إسرائيل تقصف مخازن مساعدات بالجانب الفلسطيني من معبر رفح    "حماس" توافق على المقترح المصري القطري لوقف إطلاق النار مع إسرائيل    الضريبة على الدخل برسم الأرباح العقارية: إمكانية طلب الرأي المسبق للمديرية العامة للضرائب    شركة "OLA Energy Maroc" توقع اتفاقية جديدة لمزج زيوت التشحيم في المغرب لعلامة "Mobil"    ارتفاع الاستثمار الأجنبي المباشر في المغرب ب56,2% عند متم مارس 2024    مرصد: الحكومة جعلت من الحوار الاجتماعي مؤسسة منتجة للقرارات والمكتسبات والإصلاحات    بسبب تصرفات مشينة وعنيفة.. تأجيل محاكمة محمد زيان في قضية اختلاس أموال الحزب الليبرالي    الفيفا تصدر أول تصنيف عالمي لمنتخبات الفوتسال.. وأسود الأطلس في المرتبة السادسة عالميا    لاعبين الزمالك كاعيين قبل الفينال ضد بركان ومدربهم كيحاول يكالميهم    ماكرون يطالب بمشاركة مبابي في أولمبياد باريس    عاجل.. القضاء يعزل رئيس الرجاء محمد بودريقة من رئاسة مقاطعة مرس السلطان    ملف "التوظيف مقابل المال".. دفاع اليملاحي يلتمس السراح المؤقت والقاضي يؤجل الجلسة    المحرشي ..الخياط لي عندو قصر فالرباط رجع من الغربة وبغا يدير وساطة والتمس من الحكومة دير حل لإضرابات طلبة الطب: وها كيفاش تجاهلو وزير الصحة    وفاة المقدّم التلفزيوني الفرنسي الشهير برنار بيفو    تطويق أمني بالعاصمة يحول "مسيرة الصمود" لأطباء الغد إلى "وقفة الحشود"    عن اللغة الأمازيغية في البطاقة الوطنية والوثائق الإدارية    البرجاوي للدار: حكومة اخنوش تمكنت من إرساء الركائز القانونية والمؤسساتية واللوجستيكية للدولة الاجتماعية    ارتفاع حصيلة قتلى الفيضانات في البرازيل إلى 83    إسرائيل تغلق مكتب الجزيرة وألمانيا تنتقد القرار    حصيلة منجزات وكالة بيت مال القدس فاقت 13,8 مليون دولار خلال الخمس سنوات الأخيرة    تطوان: إطلاق طلب عروض لإنجاز منطقة الأنشطة الاقتصادية والحرفية "كويلمة"    الضمان الاجتماعي الإسباني يتحاوز عتبة 21 مليون منتسب    بلقصيري: أجواء افتتاح مهرجان سينما المرأة والطفل في دورته الأولى    اختتام القمة ال15 لمنظمة التعاون الإسلامي باعتماد إعلان بانجول    هذه تفاصيل موجة الحرارة المرتقبة في المغرب ابتداء من يوم غد الثلاثاء    وثائقي فريد من وزارة الثقافة والتواصل يبرز 6 ألوان فنية شعبية على ضفاف وادي درعة    اللي كيمشي لطريفة وعزيز عليه الطون والسربيسة والسينما: ها مهرجان وها الافلام المغربية المعروضة فيه    إضراب جديد يشل محاكم المملكة    لأول مرة.. تاعرابت يحكي قصة خلافه مع البرازيلي "كاكا"    بسبب الهلال.. لجنة الانضباط تعاقب فريق الاتحاد السعودي وحمد الله    تسجيل بقوة 2.5 درجات على سلم ريشتر بإقليم تاونات    مبادرة التنمية البشرية تمول 4174 مشروعا بأكثر من ملياري درهم بجهة طنجة    المغرب يحتضن الدورة 16 للبطولة الإفريقية للدراجات الجبلية    حماة المال العام: "حفظ طلبات التبليغ عن الجرائم من شأنه أن يوفر الحصانة لمتهمين متورطين في مخالفات جنائية خطيرة"    الدوري الإسباني .. النصيري يواصل تألقه    أسعار النفط العالمية تعود إلى الارتفاع    تفاصيل جديدة