بدء أشغال المؤتمر السادس للبرلمان العربي بالقاهرة بمشاركة المغرب    المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بإقليم تنغير.. إنجاز 79 مشروعا في القطاع الصحي    تفاصيل رسالة من الملك إلى رئيس السيراليون    نادية فتاح: المغرب يتيح الولوج إلى سوق تضم حوالي مليار مستهلك بإفريقيا    منتوج العسل المغربي يطرق أبواب السوق الأوروبية    ماذا قال مدرب بركان عن مواجهة اتحاد العاصمة الجزائري؟    خلفيات تسببت لرئاسة المؤتمر 18 لحزب الاستقلال في "بلوكاج" لمدة 8 ساعات    التلميذة فاطمة الزهراء ضحية مدير ثانوية "التقدم" فمولاي يعقوب فتصريح ل"كود": هادي 3 سنين والمدير كيتحرش بيا وكيدير هادشي مع بزاف دالبنات    تتويج شعري في ملتقى الشعر والفلسفة    العلماء يعثرون على قبر أفلاطون بفضل الذكاء الاصطناعي "صورة"    توقيف متورطين في ترويج مخدرات وحجز 8955 قرص مهلوس    وفد ألماني يطلع بتطوان على العرض البيداغوجي للمعهد المتوسطي للتدبير    جاري القروض الصغرى المستحقة يصل إلى 8,4 مليار درهم في متم 2022    بايتاس: حكومة أخنوش هي أكثر حكومة وسعت الحوار الاجتماعي وعملت على مأسسته منذ تنصيبها    هذا تاريخ عيد الأضحى لهذه السنة بالمملكة    مظاهرة حاشدة في مدريد لدعم رئيس الوزراء وحثه على البقاء    توقعات أحوال الطقس غدا الأحد    رحلة الجاز بطنجة .. عودة للجذور الإفريقية واندماج مع موسيقى كناوة    بلغت تذاكره 1500 درهم.. حفل مراون خوري بالبيضاء يتحول إلى فوضى عارمة    هيئة كبار العلماء بالسعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون أخذ تصريح وآثم من فعل ذلك    الخارجية البريطانية: ملتازمين بتعزيز وحماية حقوق الإنسان فالصحرا وكنشجعو الأطراف باش يواصلوا جهودهم فهاد الصدد    المغرب يواجه واحدا من أكثر المواسم الفلاحية كارثية في تاريخه    مجلس الأمن .. حركة عدم الانحياز تشيد بجهود جلالة الملك لفائدة القضية الفلسطينية    الرباط: اختتام فعاليات "ليالي الفيلم السعودي"    ارتفاع عدد شهداء العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34 ألفا و388 شهيدا منذ بدء الحرب    ارتفاع أسعار اللحوم الحمراء بالمغرب    مؤتمر الاستقلال يمرر تعديلات النظام الأساسي ويتجنب "تصدع" انتخاب القيادة    بنتايك ضمن التشكيلة المثالية للجولة ال34 من دوري الدرجة الثانية الفرنسي    تفاصيل وكواليس عمل فني بين لمجرد وعمور    خنيفرة .. إعطاء انطلاقة المرحلة الثالثة من "لحاق المغرب التاريخي للسيارات الكلاسيكية "    قناة عبرية: استقالة رئيس الأركان الإسرائيلي قريبا وجميع الضباط المسؤولين عن كارثة 7 أكتوبر سيعودون إلى ديارهم    زلزال بقوة 6.1 درجات يضرب هذه الدولة    تواصل حراك التضامن مع الشعب الفلسطيني في المغرب.. مظاهرات في 56 مدينة دعما لغزة    خمسة فرق تشعل الصراع على بطاقة الصعود الثانية وأولمبيك خريبكة يهدد حلم "الكوديم"    مجلس أمناء الاتحاد العربي للثقافة الرياضية يجتمع بالدوحة لمناقشة خطة 2025    السعيدية.. افتتاح النسخة الثامنة من تظاهرة "أوريونتا منتجعات السعيدية – حكايات فنية"    فرنسا مستعدة ل"تمويل البنية التحتية" لنقل الطاقة النظيفة من الصحراء إلى الدار البيضاء    مغني راب إيراني يواجه حكماً بالإعدام وسط إدانات واسعة    سيناريوهات الكاف الثلاث لتنظيم كأس إفريقيا 2025 بالمغرب!    