بوريطة يمثل الملك محمد السادس في حفل تخليد الذكرى ال 25 لعهد عاهل مملكة الأشانتي    جيتكس إفريقيا المغرب 2024.. وكالة التنمية الرقمية في خدمة النهوض بالابتكار والتكنولوجيا الجديدة    برمجة 15 رحلة جوية مباشرة إلى مطار الحسيمة من هذه المطارات الأوروبية    عاصفة شمسية قوية تنير السماء بأضواء قطبية في عدة دول    بمشاركة المغرب.. انعقاد المجلس الاقتصادي والاجتماعي العربي    عاجل.. تشكيلة الزمالك المصري لمواجهة نهضة بركان في نهائي الكونفدرالية    باريس سان جيرمان يودع مبابي أمام تولوز بالدوري الفرنسي الليلة    بونو: هدفنا إنهاء الموسم بدون خسارة وتحقيق كأس الملك    وفاة 5 تلاميذ غرقا بأحد شواطئ الجزائر    حل مجلس الأمة الكويتي: إنقاذ للبلاد أم ارتداد عن التجربة الديمقراطية؟    التنس: المغرب يتوج بطلا لإفريقيا لأقل من 14 سنة ذكورا وإناثا ويتأهل لبطولة العالم    أردوغان: نتنياهو بلغ مستوى يثير غيرة هتلر    وفاة أول مريض يخضع لزرع كلية خنزير معدل وراثيا    أسعار الطماطم تقفز بأسواق المغرب .. ومهنيون: تراجع الإنتاج وراء الغلاء    معرض الكتاب.. لقاء يحتفي بمسار الأديب أحمد المديني    افتتاح فعاليات الدورة الثالثة للمعرض الدولي للأركان بأكادير    "أسبوع القفطان".. فسيفساء من الألوان والتصاميم تحتفي بعبق الزي المغربي    "كوكب الشرق" أم كلثوم تغني في مهرجان "موازين" بالرباط    توقعات أحوال الطقس غدا الاثنين    اليوتوبر إلياس المالكي يمثل أمام النيابة العامة    الدرهم يرتفع بنسبة 0,44 في المائة مقابل الأورو    ارتفاع حصيلة القتلى في غزة إلى 35034 منذ اندلاع الحرب    زلزال بقوة 6.4 درجات يضرب سواحل المكسيك    مغاربة يحاولون الفرار بمطار روما بعد هبوط إضطراري لطائرة قادمة للمغرب    الإمارات تستنكر دعوة نتنياهو لها للمشاركة في إدارة غزة    تجرى على مستوى بنجرير وأكادير وطانطان وأقا وتفنيت تنظيم الدورة ال 20 من تمرين «الأسد الإفريقي» ما بين 20 و31 ماي    طانطان.. البحرية الملكية تقدم المساعدة ل59 مرشحا للهجرة غير النظامية    عرض "قفطان 2024" في نسخته الرابعة و العشرين بمراكش    المغرب الفاسي يبلغ نصف النهائي بفوزه على المغرب التطواني    هدفان لإبراهيم دياز والنصيري في الجولة 35 من الليغا    الحسيمة تحتضن مؤتمر دولي حول الذكاء الاصطناعي    الفيلم السينمائي "ايقاعات تامزغا " لطارق الادريسي في القاعات السينمائية    الصويرة : دورة تكوينية لفائدة أعوان التنمية بمؤسسة إنماء    ورشة حول التربية على حقوق الانسان والمواطنة    "الأسرة وأزمة القيم" بين حقوق الإنسان الكونية والمرجعية الدينية    مذكرة توقيف تلاحق مقدم برامج في تونس    المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.. تقديم نتائج مشروع دراسة مكتب العمل الدولي المتعلقة بالتقييم الاكتواري لمنظومة التعويض عن فقدان الشغل بالمغرب    بعد إلغاء حفل توقيع رواياته.. المسلم يعد جمهوره بجولة في المدن المغربية    الصين تطور أول نظام للهيدروجين السائل المركب بالسيارات من فئة 100 كيلوغرام    الهلالي يشارك في الاجتماع الاستثنائي للمجلس العالمي للتايكوندو بكوريا الجنوبية..    