حول عملية نقل "درب عمر" إلى مديونة    بعشرات الصواريخ.. حزب الله يستهدف قاعدة إسرائيلية في الجولان    الذهب يصعد وسط توترات الشرق الأوسط وآمال خفض الفائدة في أمريكا    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    وفاة مدرب الأرجنتين السابق لويس مينوتي بطل مونديال 1978    مهرجان الجونة السينمائي يفتح باب التسجيل للدورة السابعة من "منصة الجونة السينمائية"    "الثّلث الخالي" في القاعات السينمائية المغربية إبتداء من 15 ماي الجاري    دراسة: السجائر الإلكترونية قد تسبب ضررا في نمو الدماغ    المشاهد الجنسية في أفلام هوليوود تراجعات بنسبة 40% وها علاش    فيدرالية ارباب المقاهي تنفي الاتفاق على زيادة اثمان المشروبات وتشكو ارتفاع الأسعار    باحثة: الضحك يقدر يكون وسيلة واعرة لعلاج الناس    رأي حداثي في تيار الحداثة    دراسة مواقف وسلوكيات الشعوب الأوروبية تجاه اللاجئين المسلمين التجريد الصارخ من الإنسانية    اعتصامات طلاب أمريكا...جيل أمريكي جديد مساند لفلسطين    دراسة حديثة تحذر المراهقين من تأثير السجائر الإلكترونية على أدمغتهم    السفه العقدي بين البواعث النفسية والمؤثرات الشيطانية    جواد مبروكي: الحمل والدور الحاسم للأب    منظمة تدعو لفتح تحقيق في مصرع عامل بمعمل تصبير السمك بآسفي    الأمثال العامية بتطوان... (589)    الأمثال العامية بتطوان... (588)    جامعيون ومتخصصون يحتفون بشخصية أبي يعزى في ملتقى علمي بمولاي بوعزة        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخطاب النوعي في رواية البعد الخامس
نشر في طنجة الأدبية يوم 18 - 03 - 2013

يثير أدب الخيال العلمي أسئلة متعددة حول طبيعته التي تبدو متضادة من جهة كون الخيال علمياً، ومن جهة الجمع بين الخيال والعلم، ومدى علاقة الخيال بالعلم من جهة، وبالخرافة من جهة أخرى، والفرق بين أدب الخيال العلمي والأدب العجائبي، والفرق بينه وبين الخيال الأدبي.
1- الخيال العلمي والخيال الأدبي
يعتمد أدب الخيال العلمي على الشطحات البعيدة في الخيال، لكنه الخيال المرتبط بالعلم، إذ يمثّل العلم منارة تهديه، وتكشف عنه.
وتعتمد رواية الخيال العلمي –عادةً- البساطة، والبعد عن التعقيد في اللغة والأسلوب والبناء، ضرورةً لإيصال الفكرة الغريبة، وإذا كان يشترط على الكاتب الأدبي أن يمتلك ثقافة أدبية واسعة فإن كاتب الخيال العلمي يجب أن يمتلك ثقافة علمية واسعة. فالعلم مادتُه الأساس. ومنطقُه حين يستند إلى العلم في خطابه السردي الحقيقةُ العلمية التي تفجّر خياله، وتجعله يبدع عالماً خيالياً ممكن التحقق في المستقبل القريب أو البعيد، فحين ترتبط المعرفة العلمية بالخيال يصبح تحقيق ما أنتجه الخيال العلمي أمراً ممكناً.
والخيال لغة هو الظن والوهم والتصور.(1) فيعني الخيال التحليق بعيداً عن قيود الواقع، وتكوين صورة مرتبطة به من جهة، ومختلفة عنه وجهة أخرى.
ويعتمد الأدب على الخيال؛ ليكتسب صفة الأدبية، فثمة خيال أدبي يخلق الصورة، ويكسر طريقة التعبير العادي، ويقدم الأشياء بتركيب جديد؛ لذا يمكن القول: إن المبدع يستطيع بالخيال أن يوحد بين المختلفات، ويجمع بين المتنافرات.
