في كل لقاءات بطل فيلم "طعم الكرز"، للمخرج الايراني عباس كياروستامي، أثناء بحثه عمن يساعده في عملية الانتحار التي حفر من أجلها قبرا قرب شجرة في منطقة نائية، كنا نتعرف على الشخصية، ثم تأتي المفاوضات العسيرة، و الأخد و الرد، و الحجج و الحجج المضادة، الا في لقاء السيد "بديع" بالشخصية الأخيرة التي ستصعد معه في سيارته، في لقطة معبرة، يخبرنا المخرج بأن "بديع" قد اتفق مع أحدهم على اتمام المهمة، لكننا لا نعرف من هو، لم نشهد مفاوضات مباشرة، لم نتعرف على الشخصية، (سنعرف فيما بعد أنها من أصل تركي)، لم نعرف من أين أتت، و لا كيف ركبت مع بطل الفيلم، لكننا سنعرف بعد دقائق الى أين هي ذاهبة، و أين تشتغل، و لماذا قبلت الاتفاق / الصفقة. نتخيل أن من وافق أن يكون طرفا في مشروع السيد "بديع" الانتحاري، عجوز، فقط من صوته، لأننا لم نشاهده بعد، يتركك المخرج متشوفا، متشوقا لمعرفة هويته و دوافعه و أسباب قبوله مساعدة الشخصية الرئيسية في الفيلم. فاللقطة السابقة لا تقول لك شيئا عنه، بل تخال السيد "بديع" و قد استسلم ل"ماكينة" تحفر و تردم، و تحسب للحظات أنه بدل خطته، و قرر أن يجلس في مكان الورش الى أن يغطيه الحطام، خصوصا بعد أن أخفاه الغبار المتطاير عن الشاشة. العجوز التركي له "حانوت" صغير، في متحف للتاريخ الطبيعي، و يقوم كذلك بتحنيط الطيور بعد اصطيادها، وأثناء حواره، تفهم لماذا اختار كياروستامي "طعم الكرز" كعنوان للفيلم، ذلك أن من اختار مساعدته، حاول هو أيضا الانتحار في أولى سنوات زواجه، لكنه أثناء محاولته تثبيت حبل مشنقة على شجرة في احدى مزارع التوت، أحس بشئ لزج في يديه، فاذا هي حبات كرز، تذوق الأولى فالثانية فالثالثة، أحب المذاق، نسي نفسه حتى طلوع الشمس، و فاجأته رحلة التلاميذ الصغار الصباحية نحو مدارسهم، يمرون أمامه، و يسألونه بشغبهم الطفولي أن يهز لهم الشجرة، ليتساقط الكرز، فيفعل، و يحس بسعادة غامرة، ثم يجمع حبات التوت هو أيضا و يذهب بها لزوجته، تتذوق شريكته في الحياة "طعم الكرز"، فتعجبها.. يقاطع السيد "بديع" سرد العجوز لحكايته مع الانتحار، متسائلا، هل انتهت مشاكلك فقط بحبات الكرز؟ ، فيجيب من أخدت الطريق منه 35 سنة من عمره بحكمة الزمن، لا، لكنني أنا من تغيرت في تلك اللحظة، والمشاكل لن تنتهي، و اذا فكرنا في الانتحار كلما واجهتنا مشكلة في هذه الحياة، فلن يبقى مخلوق واحد على وجه هذه الأرض.. ثم هل تريد أن تتخلى عن طعم الكرز؟.. التناقض الانساني، هذا ما يريد كياروستامي ايصاله، فالرجل التركي، يحاول جاهدا اقناع السيد "بديع"، بلا جدوى الانتحار، لكن، هل يفعل ذلك لأنه مقتنع فعلا بالأمر، أم فقط لأنه وجد تفسيرا لفشله فيه؟، نفس التناقض يظهر عندما يصر السيد "بديع" عند مخاطبته لطالب العلم، الأفغاني الأصل، بمنطق معاكس تماما لقناعة هذا الأخير الدينية، فيقول له مثلا: "ان دينك يحثك على مساعدة الغير.. فساعدني اذن (على الانتحار)(!).. عند وصول العجوز التركي الى عمله، يريد منه السيد "بديع" أن يعيد على مسامعه كل الخطة، ليتأكد من كل التفاصيل، و بأن العجوز لن ينسى ما يجب عليه فعله صباح الغد على الساعة السادسة، بعد تردد، يردد صاحب الحانوت لبديع ما يريد سماعه، و يبرر صمته بتعبير بليغ عندما يقول: ان فعل ذلك أسهل من قوله.. خطة الانتحار هي أن يتناول السيد "بديع" أقراصه المنومة ثم يستلقي في حفرة حفرها في مكان قصي جاف، قرب شجرة وحيدة في المكان، كما لو أنها علامة تشوير، ثم على العجوز أن ينادي عليه ثلاث مرات، فإن لم يستيقظ، يقوم بإهالة عشرين مجرافا من الرمل على الجثة، ويأخذ أجره في النهاية، مبلغا "محترما" لقاء هذه الخدمة "البسيطة"، أما إن استيقظ السيد "بديع"، فعلى الرجل أن يساعده على مغادرة القبر.. في لقطة تقول كل شيئ عن الحياة، يطلب العجوز الحكيم من السائق / بطل الفيلم أن يأخد طريقا أخرى، صحيح أنها الأصعب، و ربما الأطول، لكنها الأجمل.. هي كذلك الحياة، بمرارتها، لكنها أيضا.. نفس الحياة التي تهديك.. "طعم الكرز"..