مطالب بوقف "التطبيع الأكاديمي" بين المغرب وإسرائيل    عائلات المغاربة المحتجزين بتايلاند تنتقد صمت الحكومة    بعد استغلالها لمصالحه الشخصية.. الوزاني يسحب سيارة الجماعة من مستشار بالاغلبية.. ومضيان يثمن القرار    مركز متخصص في التغذية يحذر من تتناول البطاطس في هذه الحالات    مطالب نقابية بإقرار منحة لعيد الأضحى    سيطرة مغربية في "الترياثلون الإيكولوجي"    ماذا يقع بالمعرض الدولي للكتاب؟.. منع المئات من الدخول!    عائلات "المغاربة المحتجزين بتايلاند" تنتقد صمت أخنوش وبوريطة    النخبة السياسية الصحراوية المغربية عنوان أطروحة جامعية بالقاضي عياض    انعقاد الدورة ال12 لمهرجان الدولي "ماطا" للفروسية من 17 إلى 19 ماي    الأمثال العامية بتطوان... (596)    العنف الغضبي وتأجيجه بين العوامل النفسية والشيطانية!!!    القضاء المغربي يصدر اول حكم لصالح مواطنة اصيبت بمضاعفات صحية بسبب لقاح كورونا    المغرب يسجل 26 إصابة جديدة ب"كورونا"    المغرب..بلد عريق لا يبالي بالاستفزازات الرخيصة    الأمثال العامية بتطوان... (595)    بتعليمات ملكية.. تنظيم حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية لحج موسم 1445 ه    هل يجوز الاقتراض لاقتناء أضحية العيد؟.. بنحمزة يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المجاهد أبو بكر القادري صدق ما عاهد الله عليه
نشر في العلم يوم 10 - 02 - 2013

اسمحوا لي بدءا،أن أتقدم بالشكر الجزيل لسيادة المندوب السامي الدكتور مصطفى الكتيري الذي شرفني بالدعوة للمشاركة في هذه الندوة العلمية التكريمية للمجاهد المرحوم أبي بكر القادري. وإذا كانت المناسبة شرط، كما يقال، فإني أُجل اختيار المندوبية السامية بكامل الاقتناع والاعتزاز مناسبة احتفائها بالذكرى 69 لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال لتكريم فقيدنا العزيز أحد رواد الحركة الوطنية الماهدين للمسار التحريري. ومن أحق منه بأن يكون الرمز الخالد لهذه الذكرى التاريخية المشهودة، وهو الذي قضى حياته في خدمة القيم الوطنية السامية؟ ومن أحق بالتكريم منه بهذه المناسبة و قد اختاره الله لأن يكون من الزمرة المصطفاة الذين قال فيهم الله جل علاه في كتابه العزيز: ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا(. لقد عاهد الله على الإيمان والتخلق بخلق القرآن، عاهد الله على الدفاع عن سيادة الوطن وكرامته، عاهد الله على الوفاء والإخلاص لعرش بلاده فكان القدوة والنموذج، عاهد فصدق ووفى وثبت ولم يتبدل بفضل من الله ومنيته عليه: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويهلك الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء(. لقد ثبته الله والمناضلين من أجل استقلال المغرب فحالفهم النصر المبين، وأهلك الاستعمار الغاشم، وأضل الخونة والمفسدين وليس ذلك بغريب ، فالوفاء بالعهد من الشيم التي شب عليها فقيدنا في حضن أسرته القادرية الشريفة التي توارثت أخلاقها وسلوكاتها المتخلقة أبا عن جد، متأسية بجدها رسول الله (.