والخيال موجود في الشعر والنثر على حد سواء، إنه المَلَكَة العقلية "الموكدة للتصورات الحسية للأشياء المادية الغائبة عن النظر، وهي على نوعين: إما أن تستعيد الصور التي شاهدها صاحبها من قبل، ويسمّى عندئذ المتخيلة المتذكرة أو المستعيدة، أو تعتمد صوراً سابقة، فتولّد منها صوراً جديدة، وتسمى عندئذ المخيلة الخلاقة.)(2)
ويتفاوت نصيب المبدعين من الخيال، فمنهم من كان خياله متوقداً، ومنهم من كان ذا حظ عاديّ من الخيال، كما أن ثمة فرقاً بين مخيلة تستعيد الماضي واللاشعور، وتبدع منهما خيالاً ومخيلة خلاقة حرة لا ترتبط بشيء؛ لذا نستطيع القول: إن الخيال خيالان: خيال مرتبط باللاشعور والتجارب السابقة والمعارف والقدرات العقلية، وخيال حرّ خلاق من دون ارتباط سابق.
ويستطيع الخيال أن يقفز إلى المستقبل البعيد حتى لا تعود هناك أية علاقة بين رؤيا المبدع وبين حياة الشخص العادي المألوفة.(3) أما التخييل فهو عملية استحضار ذهنية تحاكي ظواهر كونية مختلفة، فالخيال أبرز ما يميز الإنسان، وكلما ارتفعت درجة الخيال ارتفعت درجة الابتكار..
إن ثمة فرقاً بين العلم والخيال العلمي، إذ يعتمد العلم على الحقائق والتجريب للوصول إلى نتائج منطقية لها علاقة بالمقدمات، ومتماثلة معها. إنه معرفة عقلية منظمة، يرتبط "بالنظرة الفلسفية للعالم؛ لأن هذه النظرة تسلّحه بفهم لنظرية المعرفة ولمنهج البحث وللقوانين التي تحكم العالم الموضوعي."(4) ففي اجتماع العلم والخيال تضاد، إذ كيف يجتمع ما هو قائم على الحقائق العلمية، ومرتبط بالواقع، وناجم عنه مع الخيال الذي يعني عدم الصدق، والتحليق بأجنحة بعيداً عن الواقع، وبناء مجتمع غير موجود حقيقة.
ويتضاءل هذا الفارق بإدراكنا أن ثمة ارتباطاً بين الخيال والمجال الذي يتحرك هذا الخيال فيه، إنه يدور في الحقل العلمي، حقل الاختراع وغموض الكون و محاولة تفسيره، وهي أمور تضفي غموضاً شفيفاً على هذا العلم، وتجعله أثيراً لدى المتلقي، منشداً لمعرفة ماهية الغموض، فالخيال العلمي مرتبط بالعلم، وما يتعلق به، يلتقي الخيالَ الأدبي الذي يحلّق في أجواء بعيدة، لكنها ليست شبيهة بالأجواء الموجودة في رواية الخيال العلمي.
ويَحدث أن نجد خيالاً فلسفياً أيضاً، يخلق به الفيلسوف عالماً خاصاً به، يحمل رؤياه كالمدينة الفاضلة لدى أفلاطون، فالخيال في أحواله كلها تحليق فوق الواقع إلى واقع من صنع صاحب الخيال، وإذا كان الخيال غير متحقق في الوجود فإن الخيال العلمي قد أثبت أنه قابل للتحقق؛ لاستناده إلى حقائق علمية تجعل المادة المتخيلة قابلة للتحقق.
وليس التنبؤ العلمي مبنياً على أوهام "لأن الأساس فيه يرتكز على ما هو بين أيدينا من بحوث علمية عميقة تشير إلى إحداث تغيرات جوهرية ليس في الاختراعات التي تطور حياة الإنسان وحسب بل في أمور أكثر خطراً من ذلك كتغير طبيعة الإنسان البيولوجية"(5)
وتختلف رواية الخيال العلمي عن الرواية التقليدية في جملة أمور منها أن الزمان في الرواية التقليدية هو الحاضر أو الماضي في حين أن زمن رواية الخيال العلمي قد يكون الماضي أو الحاضر أو المستقبل، أما المكان فهو الأرض والفضاء خلاف الرواية التقليدية التي تجري أحداثها على الأرض.