زفاف العائلات الكبيرة.. زواج ابنة أخنوش من نجل الملياردير الصفريوي    سامسونغ تزيح آبل عن عرش صناعة الهواتف و شاومي تتقدم إلى المركز الثالث    هجوم روسي استهدف السكك بأوكرانيا لتعطيل الإمدادات د مريكان    تطوير مبادرة "المثمر" ل6 نماذج تجريبية يَضمن مَكننة مستدامة لأنشطة فلاحين    الأكاديمية تغوص في الهندسة العمرانية المغربية الإسبانية عبر "قصر الحمراء"    زلزال بقوة 6 درجات يضرب دولة جديدة    ممثل تركي مشهور شرا مدرسة وريبها.. نتاقم من المعلمين لي كانو كيضربوه ملي كان صغير    الرابطة الرياضية البيضاوية يؤكد ان الوحدة الترابية قضيتنا الاولى    جمارك الجزائر تجهل قانون الجمارك    اكتشف أضرار الإفراط في تناول البطيخ    كورونا يظهر مجدداً في جهة الشرق.. هذا عدد الاصابات لهذا الأسبوع    الأمثال العامية بتطوان... (583)    دراسة: التمارين منخفضة إلى متوسطة الشدة تحارب الاكتئاب    ‬غراسياس ‬بيدرو‮!‬    بروفيسور عبد العزيز عيشان ل"رسالة24″: هناك علاج المناعي يخلص المريض من حساسية الربيع نهائيا    الأمثال العامية بتطوان... (582)    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجهة: نحو مرحلة ثالثة ومنتجة

من الضروري التذكير بأن ما سيصطلح على تقديمه وترويجه كخطاب حول الجهة والجهوية بمغرب الاستقلال إما ارتبط بشكل أو بآخر برواسب تحديد وتقطيع الجهات أو تغذى من الحمولات المتنوعة و التلفيقية للمفهوم ولخلفيات الاستعمال الاستعماريين للجهة في ارتباطهما بمنطق الاستغلال والتحكم في الحيز الترابي المغربي التي كانت تشكله «المملكة الشريفة» ضمن الفضاء العام للإمبراطورية الفرنسية. وإما تعامل بتسرع مع فكرة الجهة من منطلقات الهندسة التنموية والإدارية الغربية «المستوردة» ومن خلال ما أصبحت ترمز إليه أو تقدم به صيغ التنمية الجهوية كبديل وكتدارك لانحسار النموذج التنموي الذي يرعاه ويشرف على تنفيذه مركز الدولة ...
نعم تكون في المغرب خطاب حول الجهة والجهوية يضمر نظرات ويحمل مفاهيم ظاهرها شبه واضح للجميع، لكنه خطاب ملتوي الأبعاد و متناقض المرامي، ولم يساهم بشكل منتج في تطوير علائق المركز بالمحيط ضمن الإشكال العام لتوزيع السلط وتوضيح اختصاصاتها ومسؤولياتها داخل المملكة المغربية.
وبين التشكل التدريجي والبطيء للجهة كأفق للتأطير الإداري وللانتشار الاقتصادي بدءا بنهاية التسعينات و التلميح ثم التحضير لاعتماد الجهوية بالمغرب مرت عقود دون أن يتم الإقرار بأن الفروق بين جهات البلد هي في واقع الأمر عبارة عن نتائج مسلسل تاريخي وتتغذى من منطق الإنتاج السائد. فالتباينات والفروق المجالية، محلية كانت أم جهوية، هي تمايزات وإفرازات من صميم المنطق العام للإنتاج ومعالجتها رهينة بمدى إدراك دينامية تشكل هرمية داخل الحيز الترابي المغربي بفعل الأدوار التي أعطيت أو ستعطى لهذه المنطقة أو تلك وبفعل السياسات التي انتهجت أو ستنتهج إزاء هذه المنطقة أو تلك، لصالح تطويرها أو قصد تهميشها وتركها لحالها.
انطلاق فكرة الجهة
في الستينات
يبدو أن تكريس فكرة الجهوية الاقتصادية في المغرب هو نتيجة تطور ظاهرة «موضة» أصبحت محسوسة منذ نهاية الستينيات وتأججت فور بداية السبعينيات. ذلك أن تجارب استراتيجية التنمية الجهوية، والتي اعتبرت تجارب ناجحة في مجملها داخل البلدان الرأسمالية المتقدمة ، تجارب استقطبت اهتمام عدد من البلدان السائرة في طريق النمو. وقد ارتكز هذا الاستقطاب، والذي سيتطور إلى قناعة متسرعة، على ما أصبح يروج له الخبراء والمستشارون الأجانب في القضايا التنموية لنهج الجهوية الاقتصادية كحل واعد، بل وأحيانا كترياق يداوي معضلات ضعف النمو الاقتصادي ويمهد للتغلب على عقبات الوصول إلى مصاف التقدم الاقتصادي العصري.
