توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    أسماء المدير تُشارك في تقييم أفلام فئة "نظرة ما" بمهرجان كان    وزارة الفلاحة: عدد رؤوس المواشي المعدة للذبح خلال عيد الأضحى المقبل يبلغ 3 ملايين رأس    مطار الصويرة موكادور: ارتفاع بنسبة 38 في المائة في حركة النقل الجوي خلال الربع الأول من 2024    الجيش الملكي يرد على شكاية الرجاء: محاولة للتشويش وإخفاء إخفاقاته التسييرية    سكوري : المغرب استطاع بناء نموذج للحوار الاجتماعي حظي بإشادة دولية    إسبانيا تُطارد مغربيا متهما في جريمة قتل ضابطين بالحرس المدني    ميارة يجري مباحثات مع رئيس الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا    مشروبات تساعد في تقليل آلام المفاصل والعضلات    احتفاء بموظفي مؤسسة السجن في أزيلال    خمري ل"الأيام24″: الإستقلال مطالب بإيجاد صيغة جديدة للتنافس الديمقراطي بين تياراته    الزمالك المصري يتلقى ضربة قوية قبل مواجهة نهضة بركان    تحديات تواجه نستله.. لهذا تقرر سحب مياه "البيرييه" من الاسواق    أمن فاس يلقي القبض على قاتل تلميذة    بلينكن: التطبيع الإسرائيلي السعودي قرب يكتمل والرياض ربطاتو بوضع مسار واضح لإقامة دولة فلسطينية    رسميا.. عادل رمزي مدربا جديدا للمنتخب الهولندي لأقل من 18 سنة    مجلس النواب يطلق الدورة الرابعة لجائزة الصحافة البرلمانية    برواية "قناع بلون السماء".. أسير فلسطيني يظفر بجائزة البوكر العربية 2024    عملية جراحية لبرقوق بعد تعرضه لاعتداء خطير قد ينهي مستقبله الكروي    المحكمة تدين صاحب أغنية "شر كبي أتاي" بالسجن لهذه المدة    المديرية العامة للأمن الوطني تنظم ندوة حول "مكافحة الجرائم الماسة بالمجال الغابوي"    هذا هو موعد مباراة المنتخب المغربي ونظيره الجزائري    الشرطة الفرنسية تفض اعتصاما طلابيا مناصرا لفلسطين بجامعة "السوربون"    غامبيا جددات دعمها الكامل للوحدة الترابية للمغرب وأكدات أهمية المبادرة الملكية الأطلسية    الملك يهنئ بركة على "ثقة الاستقلاليين"    تحرير ما معدله 12 ألف محضر بشأن الجرائم الغابوية سنويا    "التنسيق الميداني للتعليم" يؤجل احتجاجاته    الرئاسيات الأمريكية.. ترامب يواصل تصدر استطلاعات الرأي في مواجهة بايدن    يوسف يتنحى من رئاسة حكومة اسكتلندا    الدورة السادسة من "ربيعيات أصيلة".. مشغل فني بديع لصقل المواهب والاحتكاك بألمع رواد الريشة الثقافة والإعلام    المكتب الوطني للسياحة يضع كرة القدم في قلب إستراتيجيته الترويجية لوجهة المغرب    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    الفنان الجزائري عبد القادر السيكتور.. لهذا نحن "خاوة" والناظور تغير بشكل جذري    اتفاق بين الحكومة والنقابات.. زيادة في الأجور وتخفيض الضريبة على الدخل والرفع من الحد الأدنى للأجور        أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    وزارة الفلاحة…الدورة ال 16 للملتقى الدولي للفلاحة بالمغرب تكللت بنجاح كبير    إدارة السجن المحلي بوجدة تنفي ما نقل عن والدة سجين بخصوص وجود آثار ضرب وجرح على وجهه    فيلم أنوال…عمل سينمائي كبير نحو مصير مجهول !    المغرب التطواني يتعادل مع ضيفه يوسفية برشيد    رسمياً.. رئيس الحكومة الإسبانية يعلن عن قراره بعد توجيه اتهامات بالفساد لزوجته    غزة تسجل سقوط 34 قتيلا في يوم واحد    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولات الإثنين بأداء إيجابي    أسعار الذهب تتراجع اليوم الإثنين    إليسا متهمة ب"الافتراء والكذب"    رئيس ريال مدريد يهاتف مبابي عقب التتويج بالدوري الفرنسي        المفاوضات بشأن اتفاق الاستعداد للجوائح بمنظمة الصحة العالمية تدخل مرحلتها الأخيرة    المنتخب المغربي يتأهل إلى نهائي البطولة العربية على حساب تونس    حكواتيون من جامع الفنا يروون التاريخ المشترك بين المغرب وبريطانيا    "عشر دقائق فقط، لو تأخرت لما تمكنت من إخباركم قصتي اليوم" مراسل بي بي سي في غزة    بعد كورونا .. جائحة جديدة تهدد العالم في المستقبل القريب    دراسة: الكرياتين يحفز الدماغ عند الحرمان من النوم    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    الأمثال العامية بتطوان... (583)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تأملات في تجربة كاتب مع الشعب
نشر في العلم يوم 03 - 05 - 2012

أود بداية أن أعبر عن سعادتي الغامرة بالمشاركة في أشغال الدورة السادسة و العشرين لجامعة المعتمد ابن عباد الصيفية .