وقد تكون شخصيات رواية الخيال العلمي إنسانية، وقد تكون شخصيات من الفضاء، أما الأحداث فهي غير تقليدية ممتزجة بأحداث تقليدية، تشيع فيها المصطلحات العلمية، أما البيئة التي تجري فيها الأحداث فقد تكون تقليدية، وقد تكون غير تقليدية..
2- أدب الخيال العلمي والخرافة والأدب العجائبي
ثمة فرق بين أدب الخيال العلمي والخرافة؛ ذلك لأنه يستند إلى ما لدى الأديب من مخزون علمي، كما أن قصص الخيال العلمي تلتفت إلى الحاضر أو المستقبل، ولا تحمل رؤيا انكفائية، وتحفز المتلقي على التطلع إلى التقدم العلمي، ولها صفة تنبؤية. وتختلف هذه الرواية عن القصص الخرافية؛ لاحتوائها على المنطق العلمي، والقياس العقلي، والنتائج المنطقية مع أنها بعيدة عن الواقع.
الخيال هنا خيال مستقبلي فقط، فالأدب كله يدخله الخيال، لكنه هنا يتجه إلى المستقبل. كما أن الخط التقليدي للرواية، أو الخرافة يسير في خطوط زمنية متقاطعة أو متوازية، أما في هذا النوع الأدبي فهو خط زمني تصاعدي غالباً؛ لذا يمكن القول: إن حكاية السندباد، وحكايا ألف ليلة وليلة لا تدخل في أدب الخيال العلمي، فهذا الأدب لون جديد، ولا علاقة لتراثنا بأدب الخيال العلمي، ولا يزال كتّابه قليلين.
أما الأدب العجائبي فأساسه الرعب، يستبدل به في أدب الخيال العلمي عنصر المفاجأة والإدهاش. وقد صنف تودوروف أدب الخيال العلمي ضمن الأدب العجيب.(6) لكن ثمة فرقاً بينه وبين الأدب العجيب، إذ إن "ما هو مشترك بين الخيال العلمي والأدب العجيب هو وصف (حقيقة) تعدّ بالنسبة إلى قارئ القرن العشرين خيالية، واللجوء إلى الغامض وغير الطبيعي، واليوتوبيا العلمية يبقى بالنسبة إلى كلا النوعين أساس الذوق المعتمد".(7)يلاحق أدب الخيال العلمي المدهش إذن، فليتقي الأدب العجيب.
رواية الخيال العلمي رواية مستقبلية رؤياوية معرفية، والمعرفة أعلى مستوى من العلم، يمكن أن نصنِّفها على أنها أدب جاد، يوجه همّه إلى المستقبل الغامض، لكننا يجب ألا ننجرف كثيراً وراء هذه الفكرة إذ يمكن لأدب الخيال العلمي أن يروّج مفاهيم خاطئة، كما أن فيه من الأمور ما يبعده عن العلم الحقيقي، إذ إنه ليس أدباً واقعياً، وليس تنبؤياً خالصاً، وليس خيالياً جامحاً؛ لارتباطه بالحقائق العلمية، والاكتشافات العلمية، يعتمد على التفسير العلمي في جو خيالي أداته لغة علمية فهو إذن يجمع الضدين المتوازيين في حال شبه تضاد حين يعالج مشكلات متعلقة بالإنسان وازدياد معارفه، فيمتزج الخيال بالمعرفة العلمية في معناها الاصطلاحي "في بنية مقنعة في عمومها، وإن لم تكن كذلك في تفاصيلها الدقيقة".(8)
3- البعد الخامس(9)
