقتضيه مِن نسكية واعتكاف. لم تكن استراحةَ العائد من شراسة التأليف الشعري الذي يَقضِمُ مِن عَقل الشاعر وجَسده ووُجدانه. لقَدْ كانت، على نحو ما، استدعاءً مِرآويا بصيرا للمصير الذاتي، الذي جسَّدتهُ له قوة عُلويَّة في الكلمة الشعرية. لذلك، لَمْ يَفتأ ريلكه يُؤكِّد لِمُخاطبه اِنشدادَ تجربة الشعر لِضرورة وجُودية قصوى، لا مجال معها لتصوُّر إرادةِ قوَّةٍ بديلةٍ في اشتراط الكينونة وتفتُّقِها. إن "كُنْ" هنا شعرية بامتياز. لكنَّ فيضَها مَشروطٌ بتربية عَسيرةٍ وعَزيزةٍ على العَمل والوحدة. لا شك أنَّ الكلمة الشعرية تنتقي مُخلِّصَها من دهاليز الليالي وأغوار الوجودَ، لأنها تجِدُ فيه الاستعدادَ المُطلقَ لتحويل هِبات اللغة والحياة إلى هِبات للشِّعر.
رسائل ريلكه تَصدُر عَن هذه الحُرقة الوجودية الكاملة. الشعرُ، بالرغم مِن كلِّ مُتعِه القائمة والموعودة، ليس نزهةً قصيرة بين الفضاءات المائية والخضراء للكلمات. ليس ارتماءةً سعيدة وهانئة في عالَم مرسوم وناجِز المَعالِم. رسائل ريلكه تُعلِّمُنا أن الشعر أكبر من كل ذلك. هو العراءُ التام والفراغ الكُلي إلا مِن حِمله الشخصي الذي ينوءُ بِكَلكَلِه على المُتوحّدين الانعزاليين الكِبار. الفراغ هنا بمعنى الامتلاء بأصوات الحياة والطبيعة والوُجود في تخلُّص تام من الانهماكات الخارجية البعيدة عن جنسِ الشعر وجوهَرهِ. هو فراغٌ بالشعر ولِأجلِ كلمتِه المُؤسِّسة للكينونة. بيدَ أنه فراغٌ وَصْليُّ قائم على انشدادٍ ماديٍّ خالِص لِلطبيعة وأشياء الحياة والانسان، التي لا انفصال بين أعمارها وتراسلاتها المُتنوِّعة، في رؤيا الشاعر الخلاقة. لَعلَّه، مِن جديدٍ، شيءٌ من دَرس النحث يَجعلُ مِن فراغ الشاعر عُكوفا جسديا وروحيا على مادة الحياة وعناصرها، سواء تلك المُسترخية في أبدية صامتة، أو تلك الضاجة، العاملة، المُتوثبة، التي لا تفتأ توحي وتُشيرُ.
العُزلةُ، بهذا المعنى، ليستْ استقالة من الحياة، بل اِستقطارا للجوهري فيها. إنها اِمتصاصٌ لِلنسغ الغائر كالجرح. بهذا الجوهريِّ، يكونُ الشعرُ في حالة صيرورةٍ مُنصِتةٍ عميقا للوجود في تراسلاته اللانهائية. شاعرُ ريلكه يتعيَّنُ عليه أن يكون منذورا لهذه الصيغة "الوحيدة" من الحياة، التي تعادِل فِعْلَ "كُنْ" شعرية بالغة الرُّعب والعطاء. إنه حَدُّ الخطرِ في مغامرةٍ تنطلِقُ مِن مَسافةٍ تجاه أيِّ اجتماعية مِهذارة، تُبعِدُ الشاعر عمّا نُذرتْ لهُ نفسُه مِن ينابيع. البناءُ لِلمجهول يَفي هنا بغرض أنطولوجي. إنه أكثر من توصيف لطبيعة الكينونة المنذورة لِحَمْلِ عِبءَ الكلمة الشعرية. تتضافرُ عوامل لامرئية لِتجعَل الشاعرَ جديرا بكلمتِه ومُخلِصا لِبَذرتها الآهِلة بوعود الإيناع. ريلكه في "مرايا" رسائله يَبعثُ هذه الأطياف من جديد، ليجعَلَ الشاعِر مُستعِدا، على امتداد الليالي، لرؤية إيناعه الطويل يشقُّ الصخرَ ليكشفَ عن زهرته الشعرية الضرورية. زهرة تُعْرَف من شذاها الفاغم، الذي يَبعثُ الحياة في الأرجاء والوُجوه المُتعطِّشة لإشراق الماء المُجدّدِ لِلْكينونة.