لن أقف في حديثي هذا عند مراحل الجهاد التي عرفتها مسيرة حياته وسيرورتها، ولا عند الظروف والمناسبات المتعددة التي هيأت لي التعرف عليه ومجالسته والنهل من نصائحه ومما كان يغدقه عليَّ من اعتبار ومودة. لقد كان لأختكم المتحدثة أمامكم شرف تكريم أستاذها ومحل والدها المجاهد سيدي أبو بكر القادري بمناسبة صدور الجزء الثاني من كتابه القيم “ مذكراتي في الحركة الوطنية المغربية من سنة 1941 1945" ، بتنظيم يوم دراسي احتفائي برحابة بيت آل محمد عزيزي الحبابي، على عادته، يوم 30 ماي 1998 ، تناول الحديث عن ‘'مسيرة وآفاق النضال الوطني بالمغرب''، أرى من بينكم إخوة أفاضل شرفتم ذلك اليوم الاحتفائي بحضوركم ومشاركتكم بعروض قيمة. أشير إلى هذا التكريم لأقول إن الكلمة الترحيبية التي ألقيتها يومه تسجل صورة تحتفظ بها ذاكرتي منذ الطفولة عن الأستاذ المناضل والمجاهد أبو بكر القادري، التقطتها من أحاديث بعض أفراد أسرتي ، قبل أن يكون لي شرف التعرف عليه مباشرة بعد أن حظيت بأن أكون شريكة حياة زميله الفقيد محمد عزيز الحبابي، لن أعود إلى الحديث عن ذلك حتى لا أثقل عليكم1.
كما لن تتناول كلمتي هاته استحضار ما خطه قلم فقيدنا المجاهد أبو بكر في كتاباته حول وثيقة 11 يناير 1944 وأكتفي بالإحالة كذلك إلى العرض القيم الذي ألقاه المرحوم الأستاذ الطاهر زنيبر في ذلكم اليوم الدراسي “ قراء في وثيقة المطالبة بالاستقلال من خلال مذكراتي في الحركة الوطنية'' للمجاهد أبو بكر القادري2
فقط أشير باقتضاب إلى تناوله من جديد الحديث عن »الوثيقة« حيث يرى أنها تشكل منطلق ثورة المغاربة ضد المستعمر، يقول : ».. والواقع أن ثورة الملك و الشعب ابتدأت يوم 11 يناير عام 1944 عندما تقدم حزب الاستقلال بوثيقة المطالبة بالاستقلال باتفاق وانسجام مع جلالة الملك المنعم سيدي محمد الخامس نورة الله ضريحه، فمنذ ذلك اليوم قرر الملك والشعب نبذ الوجود الاستعماري بالمغرب والاتجاه العملي إلى تحقيق الاستقلال، ومنذ ذلك اليوم قرر الاستعماريون الفرنسيون الانتقام من رجال الحزب ومن كل الوطنيين الأحرار وإبعاد جلالة الملك المحبوب عن عرشه وتنصيب دمية استعمارية خائنة تكون طوع أمرهم ونهيهم، ويحكمون المغرب بواسطتها كما يشاء هواهم...«3
تتجلى شيمة وفاء مجاهدنا أبو بكر أيضا، في حديثه عن رواد الجهاد في المغرب ضد المستعمر واستحضاره بكبير التقدير والاعتزاز للمجاهد محمد عبد الكريم الخطابي. لقد كان من الأوائل الذين كتبوا مقالا طويلا عن جهاد الأمير في الريف والانتصارات التي حققها المجاهدون بفضل حرب العصابات التي ابتكرها، مؤكدا ضرورة المزيد من البحث والكتابة في الموضوع يقول: »لا تزال الحرب التحريرية التي قادها وتزعمها بطل الإسلام والزعيم المغربي الخالد الذكر محمد بن عبد الكريم الخطابي لم تأخذ حظها من الدرس والتمحيص، ولا زالت الكثرة الكثيرة من الشباب المغربي تجهل حقيقتها والأهداف التي كانت ترمي إليها، فهي ليست كبقية الحروب التحريرية التي قامت في أنحاء العالم المستعبد وإن كانت تلتقي معها في الكثير من الجوانب«4.