تدور أحداث الرواية في الهند، وتبدأ بعودة الراوي وزوجه إلى الهند ذلك البلد الذي يحمل ذكريات رائعة لدى الراوي د. طارق الذي وفد إلى هناك؛ ليشارك في مؤتمر علمي عن طب النفس والخوارق، وتبدأ الرواية بوقوف الراوي وزوجه مدهوشين أمام لوحة تمثل كهلاً كأنه شجرة متفرعة، وتكون هذه اللوحة سبباً للدخول في أحداث متلاحقة، إذ يتعرف د. طارق إلى د. ماهر الذي سحرته هذه اللوحة أيضاً، وكان قد أتى إلى الهند بهدف المشاركة في المؤتمر أيضاً، فيروي قصة جده د. حامد الذي رغب في البحث عن أسرار الخلود، ونجح في إطالة عمره، وهو متوارٍ عن الأنظار، فقد اختفى بآلية تبدو غامضة في بداية الرواية، إذ يروي د. ماهر ما حدث مع جدّه قائلاً: (حين توفيت زوجته، أقصد جدتي، وكان عمره عند ذلك تسعين عاماً، وكانت جدتي في الثامنة والسبعين.... اختلى بعد دفن جدتي بابنيه والدي وعمي لعدة ساعات، ثم حمل حقيبته الضخمة وودعهما، ولم يره أحد بعد ذلك إلا بعد مرور ثلاث سنوات، وهو يزرونا بشكل متقطع لفترات قليلة...). ( الرواية ص 18)
يرافق الراوي وزوجُه الدكتور ماهر في رحلة بحثه عن سرّ جدّه، وسرّ اختفائه، فتُسرد أحداث حول صديقه الهنديّ، والقدرات التي يمتلكها، فلديه قدرة على التحكم بجسده، ويستطيع أن يرتفع عن الأرض بهدوء، ثم يعود إلى الانخفاض، كما أن لديه قدرة على قراءة الأفكار وتحويل ضربات قلبه إلى ضربتين في الدقيقة (الرواية ص 28).
وتتلاحق الأحداث فليتقي الراوي وزوجه والدكتور ماهر صديقاً آخر للجد د. حامد هي شخصية أوم بركاش سنغ الذي يمتلك قدرة على قراءة الأفكار، ومعرفة خبايا النفس عن طريق متابعة الذهن وومضاته، يسرد للرواي وللدكتور ماهر حكايا عجيبة عن محاولاته للخروج من جسده، والتجول في أماكن عديدة من العالم لأيام، والعودة إلى جسده (الرواية ص 36). فيكتشف أن لدى الإنسان قدرات خارقة لا يتمتع إلا بجزء ضئيل منها.
يصلون بعد محطات انتقالية مختلفة إلى بيت صديق جد الدكتور ماهر، فيسمعون صوتاً يخاطبهم بالعربية من دون أن يروه، ويخبرهم أنه قد أودع أوراقاً تحمل خلاصة تجاربه والجدّ الدكتور حامد. (الرواية ص 47)، وحين يسأله د. ماهر عن سبب عدم إمكانية رؤيته يجيبه بأنه في البعد الخامس، وهو يعني مكان المكان، وزمان الزمان، ويبدأ د. ماهر بسرد مذكرات الجد، وقصته مع زيدي الشاب الذي أخرجه الجد (د. حامد) من المشرحة حياً، وساعده على الزواج بمن يحبّ، فدرس الطب، وبرع في إجراء أبحاث في سر الحياة، وبعد وفاة زوجه اعتقد أنها انتقلت إلى عالم آخر يستطيع النفاذ إليه من دون موت (الرواية ص 63) فشرع يطبق الأبحاث على نفسه، وانتقل بالتدريج إلى البعد الخامس، وأصبح يدور في الكون، ويتعرف إلى كائنات عاقلة.
وذهب الراوي بصحبة زوجه و د. ماهر إلى مكان حدده الجدّ بواسطة رؤيا حدثت مع زوج الراوي، فيسمعون صوت الجدّ، ولا يرونه، فيخبرهم أنه أصبح في البعد الخامس، فالجسد قيد، وقد رغب في التخلص منه، كما رغب في التخلص من هذا العالم الحافل بالظلم والغدر والجريمة، (الرواية ص72).
وتتلاحق الأحداث الشائقة فيصل د. ماهر و د. طارق إلى مزرعة جده للحصول على الصندوق الحديدي الذي أودع فيه الجدّ مذكراته وأسراره، وبعد أن يحصل د. ماهر على الأوراق يبدأ بالغياب طويلاً، ويستلم الراوي منه رسائل تؤكد أنه يسير على خطا جده د. حامد ثم يرسل في نهاية الرواية رسالة تؤكد أنه اختفى تماماً، ودخل في البعد الخامس، وتعرف إلى مكان المكان المكان، وزمان الزمان.. وسط دهشة أحبائه ومريديه (الرواية ص98).