ذلك الشيءُ الخصوصيُّ، ما يَبحثُ عن شكلٍ، هو ما تُسعِف وَحْدَةُ الشاعر "الآهِلةُ" بانبثاقه. لذلك، يَتعيَّنُ على التأهُّب الشعري أنْ يمُدَّ جذورَه الصامتة في هذه الأرض، التي تَحْمِلُ كُلَّ المعنى الوجودي لِلضَّرورة. لا حياة للشاعر في غير هذا "الأديم" المُنفصِل عنِ الصور الاستيهامية التي تتناسلُ في خارجٍ بلا روح. الشاعرُ لا يَستعدي "الخارج" وإنما ينفصلُ عن برانية الانهماكات التي هي ليستْ من طبيعة الحياة الشعرية وجوهرية تجاربها. هذا الخارجُ لا يُقيمُ في غير سطوحه وأضوائه الزائفة. واجبُ الشاعر، من هذا المُنطلَق، الإقامةُ بداخله، في كيانه الشخصي، لِاستدعاء أشياء الحياة والوجود والعالَم، مِن منظور جيولوجيا الباطن، التي تَملِكُ وحدَها حَقَّ التسمية وشكلَها وَأثرَها. إنهُ شاعِرٌ يَعيشُ تجربة "آدم" شعري، مُنِح قوة التسمية وفيضَها الشعري. شاعرُ ريلكه وَليدُ هذه الضرورة، التي هي مِن صميم حياة مُقطرَة. ضرورة بها يكونُ الشاعرُ، بادئاً مِن حيث تكون البدايةُ اِستئنافا مُؤَسَّساً على المَحو والإنصات والكتابة البطيئة الإيناع.
إنصاتُ الشاعِرِ وَوَحْدتٌه فعّالان، فيما يَرسُمان مِن أقدار للشعر. مِن أديمهما يَجني شاعِرُ ريلكه كوثرَ الطبيعة ودفقَ الحياة. ما مِن مَدخل نحو هذا الثراء "الغُفل" غير الاقتراب مِن الطبيعة بروح "الانسان الأول". الاقترابُ عيشٌ بَعيدُ قُربَ الينابيع الدافقة في صمت. اِنحناءةٌ حانِيةٌ على الأشياء لِلظَّفر بقلبِها النابِضِ. هذا الظفرُ بهِ يُوعَدُ شاعرُ ريلكه شريطةَ خُلوص النية وقوة العزم، بما هما فراغٌ تام من نداءاتٍ خارج مُضلِّل. كُلَّما أدركَ الشاعرُ هذا المَقام، كان أكثر تهيُّؤا لِجَنيِ ثِمارِه المَوعودة. وأيُّ تسرُّب ل "أضواء" الخارج تضلِّلُ الشاعِرَ عن مكان النِّعمة. مكانٌ ينأى بطبعه عَن طرق الاستعجال و التسخير والبحث عن المنافع والمُكافأت. نِعْمةُ الشعر مُصانةُ بِمَسالِكها السِّرية المُتحوّلة، التي لا يُدرِكُها إلا مَن أفرغَ لها الكيان. وكُلَّما ضَلَّتْ إٍرادةُ الشِّعر طريقَها، وتعذَّرَ القولُ، فإنَّ ريلكه يُوصي شاعِرَه باتِّهام نفسِه، والشكِّ في فراغ نيَّتِه، قبل اتِّهام الطبيعة بالشُّح وأيّامِه بالضَّنك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.