تجلى الوفاء للخطابي كذلك في افتتاح مجاهدنا أبو بكر القادري لأعمال اليوم الدراسي الذي نظمه، يوم 5 فبراير 2005 ، بيت آل محمد عزيز الحبابي احتفاء بالأمير محمد عبد الكريم الخطابي بمناسبة إحياء الذكرى 42 لوفاته حول »محمد عبد الكريم الخطابي وقضايا مغرب اليوم«، فجاءت كلمته الافتتاحية عنوان الوفاء والصدق في تناول جهاد الأمير محمد بن عبد الكريم والحديث عن الجهود التي بذلها لمقاومة الاستعمارين، الإسباني والفرنسي، في حرب الريف وما حققه من انتصارات5.
ويستحضر الفقيد من جديد مكانة ودور الزعيم المجاهد محمد عبد الكريم في بعث روح المقاومة في الشباب المغربي وإفشال المشروع الإصلاحي الفرنسي بصدد حديثه عن المعارضة الوطنية لمشروع الإصلاحات التي أتى بها المقيم العام الفرنسي الجنرال كيوم، يقول: ».. ولقد زاد في قوة هذه المعارضة لمشاريع الجنرال جوان وإصلاحاته المغرضة المواقف التي وقفها الزعيم الكبير الخالد الذكر البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي، الذي كان استقراره بالقاهرة فاتحة عهد جديد لتقوية الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار، لا في المغرب فحسب، ولكن لدى دول المغرب العربي بأجمعها: المغرب، الجزائر، تونس، حيث التفت حوله الأحزاب الوطنية في هذه الأقطار الثلاثة وتكونت تحت رئاسته جبهة المغرب العربي، وبسبب هذا التضامن الوثيق بين أحزاب المغرب العربي والنشاطات التي كانت تقوم بها فشلت كل الإجراءات التي كان ينوي الجنرال جوان القيام بها، والذي أتى بعده الجنرال كيوم...«6
يشير المجاهد أبو بكر في نفس المصدر أثناء حديثه عن احتفاءات بعض عواصم دول الشقيقة والصديقة بعيد العرش لسنة 1947 ومن بينها القاهرة إلى برقية التهنئة بهذا العيد التي وجهها البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي وعلال الفاسي إلى صاحب الجلالة المغفور له محمد الخامس، وإجابة الديوان الملكي عنهما، بعد أن حرر فقرات طويلة عن »الجبهة المغربية الموحدة التي تألفت تحت رئاسة البطل المغربي الخالد الذكر الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي« و»بيان البطل حول اللجنة التحرير المغربي العربي« و»التصريح الذي أدلى الزعيم الخطابي لمندوب جريدة الأهرام«، ثم يعلق على ذلك بقوله : »لقد تعمدت أن أثبت هذا الاستجواب الصريح والمفيد لبطلنا العظيم في “مذكراتي"، ليعلم ويتعرف الباحثون الجدد والطليعة المستقبلية على تفكير الوطنيين الأوائل، والزعماء المخلصين الصادقين وعلى آراء وأفكار البطل الخالد الذكر محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي حمل السلاح في وجه دولتين كبيرتين : فرنسا واسبانيا أزيد من خمس سنوات، دفاعا عن استقلال بلاده وحريتها وانعتاقها من قبضة الاستعمار ، وليتعرف الجميع أن البطل العظيم ابن عبد الكريم لم يكن زعيما حربيا فحسب ولكنه زعيم سياسي حكيم، عرف كيف يهزم خصومه ومحاربيه بقوة الايمان والسلاح وقوة الكلمة والاقناع. فهذا الحوار الذي أجراه مع الصحيفة التي أخذناه عنها يؤكد أن ابن عبد الكريم كان له برنامجه العلمي الواضح في السلم مثل ما كان له توجهه العلمي في الحرب ... وحقيقة أخرى تستفاد من تصريحات الزعيم ابن عبد الكريم تفند ما كان يروجه المغرضون القاصدون لتشتيت الوحدة المغربية الصامدة ، فحين تحدث عن الحركة الوطنية المغربية، التي كان بعيدا عنها طوال عشرين سنة في المنفى السحيق ، تحدث عنها بالتقدير والثقة والاطمئنان، وحين جاء الحديث عن جلالة الملك محمد الخامس وصفه بالملك الوطني الذي لا يصدره عنه أي شيء إلا لما فيه خير بلاده ومصلحتها دون اكتراث إلا لما يحقق هذه المصلحة مهما تكن العراقيل التي توضع في سبيله وأنه نور الله ضريحه على رأس المناصرين لحركة الحرية والاستقلال.