4- الخطابات المتداخلة ضمن الخطاب الروائي
يتضمن الخطاب الكلي في هذه الرواية مجموعة خطابات نوعية متداخلة تتكامل؛ لتشكل صورة كلية للخطاب.
4-1-الخطاب العلمي
يعدّ الخطاب العلمي متزناً في تعاطيه مع المادة الحكائية، وهو يعني بشكل من الأشكال الكتابة في درجة الصفر، أو اللغة غير المنزاحة، وليسس المقصود بالخطاب العلمي النثر الكامل الخالي من أية خاصية شعرية- كما رأى جان كوهن-(10) بل المقصود الخطاب الذي يحمّله الروائي أفكاره العلمية.
ونرى أن الخطاب العلّمي أهم خطاب في هذه الرواية، والحجر الأساس الذي تقوم عليه، ومن دونه تنتفي، فالخيال علمي.
"كنتُ أسأل كثيراً عن سرّ تخريب الخلية الحيّة، ووجدتُ جواباً اقتنعت به وهو أن الخلية النباتية تتخرب تلقائياً بقلّة الماء والغذاء ومضيّ الزمن، أما الخلية الحيوانية فتتخرب بالمرض والجوع والتخمة والعدوانية.. وربما كانت الغريزة هي التي تملي على الحيوان ما يفعل. أما بالنسبة إلى الإنسان فالوضع مختلف" (الرواية ص56).
4-2-الخطاب التأملي الفلسفي
لهذه الرواية طبيعة فلسفية علمية، تأثرت بجديّة الرؤيا أكثر من تأثرها بالفوران التقني؛ لذا تمثل روايةَ أفكار تترك في النفوس أثراً أكثر ديمومة، ويرى كثير من النقاد أن التقدم العلمي يبدأ بالخيال، أو أن الحلم هو طريق الحقيقة، والدليل أن بعض روايات الخيال العلمي قد تحول جزء من أحلامها إلى حقيقة.
ونجد في الرواية كثيراً من التأملات ذات الخلفية المعرفية والفلسفية الحاملة نبوءة إبداعية تعبر عن التمزق والخوف والأمل في الأزمنة الثلاثة.
ويحقق هذا النوع من الخطاب توتراً درامياً حين ينتقل الراوي أو الشخصية من السرد التقليدي إلى التأمل، فيقدم رؤاه الفلسفية لما يحيط به، وقد يكون هذا الخطاب تأملياً وجودياً أو تأملياً صوفياً، أو تأملياً مجرداً.
"إنه الطريق إلى المعرفة، الوسيلة الحقيقية للسمّو بالإنسان عن الصراعات والأحقاد، حيث لا يرى الذي يسلك سبيل المعرفة أمامه سوى النور الذي يضيء له السبيل؛ ليتعرف إلى الكون وخفاياه وينبذ عن نفسه الشرور والعدوان.". (الرواية 65- 57).
يمثل الخطاب التأملي انزياحاً عن الخطاب التقليدي العادي؛ لأنه يحمل رصيداً فكرياً وعقلياً، فيوظف الفكر في خدمة الإنسان، ويدعو إلى حلّ المشكلات، وتجنب الشرور والدعوة إلى السلام.
4-3- الخطاب السياسي
يضمر الخطاب في هذه الرواية رسالة سياسية، أو نقداً سياسياً، فيغدو الخيال العلمي في الرواية على علاقة وشيجة بالسياسة، فيكشف عن سياسة الغرب وعلاقته بالشرق.
يقول على لسان صديق د. ماهر "وكان حديثاً طويلاً ممتعاً، أكد لي البروفسور (أرنولد) وهو اسم الرجل أن ما قلتَه كان صحيحاً، وأنه قضى في حلب، وهو اسم المدينة السورية العريقة عدة أشهر يبحث في أسرار المخطوطات العربية والكتب القديمة، وهو رجل يتقن اللغة العربية جيداً، وقد أعلن عدة اكتشافات لصالح العلماء العرب رغم احتجاج بعض الأوربيين المتعصبين...". (الرواية، ص33).