من هذا المنطلق تتضح لنا أسباب انبثاق ما سيسمى مرحلة اعتماد الجهوية والتخطيط الاقتصادي الجهوي وإعداد التراب كمرتكزات للخطاب التنموي داخل عدد من البلدان النامية وكمرتكزات للهندسة التنموية المعتمدة بشكل توافقي داخل محافل المنتظم الدولي الداعية نحو تدارك واقع التخلف الاقتصادي. ومن هذا المنطلق أيضا يتبين كيف ومتى أصبح خطاب التخطيط التنموي الاقتصادي بالمغرب خطابا يشير بشكل أو بآخر إلى وجاهة اعتماد الجهة ويمهد للأخذ بها كأفق للعمل وللتدخل الاقتصادي للدولة ثم كمرتكز للتدبير الترابي ككل.
من المعلوم أن اعتبارات تصحيح الاختلالات الجهوية كانت حاضرة وبقوة في الصيغة الأولى للمخطط الخماسي 1960- 1964 بحكم السياق العام لبلورته والمناخ الوطني التقدمي الذي حكم الاختيارات الكبرى المعلنة للدولة آنئذ. ومن المعروف كذلك أن نوعية المشاريع الكبرى، الصناعية منها والفلاحية، استهدفت تثمين عدد من هوامش التراب الوطني وإعادة الاعتبار لعدد من المناطق التي أهملها أو تجاهلها منطق الاستغلال الكولونيالي. وغير خفي كذلك أن التبدل الذي لحق بتوجهات الدولة أسفر عن تغليب المعايير المالية والاقتصادية على خيار البحث عن التوازن الترابي ومعالجة الاختلالات الكبرى بين مناطق المغرب المستقل.
وباعتبار إكراهات الظرفية الاقتصادية المترتبة عن منتصف الستينيات، أصبحت الغلبة للبحث عن الفرص المثلى للتوسع الاقتصادي ضمن مختلف اختيارات التموضع المجالي في الفلاحة والسياحة والصناعة كما في ميادين التجهيزات الكبرى التي أشرفت عليها ونفذتها ومولتها الدولة. فالمقاربة القطاعية المحضة للتنمية والخاضعة لتوصيات دوائر المساعدة والتمويل الدوليين... لم تكن لتسمح بالانتباه إلى مخاطر إعادة إنتاج، بل وترسيخ اختلالات جهوية بالجملة بين مغرب «معصرن» ظاهريا لأنه مندمج بشكل شكلي في مسلسل تطور التوزيع الدولي للعمل ومغرب متروك لحاله ولا قبل له بتطوير أنماط عيشه وإنتاجه.
والظاهر أن تفاقم المشاكل الاقتصادية والمالية وكذلك انعكاساتها الاجتماعية والسياسية دفع نحو البحث عن استراتيجية للتأطير الدولتي العصري لمجموع التراب الوطني بدافع إحكام مراقبة وتتبع مجريات المجال الترابي ككل في مختلف أبعادها وتداعياتها.
حيثيات اعتماد الجهوية
في بداية السبعينيات
على هذا النحو وبعد التوجه نحو نهج جهوية المشاريع في نهاية الستينيات وتحديدا خلال فترة المخطط الخماسي72 - 1968، بدأ التحضير لمشروع الجهوية الاقتصادية عبر دراسات انصبت على استجلاء المستوى التنموي المقارن لأقاليم المملكة وعلى إبراز الاختلالات الجهوية الجوهرية من جهة وتجريب عمليات تهيئة مناطق معينة على المستوى الهيدرو فلاحي والسياحي من جهة ثانية. ولعل مؤشرات التضخم الحضري والمخاطر الناجمة عنه هي بدورها عامل مؤسس لذلك المنعرج الذي شكلته أعمال لجنة الدراسة البين وزارية حول الجهوية والتي مهدت لسن ظهير 1971 المتعلق بإحداث سبعة جهات.