و سعيد أكثر لأنني أشارك في حفل تكريم رمز من رموز نهضتنا الأدبية و الفكرية المعاصرة ، و أحد أعلامها البارزين ، وهو الأستاذ الأديب عبد الكريم غلاب أطال الله في عمره.
لذلك لا يسعني بهذه المناسبة الثقافية الهامة إلا أن أتوجه بالشكر الجزيل لمكتب منتدى أصيلة الثقافي ، في شخص رئيسه الأستاذ محمد بنعيسى مرتين :
الأولى : على دعوته الكريمة لي للمشاركة في فعاليات هذه الدورة،
و الثانية : على اختياره الموفق لشخص المحتفى به.
لأنه إذا كان الاحتفاء عموما سلوكا حضاريا نبيلا يقطع مع انغلاق أفق ثقافة الأنا والأنانية ، بشعاريها ( المعاصرة حجاب) و ( المعاصرة تمنع المناصرة)، و يكرس بالمقابل ثقافة منفتحة بديلة تقوم على نكران الذات و الاعتراف و التعريف بجهود الآخر ، و تشجيعه على مواصلة طريق التضحية و العطاء، لما فيه مصلحة الإنسان و الإنسانية جمعاء، بعيدا عن كل الحسابات الفردية الضيقة و انعكاساتها السلبية المعروفة.
فإن هذه الأبعاد الرمزية السامية لا يمكن أن تتحقق ما لم يكن المحتفى به في مستوى التكريم حقا، و إلا فقد الاحتفاء كل دلالاته السابقة ، و تحول لمسرحية هزلية سمجة لا طعم لها و لا معنى، لأن قيمة الاحتفاء ، كما هو معلوم ، من قيمة المحتفى به ،لا العكس،لذلك أعتقد صادقا أن ما يضفي على احتفائنا اليوم قيمة استثنائية خاصة ، كونه مخصص لعلم وطني كبير ، أعطى الشيء الكثير و ما يزال ، إنه الأستاذ الأديب عبد الكريم غلاب. لملاءمة حديثي مع سياق المناسبة الراهنة ،اخترت مداخلة بعنوان : ( بتأملات في تجربة كاتب مع الشعب ) ، سأركز فيها أساسا على ما أسميته ( بالاستثناءات ) التي تمثلها تجربة الأستاذ عبد الكريم غلاب في الساحة الأدبية المغربية، و التي يستحق بموجبها، في تقديري، أكثر من تكريم . و سأعتمد في عرضها منهجية تنازلية تبدأ بالكتابة في مفهومها العام، و تنتهي بالكتابة الروائية ، مرورا بما بينهما من أنواع الكتابة الأخرى:
1/ تجربة أغنت الخزانة العربية:و هكذا فعلى مستوى الكتابة بمفهومها العام ، و بالنظر للقائمة الطويل العريض لأعمال الأستاذ غلاب ، نسجل أنه أحد الكتاب المغاربة القلائل ، الذين أغنوا الخزانة العربية بكم هائل من المؤلفات الرصينة في مجالات معرفية عديدة و متنوعة، تتوزع بين الرواية ، المقالة ، القصة، النقد ، الرحلة ، الدراسة الأدبية ، السيرة الذاتية، التاريخ ، القانون السياسة، و المذكرات،،إلخ، مما يدل دلالة قاطعة على عشق الأستاذ غلاب الكبير للكتابة و إدمانه عليها ،
2/ أنها تجربة مؤسسة على تصور فكري واضح :ذلك أن كل كتابات الأستاذ غلاب ، على تنوع أشكالها و موضوعاتها، تعكس في مجموعها تصورا واضحا واحدا للكتابة بمفهومها الهادف المنحاز لقضايا البلاد و العباد من أجل غد أفضل ، لاقتناعه الراسخ بأهمية الكتابة في معركة الإصلاح و التغيير، و لعل هذا ما جعل أحد الباحثين يقدمه بحق في مناسبة ثقافية سابقة كهاته قائلا: ( أيها الإخوة الأعزاء ، اسمحوا لي أن أقدم إليكم الكاتب المناضل الذي ارتدى لباس المعركة من أجل وطننا منذ يفاعته ، لكنه نسي إلى يومنا هذا أن يخلعه) (1) ، و الأسلم عندي أنه تعمد أن لا يخلعه ، لأنه ببساطة كاتب مع الشعب. و هذا