تزخر كتب الأدب العربي بقصص غاية في الطرافة عن مجنون بني عامر، قيس بن الملوح الذي شغف حبا بابنة عمه ليلى، بعدما انقطع حبل الوصال عنها ورفض والدها تزويجه إياها احتراما لعادات العرب في منع تزويج البنات لكل من كشف عن حبه وعشقه واشتهر بين الناس بذلك قبل أن يقدم على الخطبة، فما كان منه إلا أن هام على وجهه في البراري والفيافي والقفار، حتى مات جريح القلب مندمل الصدر. وإذا كان مجنون بني عامر هذا قد خلد نفسه وقبيلته ومحبوبته بهذا الحب الذي قدم حياته ثمنا له، فإن قبيلة أحمر استطاعت بدورها أن تدخل التاريخ من بابها الواسع، وأن تجد لنفسها قدما راسخة في موسوعة العشق والهيام حينما أنجبت عاشقا من طينة المجنون، ملك عليه الحب سمعه وبصره وفؤاده، فسخر كل شيء لمحبوبته، ووقف عليها مشاعره وأحاسيسه، هذا الابن البار أبى إلا أن يعيد التاريخ ويصل الماضي بالحاضر بطريقته الخاصة، لن يكون سوى رئيس المجلس الحضري لمدينة اليوسفية الذي قتلته طلبات السند (البوند كوموند) بحبها وأنهكته بعشقها، فلم يجد بدا من اللهاث وراءها واستحضارها في كل صغيرة وكبيرة، وتفصيل ميزانيات المجلس وفائضها على مقاسها، حتى انتشرت في الناس رائحة هذا الحب، وعرفوا ألا شيء يمكن أن يمر من مشاريع المجلس دون أن يمتطي ظهرها ويتلبس بلبوسها، فكنوه بمجنون البوند كوموند، ولأن عادات العرب وقيمها انتفت وصارت ضربا من التخلف ومن آثار الجاهلية الجهلاء، فقد خلى القوم بينه وبينها، وانحازوا جميعا لصالح الوصال والاتصال، ولم يحدوا حدو والد ليلى بفصله بين العشيقين، وهو ما مكنه من تحقيق الإشباع وإرواء رغبة ذاقها فعرف لذتها، وحينما عرف اغترف. وإذا كان مجنون بني عامر قد قضى حياته متنقلا بين القبائل والديار عساه يجد ريح محبوبته، بعدما غيبوها عنه ورحلوها إلى مكان بعيد، كما تحدث هو عن نفسه قائلا: أمر على الديار ديار ليلى............... أقبل ذا الجدار وذا الجدار وما حب الديار شغفن قلبي.............ولكن حب من سكن الديار دون أن يتحقق له مراده، ليموت على هذه الحال، فإن مجنون حمير لم يمر على ديار، ولم يقبل جدار، ولم تذهب نفسه حسرات على بغية بوند كوموندية لم يجد حائلا يحول بينه وبينها، ووجد بالمقابل أعوانا لم يألوا جهدا في تمهيد الطريق له نحوها، وإزالة الحواجز التي من شأنها التشويش على وصاله للتي تسكن وراء ديار ميزانيات أبوا جميعا إلا أن يأتوه بها، ويعفوه من عناء البحث عنها. أخيرا يبقى، رغم البون الشاسع والهوة الكبيرة، قاسم مشترك بين المجنونين، يتمثل في الإصرار الكبير على التشبت بما علق بالقلب، فالمتقدم تعلق بأستار الكعبة المشرفة، ودعا ضدا على رغبة والده الذي أمره أن يطلب من الله شفاءه من داء الحب، بدعوة قال فيها: "اللهم زدني لليلى حبا، وبها كلفا، ولا تنسني ذكرها أبدا"، بما يشي بذات مازوشية تتلذذ بما تجده من سوء العذاب. المتأخر بدوره يطلب ليل نهار أن يزداد حبه وكلفه للبوند كوموند، ويترجم ذلك بممارسات عملية على أرض الواقع لا تلتفت إلى دعوات من هنا وهناك بالتوقف عن ممارسة اللذة الحرام، بما يشي برغبة سادية تتلذذ بتعذيب الآخر ووأد أمانيه في بركة سوء التدبير، غير عابئ بصيحات تعتبر حبه هذا ضلالا مضللا.