فهذا التوجه والذي قدم كتجديد وكمدخل نحو نمط متقدم في معالجة قضايا التراب الوطني هو عمل أراد له واضعوه من دون شك ترجمة الإحساس بالحاجة إلى إنشاء أدوات تخطيط تربط بين مختلف أماكن عمل وتدخل السلطة العمومية من الحي إلى المدينة مرورا بالإقليم ثم الجهة فتهيئة التراب الوطني برمته. غير أن ما سيلمس التنظيم الترابي للمملكة بقي طفيفا مع الترتيبات التنظيمية المدخلة مع التقسيم الجهوي السباعي. والسبب في ذلك هو ترسخ واقع الإقليم كإطار سياسي-إداري للتدبير الترابي للدولة وانغراس هذا المعطى كمرتكز في عمل الدولة وتنظيمها وآليات مراقبتها للمجال الاجتماعي.
فالإقليم كوحدة ترابية مجربة ومهيكلة بإحكام ستغدو الوحدة الإدارية المفضلة على مستوى التنسيق بين مختلف الإدارات و النواة الأولى لتنفيذ البرامج والسياسات العمومية. وهو ما سيكسبها مع مرور الزمن وفي سياق الحكم المركزي للمملكة آنذاك وضع الإطار الإداري الأول لعمل الدولة وتدخلاتها وبسط نفوذها. ومن ثم كانت طبيعة جهة 1971 : شبه فيدرالية للأقاليم التي تكونها وإطار جد شكلي لإسقاط تخطيط المركز و التنسيق بين برامجه ومشاريعه. فجهة 1971 بقيت إطارا غير دستوري لا هي تترجم واقعا ترابيا تاريخيا مشهودا وقادرا على الانبثاق والاستمرار ولاهي تتأصل وتنغرس في وعي الساكنة بفعل بروز مصالح جهوية تعبأ الجميع. والظاهر أن الهدف من استحداث الجهة في بداية السبعينيات لم يكن وراءه سوى إضفاء نوع من التحديث على مقاصد المراقبة الممركزة للفضاء المغربي.
وإذا كانت تجربة الجهوية الجديدة ستجد في فترة المخطط الخماسي 77 - 1973 أوج إعمالها على أرض الواقع، فلأن هذه الفترة تميزت بالإعلان عن توجه إرادي جديد للدولة نحو تحقيق مشاريع تنموية مكثفة هنا وهنالك، في ربوع المملكة، معتمدة في ذلك على سياق تمويل عمومي وعالمي أيضا بدا وكأنه ميسر ومحفز على إنجاز الكثير. فهذه الفترة بالذات شهدت محاولة لرسم المبادئ العامة للتنمية الجهوية ومكنت من طرح بعض من مستلزمات النهج التنموي اللاممركز... وهي محاولة لم تكتمل بفعل عدم تناسق الأهداف الجهوية للمخطط والتي ركزت في نفس الوقت على نشدان التموضع اللائق والمنتج في الأمدين القريب والمتوسط لأنشطة عالية المردودية وعلى بلوغ هدف الحد من الفروق والاختلالات بين الجهات.
وبطبيعة الحال لم يكن انعدام تناسق الأهداف هو الخلل الوحيد الذي اعترى بلورة التصور الجديد لتنمية أطراف المملكة، بل تعدى الأمر ذلك ليشمل قضايا اللاتركز الإداري و دمقرطة الحياة السياسية ومسألة تمويل مشاريع التنمية الجهوية وتجديد ميثاق الاستثمار وإحداث وزارة خاصة بإعداد التراب... فإذا كانت هذه القضايا كلها حاضرة في الأذهان ومشار إليها في الوثائق الرسمية ومطروحة بإلحاح في ساحة الجدال السياسي لهذه المرحلة فهي بقيت من قبيل المبادئ التي لا تنفذ إلى عمق الواقع أو تعرف بعض البتر والتردد والإرجاء. ومن ثم ستنبثق تناقضات بالجملة بين المقاصد التنموية والجهوية لهذا المخطط وبين معايير وثوابت التنظيم السياسي والإداري للمملكة بما سيكبح ويقفل كل زوايا التجديد المرجو من وراء اعتماد الجهة بالمغرب. وللاكتفاء بجرد بعض الأمثلة الدالة عن هذا الانحسار تكفي الإشارة إلى كون إحداث مستوى وزاري يعنى بقضايا التهيئة الترابية لم يسفر عن تدشين نهج جديد في تناول ومعالجة القضايا الداخلية للبلاد. فالإعلان عن إضافة قطاع إعداد التراب إلى خطاطة التنظيم الوزاري بالمغرب لم يكن سوى من قبيل الترصيع العصري والتقنوي لجهاز الدولة.