ما يشكل في تقديري أحد أهم الحوافز الثاوية وراء تمسك غلاب القوي بالكتابة عموما ، و استمراره في مزاولتها ، بنفس الحماس ، إن لم يكن أكثر ، دون ملل و لا كلل ، متحديا كل الصعوبات و ما أكثرها ، لذلك فإن كل محاولة للفصل بين هذه الكتابات تعد تشويها و اختزالا لها ، بالنظر لقوة الروابط العميقة القائمة بينها ، كما يعترف بذلك شخصيا ، و تؤكده أعماله : ( إن التعدد في عمقه متجانس بالنسبة إلي، فكتابة رواية أو كتابة مقال سياسي، أو كتاب عن الاستقلالية أو التعادلية شيء واحد في الجوهر في تجربتي الشخصية مع الكتابة و العمل، يبقى أن الفكر و الأسلوب و كل ما يوظفه الكاتب في كتابة بحث سياسي هو غير الفكر و غير الأسلوب الذي يوظفه في كتابة عمل إبداعي )(2).
3/ أن صاحبها سيد الكتابة السردية بالمغرب
فإذا نحن عدنا لهذا الكم الهائل من كتابات الأستاذ عبد الكريم غلاب و أمعنا النظر فيها سنلاحظ بوضوح و دون عناء كبير أن الكتابة السردية ، على اختلاف تلويناتها : ( الإحالية : السيرة الذاتية ، الرحلة، المذكرات ، و التاريخ ) و( التخييلية : الرواية و القصة القصيرة ) ، تحضى بنصيب الأسد ، بحيث تكاد تصل نسبة حضورها نصف مجموع كتاباته ، و هو رقم استثنائي معبر ، يدل طبعا على عشق غلاب الكبير للحكي بمختلف أنواعه، و إيمانه الثابت بدوره الناجع في تمرير الأفكار و الإقناع بها ، و هي بالمناسبة حالة فريدة لا نظير لها في الساحة الوطنية ، لأننا لا نجد كاتبا آخر أولى الكتابة السردية، بمختلف أشكالها ، مثل هذه المكانة المتميزة ، كما و كيفا ، في كتاباته ، و هو ما يستوجب طبعا بحثا منفصلا يكشف أسباب و حيثيات هذا الاختيار في علاقته بتصور الكاتب الخاص لمفهوم الكتابة و غاياتها.
4/ أن الرواية عشق غلاب الأول:على أننا إذا ما تأملنا جيدا قائمة كتابات الأستاذ غلاب السردية السابقة بتلويناتها الأجناسية المختلفة، سنجد الرواية تجسد قلبها النابض، حيث تشكل تقريبا نصف هذه الكتابات باثنتي عشر رواية من مجموع واحد و عشرين عملا سرديا ، رقم يضمر طبعا أكثر من دلالة ، و في مقدمتها ميل و ارتياح الكاتب لهذا الجنس الأدبي ذي القدرات التعبيرية الواسعة، لذلك فلا غرابة إذا ما وجدنا اسمه يقترن به في أذهان العديد من القراء، و هو أمر طبيعي جدا بالنظر لعدة اعتبارات تتجاوز الجانب الرقمي الكمي ، لتطال جوانب نوعية أهم و أعمق ، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
أ/ أن غلاب رائد الكتابة الروائية بالمغرب: يجمع أغلب الباحثين على أن الرواية فن تعبيري حديث في المشهد الإبداعي العربي مقارنة بالشعر ( ديوان العرب) ، و يؤرخون لبدايته المشرقية بمطلع القرن الماضي، مع رواية (زينب ) لهيكل، أما بالنسبة للمغرب فقد جاء ذلك متأخرا جدا ، و بالضبط لما بعد الحرب العالمية الثانية بكثير، لاعتبارات سوسيو ثقافية عديدة تخرج عن نطاق اهتمامنا الراهن، و مهما يكن الأمر ، فالكل يجمع على اعتبار رواية الأستاذ غلاب ( دفنا الماضي ) أول عمل روائي مغربي بالمفهوم المتعارف عليه غربيا لقواعد الكتابة الروائية ، و لتبقى كل الأعمال السابقة الأخرى مجرد أشكال ( ما قبل روائية) أو ( غير روائية ) على حد تعبير كل باحث.