إن البطل ابن عبد الكريم صار إلى عفو الله بعدما أدى واجبه كاملا ، وإن المعترفين له بالفضل والمقدرين لما بذله من جهد في سبيل تحرير بلاده يجب عليهم أن يتمعنوا في ما كان يريده ويسعى إليه من حرية بلاده وعزتها وكرامتها ووحدتها تحت العرش المغربي الشريف ، وأن فكرة التفرقة والتشتيت والنعرات لم تكن تخطر بباله لأنها تخالف وتصادم عقيدته وإخلاصه وتشبثه بالوحدة المغربية ، فالمغرب موحد، وسيبقى إن شاء الله موحدا في ترابه وعقيدته ووطنيته ولغته ، وسيبقى أبناء ابن عبد الكريم ومقدروه والمعتزون به مهتدين بهدي مثل هذه التصريحات التي افضى بها وهو بالقاهرة ، أتمنى أن تتهيأ الظروف لنقل رفاته إلى بلاده، سيبقى إن شاء الله اسمه خالدا ونضاله مضر ب الأمثال، والقدوة الصالحة لمن أتى بعده« 7. يعود المجاهد أبو بكر القادري ليدلي برأيه في قضية إرجاع رفاة الزعيم الخطابي إلى أرض الوطن في كتابه سيرة ذاتية في حوارات صحافية8
أيها الحضور الكرام، ألتمس منكم السماح لي بالتحرر من قيود الخطاب الأكاديمي والإذن لي بأن أدع لمشاعري المتقدة بين أضلعي فرصة الحديث على الصليقة بكل حمولات الإجلال والصدق والوفاء والتقدير والاحترام لروح محل والدنا المجاهد أبو بكر القادري، الذي حظيت ببنوته الروحية وتقديره وعطفه، إذ كان كلما خط قلمه إهداء أحد كتبه القيمة لشخصي المتواضع استهله بعبارة »إلى محل ابنتنا الدكتورة فاطمة الجامعي الحبابي«. إنه لشرف عظيم لي أن تكونوا، أيها المجاهد الوفي أبي الروحي. ويكفيني شرفا، أيضا، أن أكون من بين هذه الزمرة التي تذكرنا اليوم بما تميزتم به من وعي بخطورة وأهمية المدرسة في تشكيل الضمير الوطني، فلم تقصروا جهدا لإنشاء مدرسة النهضة كموقف وطني وحضاري بالغ الأهمية، المدرسة التي كانت سباقة إلى تخريج العديد من الأطر والرجالات الذين تحملوا ، بعد الاستقلال، مسؤوليات هامة في مختلف دواليب الدولة. لقد كانت مدرسة نموذجية في التنظيم والسهر على بث روح الوطنية الصادقة في نفوس الناشئة بفضل ما كنتم تبذلونه من جهود لتنشئة أجيال متخلقة متقنة للغة العربية، تعي مسؤولياتها الوطنية والمجتمعية، ومثلتم أنتم، مؤسسها ومديرها، القدوة الحسنة لأطرها الإدارية ومعلميها وتلامذتها، يغلب الدافع الوطني على كل ما عداه في إدارة شؤونها ووضع برامجها. والواقع أن البنية الصلبة التي قام عليها نضالكم، هو التلاحم القدسي بين العرش والشعب، تلاحم نسجه الدين الإسلامي الحنيف والوطنية الصادقة والوفاء المتبادل بينكم وبين الجالس على عرش البلاد المغفور له الملك محمد الخامس الذي كان أول لقاؤكم به وتشرفكم بالمثول بين يديه مع فئة من شباب سلا التي كانت تشكل