4-4- الخطاب الديني
يوظف الروائي خطاباً نوعياً آخر هو الخطاب الديني، وهو أقرب إلى الحديث المباشر، يظهر من خلال نوعية الخطاب بين الراوي والمروي له.
ويسرد الجدّ د. حامد مذكراته، فيقول : "كان الموضوع الذي يشغلني هو الموت، هل ننتقل بعد موتنا إلى عالم آخر؟ أو أننا نموت هكذا كما تموت النباتات؟ بالطبع لأني كنت مؤمناً بالله إيماناً قوياً، فقد كنت أعرف أننا ننتقل إلى عالم آخر بعد الموت، وكنت متيقناً من وجود الثواب والعقاب.. لذلك بدأت بقراءة الكتب الدينية وكتب التصوف. حتى توصلت أخيراً إلى فهم عظمة الخالق عزّ وجل.. والقوة الكبيرة التي أعطاها للإنسان ولم يعرف كيف يستثمرها..." (الرواية، ص 55).
4-5- الخطاب العجائبي:
تحفل الرواية على امتداد صفحاتها بهذا النوع من الخطاب؛ ذلك لأن لها سمة تشويقية، تلاحق الغريب والمدهش، وتترصده سواء أكان متعلقاً بالمكان والزمان أم بالحدث والشخصية. وهو خطاب منزاح أيضاً عن الخطاب التقليدي، ويمثل انزياحاً آخر على مستوى قابلية الحدث الروائي للتحقق، فالخطاب العجائبي يبنى على عدم قابلية تحققه منطقياً، ويلازمه الإدهاش والتشويق.
"كنتُ سعيداً حال خروجي من جسدي، كنتُ سعيداً وأنا أبصرُ جسدي أمامي ممدداً على السرير... وسرعان ما اخترقت الجدران، وخرجتُ من بيتي، إنني أطير في حلم جميل دون أن أحسّ بالحرارة والضوء المنتشر حولي آه... هاهم المنبوذون ينتشرون على أرصفة محطات السكك الحديدية، يطاردون الناس من أجل لقمة تسدّ أودهم... آه أحد الناس ينهال بالسوط على أحدهم. هاهو نسر ضخم ينقض على أرنب يحمله بمخالبه والأرنب يتخبط... أقمار صناعية تتجسّس، أسلحة مخيفة تنتشر في كل مكان، لماذا لا يحب الناس بعضهم بعضاً؟ .. آه يا صديقي، كنت أتعذب وأنا أنتقل من مكان لآخر أرى الأمور على حقيقتها، وأحسّ بتفاهة البشر..." (الرواية، ص37).
- خاتمة
لا يزال أدب الخيال العلمي في أدبنا العربي محدوداً، وربما قادنا هذا الكلام إلى حديث عن مدى وعي الكاتب بهذا النوع من الأدب. وبالموضوعات التي يعالجها، فقد حاز أهمية كبرى في الغرب في تكوين العلماء والمبدعين، وإن دلّ هذا الأمر على شيء فإنما يدل على كبير وظيفته، فهو ينمّي الخيال لدى المتلقي، وكثيرٌ من قصص الخيال العلمي كانت وراء التطورات المعرفية والتكنولوجية.
ويتجه أدب الخيال العلمي إلى المستقبل، لكنه يستعين على رسمه بالحاضر الذي لا يغيب عنه بسلبياته، ويبدو العلم السبيل الوحيد إلى يقين المعرفة.
وقد قدم الروائي الرؤية والرؤيا متوازيين في هذه الرواية، فوقف عند سلبيات الواقع، وتكلم على حلول علمية على ألسنة الشخصيات، وأبرزُها الراوي ليس بوصفه عالماً مفكراً بل بوصفه إنساناً يشعر بمسؤولية تجاه واقعه، فالمشكلات إنسانية عامة، لا محلية.
وقد أثارت الرواية سؤال ماذا نفعل للمستقبل؟ وكيف نخرج من ظلمات الواقع؟ عالمُ المستقبل الخالي من شرور الواقع، المتسلح بالعلم هو ما طمح إليه الروائي خدمة للإنسانية، ورغبة في مشاركة حقيقية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.