ب/ أنها تجربة مستمرة: ما يميز تجربة الأستاذ غلاب الروائية، فضلا عن ريادتها، أنها تجربة مستمرة تواصل بإصرار حضورها المتميز متحدية كل العراقيل و الصعوبات(+)، خلافا لما هو معروف عن بعض التجارب المغربية الأخرى، و ما أكثرها، التي غالبا ما تتوقف بعد عملها الأول أو الثاني على أبعد تقدير ، مما يدل ، إن كان الأمر يحتاج طبعا لدليل، على تمسك غلاب القوي بحقه المشروع في إدمان التعبير الروائي، و إصراره على الاستمرار في الإمتاع و الاستمتاع بأطروحاته الفكرية والفنية في هذا المجال.
ج/ أنها تجربة بعمر الرواية المغربية: فبعلاقة مع الخاصيتين السابقتين( الريادة و الإستمرارية)، يتضح بكل جلاء أن تجربة الأستاذ غلاب الروائية تمتد على ما يربو عن نصف قرن تقريبا (من 1961 إلى اليوم)، و أنها الوحيدة ، على الصعيد الوطني ، التي واكبت تاريخ كتابتنا الروائية من البداية إلى اليوم ، مما يعطي صورة واضحة عن المكانة المتميزة الخاصة التي يحتلها صاحبها في المشهد الروائي المغربي، لدرجة يستحق معها لقب عميد الروائيين المغاربة دون منازع .
ح/ أنها تجربة حققت تراكما محترما: من الآثار الإيجابية الواضحة المترتبة عن الملاحظات السابقة، التراكم العددي الهام الذي حققته تجربة غلاب الروائية، بحيث يعتبر من الروائيين المغاربة القلائل جدا الذين استطاعوا تحقيق تراكم كمي قياسي مغربي محترم ، تجاوز في مجموعه، لحد الآن، عشر روايات تقريبا (+) . بمعدل رواية في كل خمس سنوات تقريبا، هذا في الوقت الذي لا يتجاوز فيه متوسط الإنتاج الفردي الوطني أربع إلى خمس روايات كحد أقصى.
ر/ أنها تجربة غنية و متجددة : إذا كان لطول تجربة الأستاذ غلاب الروائية أثر إيجابي على الناحية الكمية، كما أشرنا لذلك سابقا، فإن انعكاسها الكيفي و الفني لا يقل أهمية عن ذلك. مما أضفى عليها غنى وثراء قل نظيرهما في تجارب روائية مماثلة أخرى، رغم استمرار هيمنة الثوابت الفكرية والفنية الكبرى المؤطرة لها، لدرجة يمكن معها اعتبار كل رواية محطة إبداعية جديدة في مشروعه الروائي الطويل ، وتلوينا فنيا و فكريا إضافيا على طريق تطويره و تعميقه . كما تشهد بذلك جميع رواياته دون استثناء.
ز/ أنها تشكل في مجموعها مشروعا روائيا متكاملا: إذا كنا قد وقفنا سابقا على بعض مظاهر تنوع و تطور هذه التجربة الروائية المغربية المتميزة، فإن هذا مع ذلك لا ينفي عنها ، سمة التلاحم والتماسك، باعتبارها حلقات مترابطة في مشروع روائي شامل و متكامل، تتمم فيه كل حلقة الأخرى من مختلف النواحي، الفكرية، الفنية، التاريخية، و الموضوعاتية، لدرجة يمكن معها اعتبارها ، من هذه الناحية، بمثابة رواية كبيرة بأجزاء و عناوين مختلفة، أو محطات إبداعية متواصلة و متكاملة في مشروع روائي كبير.
وللوقوف على بعض مظاهر هذا التكامل في مشروع غلاب الروائي ، تكفي الإشارة إلى أن أعماله تتوزع في مجموعها زمنيا، وبتسلسل تصاعدي منتظم ، لثلاث مراحل مختلفة و متكاملة ، في تاريخ المغرب و العالم الحديث و المعاصر، هي :
أولا : تاريخ المغرب :
ا/مرحلة الاستعمار: وتغطيها كل من ( سبعة أبواب/ دفنا الماضي/ و المعلم علي).