جمعية غير رسمية ، في سن مبكرة كما تحدثتم عن ذلك إذ تقول : »وفي الثلاثينات التي تحدثت عنها وبالضبط في سنة 1933 اتيح لي شخصيا لقاء حميمي مع محمد الخامس ضمن جماعة من إخواني الشباب في سلا ذلك اننا كنا نلاحظ بامتعاض، ضغط الفرنسيين على محمد الخامس من وراء الستار حتى لا يتصل به الشباب الوطني الذي بدأ يتحرك، وكانت التقاليد المغربية تفرض استدعاء بعض الأعيان بمناسبة الأعياد الثلاثة الرسمية، وهي عيد الفطر وعيد الأضحى وعيد المولد، للسلام على جلالته والتبريك له بالعيد السعيد. فكان يتركب وفد من الأعيان تحت رئاسة باشا المدينة للذهاب إلى القصر الملكي ليهنئ جلالته بالعيد ، وكان باشا المدينة يختار من الأعيان أشخاصا لا يتسمون بأي روح وطنية ويتجنب استدعاء أي شاب وطني ، فقررنا نحن، شباب سلا الوطنيين، أن نغتنم فرصة العيد ونصعد إلى القصر الملكي ولو بدون استدعاء من السلطة ، وهكذا صعدنا ودخلنا القصر مع الداخلين من الأعيان واختلطنا معهم حتى لا ينكشف أمرنا ، ولما نودي على أعيان سلا للدخول للسلام على جلالته والتبريك له بالعيد بقينا واقفين ولم ندخل معهم ومع الباشا ، ولما لاحظ قائد المشور السعيد أننا لم ندخل مع جماعة الأعيان سألنا من انتم؟ فقلنا : شباب سلا الوطني المسلم، وحين خروج جماعة الأعيان السلاويين نادى قائد المشور طبق العادة المتبعة : »شباب سلا الوطنيون، الله يبارك في عمر سيدنا« . فقصدنا قاعة الاستقبال التي كان جلالة الملك جالسا فيها للاستقبال وسلمنا على جلالته مهنئين بالعيد ، ثم وقفت أمامه وألقيت كلمة ارتجالية تهلل لها وجهه الشريف، وكان أول خطاب لي أمامه«9.
لقد وقف جيلكم، أيها المناضل، مواقف جليلة مقاوما الاستعمار ومدافعا عن الملك الشرعي للبلاد بروح وطنية مثالية وإيمان عميق بمشروعية قضيته، وقدرات خارقة على مواجهة مكائد المستعمر وتعسفاته، وصبر وأناة وعزيمة لا تفل إلى أن تحقق له النصر المبين، مخلدا بذلك للأجيال المتعاقبة صفحات ذهبية وصورا نموذجية متفردة عن الوطنية الصادقة والتضحية القصوى والنضال المستميت من أجل تحرير البلاد من قبضة المستعمر الغاشم وانتشالها من عوامل التخلف المتولدة عن الجهل والشعوذة والتدجيل والتسلط بكل أشكاله، ولولا تلك الرابطة الوطيدة التي كانت بين الشعب المغربي بكل شرائحه ومكوناته وبين المغفور لهما جلالة السلطان محمد الخامس والملك الحسن الثاني، ولي عهده آنذاك، الرابطة التي يعبر عنها قولكم : »إن يوم 20 غشت 1953 يعتبر من أعظم الأيام في تاريخنا الوطني لأنه كان انطلاق ثورة الملك والشعب ضد المستعمر الغاشم، ولأنه كان التعبير الحقيقي القوي على أن الملك بالشعب والشعب بالعرش«10.
