يبدأ فيلم عباس كياروستامي "طعم الكرز" بمشهد "بديع" أو "بادي"، و هو يقود سيارة رباعية الدفع "رانج روفر"، الماركة البريطانية الشهيرة، لكنك تشك من خلال تمعنك في عينيه الشاردتين، في أنه ذاهب لمكان معلوم، انه انسان "يطوي" طريقا غير معبدة، باحثا عن شئ، عن أمر، عن مساعدة، ربما عن خلاص.. في النصف ساعة الأولى من الفيلم، لازلت لا تعرف عما يبحث السيد "بديع" هذا، لكنك لا تمل من مشاهدته و هو يبحث، و يسأل، وهو يجوب مسلكا صعبا بين تلال و جبال قاحلة، ويخترق منعرجات كما لو أنه في متاهة، و تتعاطف معه، فمن خلال تعابير وجهه الشاحب، و تقاسيم ملامحه وهو يتكلم و يطلب ويخاطب من يلتقيهم في طريقه، تفهم أنك أمام انسان فاقد للأمل. يزداد أملك في معرفة كنه هذا الرجل، ما الذي يجعله أسير هذه المنطقة التي لا حياة فيها تقريبا؟ لماذا يجوبها بسيارته؟ لماذا كلما رأى شخصا يذهب نحوه "مهرولا" كما لو أنه عثر على "كنز" نادر؟.. تتناسل الأسئلة في ذهنك الى أن يلتقي "بادي" (بديع) بطالب أفغاني، جاء لايران ليتابع دراسته الدينية في احدى حوزاتها.. في حوار شيق، يقول السيد بديع لهذا الطالب، أعلم أن ما سوف أطلبه منك يعاكس قناعتك الدينية، و مخالف لما تدرسه، و أعلم أن من مهماتك، دعوة الناس للهدى، لكنك مازلت صغيرا، مازال أمامك متسع من الوقت لتفعل هذا الأمر عندما تكبر قليلا، أعرف مسبقا أنك مقتنع بأن الله وحده هو من يهب الحياة، و هو من ينزعها، لكن في بعض المرات "يتأخر"، فيقرر الانسان أخد زمام الأمور بنفسه.. هنا، تتيقن من أن السيد "بديع" هذا، يريد الانتحار، و يبحث عمن يساعده في خطته.. بعد هذا الحوار الجميل، تفهم لماذا اختار كياروستامي تلك الألوان الرتيبة منذ أول لقطة في الفيلم، و تفهم لماذا اختار مكانا "مملا" لتصوير الأحداث، هذا المكان "الأصفر"، هو في الحقيقة صورة الحياة كما يراها "بديع"، لا دم فيها ينعش شرايينها، و يحمل الأوكسجين الى أعضائها، حياة بلون التراب و طعم التراب.. يخاطب "بديع" أفغاني آخر في الفيلم قائلا، ياله من مكان جميل، فيرد "الأفغاني"، عن أي "مكان جميل" تتحدث؟، انها مجرد قطعة أرض مليئة بالتراب و مغطاة بالغبار.. هنا أيضا يعلم بديع بأن المكان ليس جميلا، و لكنه يريد أن يسمعها من غير صوته الداخلي.. كيف لمخرج أن يصور فكرة الانتحار بهذه "الشاعرية" ان لم يكن فيلسوفا حقيقيا؟.. في العادة، تتسائل هل تستحق هذه الحياة أن تعاش؟، وبعد الفيلم، تبدأ في التساؤل، هل الحياة تستحق منا أن نقتل أنفسنا من أجلها؟.. طيلة الفيلم، وسواء تعلق الأمر بالجندي البسيط من كردستان الذي يتشبت بعمله رغم راتبه الهزيل، أو تعلق الأمر بحارس الورش الأفغاني الذي طردته الحرب الى بلاد ليست هي مسقط الرأس و الهوى، لكنه يؤدي فيها عمله بأمانة و في يوم عطلة، أو تعلق الأمر بطالب العلم الذي يفضل الانتصار في الحياة و للحياة بقناعاته الدينية، أو تعلق الأمر بالعجوز الحكيم الذي يفهم الحياة كتضحية من أجل من نحب.. تخرج بخلاصة رهيبة، و هي أن الحياة تكون جميلة و تستحق أن تعاش، بقدر الجمال فينا و قدرتنا على تقاسمه.. في خضم بحثه عن من سيساعده في خطته، و بعد رفض و تردد عدة أفراد من مناطق ايرانية مختلفة في الدخول معه الى "منطقه" الغريب، و فلسفته و تصوره لما يجب أن تكون عليه نهايته، و بعد مغامرته مع "المجند" الكردي، يلتقي "بطل" الفيلم، بالأفغاني الذي يحرس ورش وآلة لاستخراج الاسمنت، فيسأله، من أين أنت بالضبط، فيجيبه العامل البسيط، أنا من "مزار الشريف"، فيتعجب البطل من اسم المكان و يسأله عن السر في تسميته ب"الشريف"، فيرد عليه الأفغاني بكل براءة، انه مرقد الامام علي!! و هو مكان حج!!، فيزداد تعجب السيد "بادي" (بديع) و يقول له مصححا، أوليس مرقد الامام علي في النجف؟!!.. فتكون اجابة عامل الورش بكل بساطة، "نعم، لكن هناك من يظن أن قبر علي يوجد في (مزار الشريف)"!!.. الذين يظنون بأن السينما الايرانية، و أمثال عباس كياروستامي الذين صنعوا مجدها، مجرد "نتيجة" لثورة الخميني، هم تماما كمن يظن فعلا بأن مرقد الامام علي انما يوجد في.. أفغانستان!!..