ب/مرحلة الاستقلال: وتشمل الروايات التالية ( صباح ويزحف الليل/ وعاد الزورق إلى النبع/ وشروخ في المرايا/ ما بعد الخلية/ و لم ندفن الماضي).
ثانيا: تاريخ العالم:
ا/ ما بعد أحداث 11شتمبر : و تتناولها روايتا : ( شرقية في باريس و الأرض ذهب).
ن/ أنها تجربة ملتزمة: يتضح مما سبق أن الكتابة، بمفهومها العام، مهما اختلفت أشكالها و موضوعاتها، تقوم في تصور الأستاذ غلاب على مرتكز فكري أساسي ، يمكن تسميته بالالتزام. الالتزام بقضايا الإنسان عامة، في جميع المجالات، وعلى مختلف الأصعدة، هاجسه الأول و الأخير، في كل ذلك ، تحريك عجلة الإصلاح و التقدم، والدفع بها إلى الأمام ، لما فيه مصلحة الفرد والجماعة على حد سواء. وبدون ذلك تفقد الكتابة في نظره مشروعيتها ، لتتحول لمجرد تجربة شكلية جوفاء خالية من كل معنى.
على أن لا يفهم من هذا طبعا تحجر غلاب ، و رفضه المطلق لكل محاولات تجديد و تطوير الكتابة الروائية العربية و الرقي بها لمصاف أعمال الدول الرائدة في هذا المجال، فهذا مطمح مبدئي لا يختلف فيه اثنان، شريطة طبعا أن لا يكون على حساب هويتنا العربية ، و مستلزمات خصوصيتنا الحضارية، بكل ما يفرضه هذان العاملان من مواصفات فكرية و فنية ، تدخل في ما يعرف في المجال النقدي بملاءمة الشكل للمضمون في علاقتهما بالواقع، كشرط أساسي ضروري لتجاوز التحديات المطروحة ، بما فيها طبعا ، خلق كتابة روائية عربية متميزة و متقدمة ، دون السقوط في براثين الاستلاب الإبداعي و شكلانيته المبهرة الفجة ، يقول : ( أنا أومن بارتباط الشكل بالمضمون ، فالشكل ينبع من العمل الفني لا من الخارج ، لذلك فهو متحد و مندمج في العمل الفني ، و لذلك لا يمكن أن يفرض مثلا شكل الرواية الجديدة على مضمون نضال واقعي ... لأن الشكل ينبع من مضمون هذا النضال ، و ليس من مفهوم حياة زائدة عن الحاجة)(3).
و بعبارة أخرى، فإن التجديد الروائي الذي يدعو إليه الأستاذ غلاب تجديد متوازن أصيل نابع من حقيقة الواقع العربي ، و يستجيب لمتطباته الفكرية و الفنية الخاصة، و ليس مجرد تقليعة إبداعية مستوردة ، أملتها شروط حضارية مغايرة ، لا تمت بصلة لشروطنا ، إن الفكر ، و الأدب إنتاج فكري، ينبغي بالضرورة أن يلتصق بالواقع ليؤثر فيه ، و يكتسب من خلاله خصوصيته و تميزه ، و إلا فقد كل مبررات وجوده الجمالية و الفكرية . يقول : ( أنا لا أرفض الأساليب الجديدة ، و الأشكال المبتكرة، و كم أتوق إلى أن يبتكر كاتب عربي شكلا جديدا للرواية العربية، و لكني أتوق إلى أن يكون الشكل المبتكر متفقا مع المضمون و معبرا عنه، و محدثا إضافة جديدة لهذا المضمون، و محققا للإبداع و الابتكار، بعيدا عن التقليد الأعمى المبتسر)(4).
و بناء على هذا المرتكز الفكري الأساسي الراسخ و الواضح في تصور الأستاذ غلاب المتميز لمفهوم الكتابة عامة، و الروائية على وجه التحديد، أو ما أسميناه في دراسة سابقة : ( بدرجة الوعي في الكتابة)(+)، تتأسس مجموع الخصائص الفكرية و الفنية العامة المشكلة و المميزة لشعرية خطابه الروائي : ( لأن عمل كل روائي ، كما قال ميلان كانديرا ، يتضمن رؤية مضمرة عن تاريخ الرواية، و فكرة عما هي الرواية)(5)، و من جملتها :
أ / اختياره رواية الأطروحة: فالمعروف أن الأستاذ غلاب اختار بوعي و مسؤولية رواية الأطروحة بمختلف تلويناتها ، إطارا إبداعيا مناسبا لبلورة مقاصده الفنية و الفكرية السابقة، نظرا لما يميزها من رغبة مزدوجة ملحة في أن : ( تكون رواية وأطروحة في نفس الوقت)(6)، و أن تحقق بالتالي التوازن المطلوب بين الإفادة و الإمتاع في معادلة الكتابة الحقيقية الصعبة .