شكل الدين الإسلامي الحنيف وإيمان الأمة المغربية به عقيدة راسخة وامتثالها لتعاليمه وتحليها بقيمه السامية لُحمة الأواصر المتينة التي تماسكت حلقاتها على مدى تاريخ الدولة المغربية المجيد منذ تأسيس المولى إدريس لها إذ انصهرت مشاعر الشعب الصادقة في بوتقة الحب والوفاء والإخلاص للوطن ولولاة الأمر الجالسين على عرشه، لولا تلكم الرابطة الوطيدة ما كان للنصر أن يتحقق ولا للشمل أن يجتمع ولا للمغرب أن يتحرر ويحقق الأهداف التي تجند للدفاع عنها. والواقع أن جيلكم أستاذي المجاهد تحمل الأمانة بكل وعي ، و مارس رسالته الجهادية الإصلاحية بمنهجية محكمة وعقلانية تغذيها المشاعر والعواطف النبيلة التي تسكن الأعماق، ولطف المعاملة ودفء القلب وفائق اليقظة وكبير الاعتبار لحجم المسؤولية التي يتحملها، وبما يتطلبه إصلاح الأوضاع القائمة من مضاعفة الجهود وتحمل المشاق العسيرة وتخطي الحواجز، بفضل ذلكم النهج القويم تمكنتم من إرساء قوائم التفاهم والتواد والتماسك والتضامن بين مختلف الأفراد والفئات.
لقد ناضل جيلكم بروح وطنية بلغت حد الصوفية المخلصة لله وللوطن وللعرش. كان الإيمان بالقضية التحررية ذي شعب متكاملة، يملي منهجية من معدن أصيل، جوهرها شريعة الإسلام ومبادئ الوطنية ونسيجها الإخلاص في الكفاح ونشر العلم والقيم الأخلاقية السامية، وأبعادها رفض عوامل التخلف والجهل وكل أشكال الاستعمار والسيطرة الأجنبية والاستغلال، وخطتها ممارسة أعمال البناء والتشييد والإصلاح والسير قدما إلى الأمام بالصرامة المتفاعلة مع المرونة، والقوة المحكمة باللين، ونكران الذات المتجسد في الوفاء لشعار »نموت ليحيا الوطن«. بذلك شكلتم مدرسة وطنية رائدة ، ساد المنخرطين في رحابها من رعيل الرواد الوطنيين الأوائل طباع الوئام وسمو النفس وصفاء السريرة والصدق في القول والإحكام في الفعل والمثالية في السلوك والممارسات، والجدية في التخطيط والإنجاز ، والمثابرة التي لا تعرف الملل والكلل. مدرسة التسامي عن نزوعات الانتماءات الحزبية الضيقة والتعصب الطائفي والجهوي .
لقد كانت الوطنية بالنسبة لجيلكم، تشكل نضالا مثاليا يتجاوز الرغبة في الزعامة والتطاحنات السياسية والسلوكات الانتهازية والحسابات الظرفية المبيتة، ويجعل مصلحة الوطن والشعب المغربي ككل فوق مصالح الأفراد الشخصية، كانت الوطنية مدرسة للتعايش والتواد والتعاون والتضامن تعطي للحياة معنى وقيمة، وتشعر المكافح بجدوى وجوده في الحياة. كان بناة تلك المدرسة نبتة أرض المغرب الطيبة، استنبتت بذورها في مختلف أنحائه، شماله وجنوبه، شرقه وغربه، سهوله وجباله، قراه ومدنه. وكانت تربة سلا المحروسة خصبة ذات سماد رباني تفتقت في جنباتها براعم غضة من ألمع بناة تلك المدرسة، و كنتم، أيها الأستاذ المربي الجليل والوطني الغيور سيدي أبو بكر، من أنبغ رواد هذه المدرسة الطلائعيين الشباب الذين وضعوا أسسها القائمة على الحب والعطف والبساطة والتوجيه والإرشاد والانضباط في السلوك والممارسات، والتشبث بأصالة بلادنا وتراثنا العربي الإسلامي مع الانفتاح على حضارة الغرب والاستفادة