وبالمناسبة لابد من فتح قوس للرد على تصور أصبح شائعا يعتقد بدونية هذا الصنف الروائي عن غيره من الأصناف الأخرى، فأشير إلى أن مثل هذا الاعتقاد خاطيء ويشوبه الكثير من الخلط، مرده أساسا الربط الآلي بين نماذج روائية أطروحية رديئة ورواية الأطروحة كإطار تعبيري عام تضبطه قوانين ومعايير فنية محكمة و محددة، وبذلك يخلط العملي بالنظري من ناحية، و يحكم على القاعدة بالاستثناء من ناحية أخرى. في وقت أصبح فيه من البديهي، نظريا على الأقل، أن كل الأجناس الأدبية تتوفر مبدئيا على درجات متساوية من الفنية، وأن الإخفاق الذي قد تعرفه بعض نماذجها مرده في الحقيقة لمستويات مبدعيها لاغير. وكما أنه لا يمكننا الحكم على الرواية التاريخية ككل بالدونية من خلال نماذجها الفاشلة، فكذلك الأمر بالنسبة لرواية الأطروحة. وكل من يخالف ذلك إلا ويكرر نفس خطأ من يفاضل بين الأجناس الأدبية المختلفة في ذاتها، معتقدا أن الشعر أفضل من الرواية أو العكس، ناسيا أو متناسيا القاعدة الأصولية القائلة بلا مشروعية القياس مع وجود الفارق.
وفي هذا الإطار يمكنني القول، دون مبالغة و لا مجاملة ، بأن أعمال الأستاذ غلاب الروائية تمثل ، بحكم ما يطبعها عادة من توازن دقيق بين الشكل و المضمون ، نماذج جيدة لهذا اللون التعبيري على الصعيد العربي.
ب ? اختياره الكتابة الواقعية: إن المتتبع لتجربة غلاب الروائية يلاحظ بسهولة ودون عناء إصراره الدائم على التشبث بالاتجاه الواقعي في الكتابة، كاختيار تعبيري يتلاءم تماما وتصوراته الفنية و الفكرية ويخدمها، يقول: ( اتجهت فيما كتبته من روايات و قصص اتجاها واقعيا، ليست واقعية الحدث و التاريخ و الفكرة و الصورة التي تعتمد النقل الحسي، ولو عن طريق الكلمة الحية، ولكنها الواقعية الجديدة التي ترتبط بالمضمون النضالي للإنسان العربي، وتنفذ بالحدث إلى ما خلف الحدث من أحاسيس و انفعالات نفسية ويقظة ضمير، وصراع مجتمعي في سبيل الأفضل)(7).
اختيار فني طبيعي من روائي يؤمن بقيمة الكتابة الهادفة، ويسعى لبلورتها في أعمال روائية أطروحية متميزة، يفترض فيها أن تكون بالضرورة واقعية، وإن كان العكس بالمقابل غير صحيح ، خصوصا إذا علمنا أن الاتجاه الواقعي يعد ، من هذه الناحية، الأكثر ملاءمة للغايات العامة المسطرة لعمل روائي هادف يسعى لتغيير الواقع و تطويره نحو الأفضل ، لذلك نجده يحرص، أشد ما يكون الحرص، على توفير القدر الكافي من الوضوح الفكري والفني لقرائه، بغية تقريبهم، قدر المستطاع، من رسالته.ولهذا يجمع الدارسون على اعتباره الاتجاه الأوفر حظا لتحقيق أعلى درجات التواصل الناجح بين الكاتب والقاريء،
و لعل هذا ما جعلنا نقول بأن الواقعية هي الاتجاه الفني الأنسب لرواية الأطروحة، باعتبارها رواية تحاول تمرير رسالة فكرية محددة، بأيسر الطرق التعبيرية الممكنة و أقصرها، مستغلة في ذلك أعلى درجات الشرح و التفسير و التعليق..إلخ ، (le babil sémantique) (8)، التي تتوفر عليها، كوسيلة لسد الثغرات الدلالية التي عادة ما تشوب النص، باعتباره ( آلة كسولة)(9)، تفاديا لما قد يكون لها من دور سلبي في عرقلة التواصل، وفتح مسارات عديدة أمام القاريء لإعطاء النص تأويلات مغرضة مختلفة، قد لا تنسجم تماما دائما مع أفكار الكاتب و مقاصده الخاصة .