من معطياته، فكان من أوائل ما استرشدتم إليه إنشاء “جمعية المحافظة على القرآن الكريم" في أواخر العقد الثالث من القرن الماضي، تقلدتم رئاستها أيها المجاهد، وحرصتم والثلة المؤمنة من أبناء سلا المنافحين عن دينهم الإسلامي الحنيف على رعايتها والسهر لنشر أولوية القرآن الكريم والتوعية بمبادئ الإسلام الصحيح. لقد لعبتم أستاذي، منذ انطلاقتكم المبكرة في درب الحياة، دورا أساسيا في تربية الأجيال وتلقينها مبادئ القيم الأخلاقية الرفيعة وأسس الوطنية الصادقة، وساهمتم في بلورة العديد من المفاهيم الأساسية لإيقاظ الوعي الوطني والديني والحضاري لدى الناشئة وفتح أعينها وعقولها وتربيتها على المثل العليا المتخلقة وتمكينها من سلاح المعرفة والاستبصار لمعالجة المشاكل ومحاربة الفساد وتحقيق الطموحات في وقت كان أبناء المغرب في أشد الحاجة إلى من يوجههم الوجهة الصالحة، وينتشلهم من أجواء الشعوذة والتخلف، ويشحن قلوبهم بمحبة الوطن، ويثير حفيظتهم للذود عن كرامته وعزته ومجد عرشه، وما استصعبتم شيئا أبدا، إذ كان منطلقكم الإيمان الذي قال عنه شيخنا المرحوم العلامة ابراهيم الكتاني في حديثه عن نضال الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي : »إنه الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب استهان بكل صعب« .11
فلتنم، أيها المجاهد الكبير، آمنا مطمئنا، فقد أديت رسالتك، وحققت لبلدك ما يرضي الله والضمير والوطن وملوك عرشنا العلوي المجيد المغفور لهما محمد الخامس محرر البلاد والحسن الثاني بانيها وعاهلنا الهمام جلالة الملك العادل محمد السادس دام له العز والتأييد، وزاد في سداده لما فيه صالح رعاياه والأمة الإسلامية والإنسانية جمعاء.
الهوامش:
1 انظر النضال الوطني مسيرة وآفاق، ندوة تكريمية للمجاهد أبو بكر القادري، سلسلة أبحاث وأعلام، العدد 8، بيت آل محمد عزيز الحبابي، 1999 ، »مرحبا !، ص 59-81. «
2 المصدر السابق ص. 105-112.
3 انظر أبو بكر القادري، “ مذكراتي في الحركة الوطنية المغربية “، ج. 5 ، 2006، ص. 17.
4 انظر أبو بكر القادري، ‘' رجال عرفتهم في المشرق والمغرب''، 1983، ص . 39 ? 57.
5 انظر محمد عبد الكريم الخطابي وقضايا مغرب اليوم، سلسلة أبحاث وأعلام العدد 15، جزء 1، بيت آل محمد عزيز الحبابي ، 2013 ، أعمال الجلسة الافتتاحية، ص . 53 ? 60.
6 انظر أبو بكر القادري، مذكراتي في الحركة الوطنية المغربية، الجزء الخامس، 2006 ، المقدمة، ص. 7 .
7 انظر المصدر السابق ، ص. 150 -152 .
8 صدر الكتاب سنة 2011، انظر ص. 47 ? 49 .
9 انظر المصدر السابق، »تعرفي على محمد الخامس وصفحات من جهاده«، ص . 189 ? 190.
10 المصدر السابق ، ‘'ثورة الملك والشعب''، ص . 36 .
11 انظر علي بن المنتصر الكتاني، العلامة المجاهد محمد ابراهيم الكتاني، ‘'ماذا استفاد المغرب من حرب التحرير الريفية، ص . 240، انظر كذلك محمد عبد الكرم الخطابي في أحاديث أقطاب الفكر والنضال الوطني بالمغرب، سلسلة أبحاث وأعلام، عدد 15، ج 2، 2013.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.