إذا أضفنا لذلك الأثر القوي الذي يحدثه هذا الاتجاه في القاريء، مشعرا إياه بمصداقية الأحداث المحكية المتخيلة، عن طريق تقليص الهوة الفاصلة بينها وبين الوقائع الحقيقية المعيشة، مما يعد عاملا إضافيا مساعدا في عملية إقناع القاريء بأطروحة الرواية، تماما كما لاحظت ذلك بحق الناقدة سوزان روبان سليمان بقولها : ( رواية الأطروحة إذن، تقوي الوهم المرجعي للقاريءعن طريق إلغاء المسافة بين التخييل و الحياة)(10).
وهو ما يلقي الضوء الكاشف على الأسباب الثاوية وراء اختيار غلاب للواقعية مذهبا مركزيا أساسيا في كتابته الروائية.
ج- اختيار البساطة و الوضوح في التعبير: يراهن الأستاذ غلاب ، كما قلنا سابقا ، في كل كتاباته ، و الروائية تحديدا ، على تغيير الأوضاع بما يخدم مصلحة الإنسان أولا و أخيرا، رهان يعلم أكثر من غيره أنه لن يتحقق في ظل استمرار وعي هذا الإنسان على ما هو عليه ، لذلك فلا غرابة إذا ما وجدناه ، يسعى ، في حدود ما يسمح به تصوره الشخصي لأدبية الأدب ، استعمال أسلوب بسيط في عباراته ، جميل في صياغته ، يفي بمقاصده الفنية و الفكرية على حد سواء دون تمحل و لا تقعر ، يقول : ( حينما أكتب أهتم ، انطلاقا من إرادة التغيير، بأن أخاطب عموم الشعب، وأن أقترب من عموم المثقفين، لا من النخبة فحسب، لهذه الفكرة أثرها في الأسلوب الذي أختاره، فليس هو أسلوب المتقعرين الذين يحاولون أن يحيوا القواميس القديمة في أقلامهم، ولا أن يجربوا شطحات الذين لا يعرفون العربية ? فيبتكرون ? الألفاظ المنحرفة ? لغة- ليؤكدوا التنطع على القديم دون أن يشحنوا الكلمة الجديدة بمفاهيم جديدة، أو أن توحي الكلمة في أقلامهم مضمونا غير قاموسي)(11)، وهو ما يسمح لنا بالقول بأن غلاب وهو يمارس عمله الإبداعي يتعامل تعاملا براغماتيا مع الوسائل و التقنيات التعبيرية المتاحة من منطلق ملاءمتها للأهداف التواصلية المحددة سلفا، بعيدا عن أي اعتبار آخر أيا كانت قيمته، بما في ذلك الاعتبار الجمالي الصرف. على ألا يفهم من ذلك طبعا إهماله الكلي لهذا الجانب الأساسي في العملية الإبداعية، بقدر ما هو نفور فقط من الافتتان الزائد به لدرجة إضاعة التواصل، وتعتيم الرسالة، خصوصا إذا علمنا أن الوضوح ليس رديفا بالضرورة للابتذال، كما أن الغموض ليس معيارا ملازما دائما للجودة. يقول غلاب في هذا الصدد: ( كنت، وما أزال أدعو إلى الوضوح في التعبير، وضوح الحقيقة في الفكر... وأكرر الدعوة إلى الوضوح، حتى أني لأعتقد أننا يجب أن نقوم بحملة لمواجهة هذا الانحراف الخطير في فن القول)(12).
و ارتباطا بنفس موضوع اللغة في كتابات الأستاذ غلاب الروائية ، و لأن أسلوب الكاتب لا يتميز دائما بالخصائص الموجودة فيه فقط ، و إنما بالغائبة عنه أيضا، فلا بد من استحضار خاصيتين بارزتين تطبعان روايات غلاب بغيابهما :
الأولى تتعلق باللهجة العامية، و التي غالبا ما لا نجد حضورا لها في أعماله ، إلا في حالات الضرورة القصوى ، و هي ناذرة جدا على كل حال.
و الثانية تخص العبارات النابية التي لا نجد أثرا لها في أعماله ، لدرجة يضطر معها أحيانا لاستعمال نقط الحذف تفاديا لذكرها ، احتراما لنفسه و لقارئه ، خلافا لما نلاحظه ، مع الأسف الشديد، في بعض الكتابات المغربية و العربية المعاصرة.
ن / قيمة هذه التجربة أخيرا فيما كتب عنها أيضا : فككل الكتاب الكبار لا ينحصر إشعاعهم فيما يكتبون و ينشرون فقط، و إنما أيضا فيما تثيره أعمالهم في الآخرين ، نقادا و باحثين من أصداء ، غالبا ما تتخذ شكل دراسات نقدية أو بحوث جامعية ، و بالمناسبة تجدر الإشارة إلى أن تجربة الأستاذ عبد الكريم غلاب الروائية ، تعد من هذه الناحية من بين التجارب المغربية القليلة التي حظيت بمتابعة نقدية و أكاديمية كثيفة ، و إن لم تكن كلها طبعا منصفة و لا عادلة ،
الأكثر من هذا ، و في ارتباط بنفس خاصية اقتران عمر هذه التجربة بتاريخ الرواية المغربية ، يمكن القول بأن الكتابات النقدية المغربية المواكبة لها تشكل في مجموعها صورة مصغرة لتاريخ النقد الروائي المغربي بمختلف تياراته و محطاته ، و هي خاصية استثنائية قد لا تشاركه فيها تجربة أخرى على الصعيد الوطني ، و ربما العربي أيضا.
لهذه الأسباب ، و غيرها مما لا تسمح المناسبة بذكره ، اعتقد جازما أن هذا التكريم ، خلافا لما هو مألوف في بعض التكريمات المفبركة، تكريم حقيقي لشخصية فكرية استثنائية ، بالمعنى العميق للكلمة ، كما تؤكد ذلك إسهاماتها العديدة ، المتميزة و المتنوعة في مختلف المجالات ، و على مختلف الأصعدة .
لذلك لا يسعني ، بهذه المناسبة السعيدة ، إلا أن أثمن عاليا اختيار المنتدى الموفق لشخصية المحتفى به في هذه الدورة ، كما أغتنم نفس المناسبة لأهنيء أستاذنا الكبير المفكر والأديب السي عبد الكريم غلاب بهذا التكريم المستحق ، متمنيا له دوام الصحة و العافية و طول العمر.
بيان الهوامش و الإحالات:
+/ نص العرض الذي شاركت به في حفل التكريم الأستاذ الأديب عبد الكريم غلاب المنظم من قبل منتدى أصيلة يوم الأحد 10 يوليوز 2011، بمركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية.
1/ إبراهيم السولامي : علمه البيان ، الكتاب السنوي لرابطة أدباء المغرب ، 2003، ص:25.
2/ عبد الكريم غلاب: حوار خاص بمجلة آفاق المغربية، عدد: 2، سنة :1991، ص:155.
*/ يشار بهذه المناسبة إلى أن آخر عمل روائي صدر لحد الآن للأستاذ عبد الكريم غلاب ، يحمل عنوان : ( الأرض ذهب) دار نشر المعرفة، 2009.
*/ أنظر البيبليوغرافية الملحقة بكتاب الأستاذ عبد الكريم غلاب الأخير : (عبد الكريم غلاب في مذكرات سياسية و صحافية) منشورات المعارف ، 2010.
3/ عبد الكريم غلاب: تجربة ذاتية في كتابة الرواية، ضمن كتاب : الرواية العربية واقع و آفاق، دار ابن رشد ، الطبعة الأولى، 1981، ص:347.
4/ عبد الكريم غلاب : مقالة مذكورة، 1981، ص:347.
?/ أنظر عبد العالي بوطيب: الكتابة و الوعي ، دراسات في أعمال غلاب السردية، دار الحرف، 2007.
5/أنظر:M,kundera : l'art du roman,éd:folio,1986,p :7.
6/أنظر:,S R Suleiman :le roman a' thése,éd:puf,1983,p :33.
7/ عبد الكريم غلاب: مقالة مذكورة، 1981، ص:346.
8/أنظر:R,Barthes : s/z,éd;seuil,coll:points,1970,p :85.
9/أنظر: Umberto Eco: lecteur in fabula,éd:grasset,1985,p :29.
10/أنظر:S R,Suleiman :op cit,1983,p :182.
11/ عبد الكريم غلاب : مقالة مذكورة، 1981، ص:335/336.
12/ عبد الكريم غلاب: مع الأدب و الأدباء ، مطابع دار الكتاب، الدار البيضاء، 1974، ص:109.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.