وكما سنرى فيما بعد وحتى خلال نهاية التسعينيات، سيتكرر الأمر نفسه مع فارق إضافة هذا القطاع أو ذاك. ومن ثم استمرت معالجة الشؤون المحلية والجهوية حكرا مؤبدا على وزارة الداخلية كمؤسسة تمثل مركز السلطة ومنطقه العام، تنقل توجيهاته وتنفذ بصرامة التعليمات التي لا تفرط في مركزة القرار وبتدرج وحذر تلك التي توصي بنهج اللاتركز واللامركزية. وقد انضافت إلى هذه المعوقات ذات الطابع السياسي-المؤسساتي، مصاعب تمويل حدت من الانتشار المنشود للجهاز الإنتاجي الوطني وتنوع مكوناته الجهوية والقطاعية بما جعل المشروع الجهوي المغربي ينحو منحى ممارسة الخطاب ليس إلا.
وبذلك يكون المغرب من ضمن الدول التي كانت سباقة في التعرف على نسق الأفكار المبشر بوعود المكاسب التي قد تترتب عن إستراتيجية إعداد التراب وبتباشير التقدم الذي سيصطحب اعتماد هندسة التنمية الجهوية وتقنياتها. والدليل على ذلك ما حمله خطاب الدولة نفسها من خلال مخطط80 - 1978 والذي لم يخل من الاعتبارات التي تخص مستلزمات معالجة الاختلالات الجهوية و مواجهة رواسب وميولات التمركز الديمغرافي والاقتصادي.
والشيء نفسه ولو بصيغة أخرى نعثر عليه ضمن مضامين مخطط 85 - 1981 الذي ذكر بنواقص النهج الجهوي كما فرضته الممارسة من زاوية التأخر المسجل في بلورة المخطط الوطني للإعداد التراب ومخططات النهوض بالمجالات القروية من جهة أولى. وهو كذلك ومخطط تعددت إشاراته العرضية من جهة ثانية إلى متطلبات ضمان إشراك السكان في مشروع التنمية وإلى مستلزمات توطيد مسلسل اللامركزية وتجسيد سياسة اللاتركز سعيا وراء تقليص ملموس للاختلالات التي يعاني منها الفضاء الاقتصادي والاجتماعي. ومجددا تجدر الإشارة هنا إلى توسع الهوة بين التقدم المسجل على صعيد الخطاب الرسمي وبين التطبيق العملي والمجسد في مشاريع تتوخى معالجة إشكاليات التنمية المجالية المتوازنة لربوع المملكة.
ومهما تعددت صيغ إرساء تصور أصيل للتنمية الجهوية بالمغرب ومهما كانت منابر التبشير بها خلال الثمانينيات وبداية التسعينيات (خطب ملكية...مخططات تنموية...) فهي ظلت تصطدم بكون استراتيجية التنمية المنشودة استراتيجية تفترض نسقا مؤسساتيا غير النسق المعمول به في المملكة. وعلى كل حال بدا واضحا أن حدودا ذات طابع مؤسساتي لا تبيح أي تقدم يذكر في مضمار اللاتركز الإداري ومن ثم في كل ما يرتبط أو يساعد على بلوغ مقاصد التنمية الجهوية والمحلية.
وقد تجلت هذه الحدود وسيبرز طابعها بالملموس من خلال عدة مشاريع وبرامج. وقد كان هذا، ضمن أمثلة أخرى كثيرة، مآل مشروع إنشاء تخطيط جماعي متعدد السنوات ومرتبط بالبرامج الجهوية المندمجة ذات الأولوية والتي سطرها مخطط 92 - 1988 . وهي مشاريع لم تأخذ بعين الاعتبار نواقص التجربة الجماعية بالمغرب في حدودها البنيوية (طبيعة الوصاية، ثقل رواسب مسلسل تقطيع لا ينتهي...) وعلى مستوى خواء قدراتها الذاتي( نوعية النخب وضعف التأطير التقني...) في الارتقاء نحو مساهمة فعالة وناجعة في متطلبات النهوض بالمحيط التنموي المباشر والجهوي. هكذا كان الإعلان عن إمكانية إجراء تجارب ناجحة للتخطيط التنموي تصهر المستوى الجماعي بالصعيد الإقليمي الذي ينتمي إليه وبالجهة التي يتواجد ضمنها مجرد إعلان مبادئ لا قبل للتطبيق العملي بها.
وفيما يخص بلورة أهداف التنمية الجهوية يبرز خطاب التخطيط بالمغرب تقدما في ذكر تفاصيلها في نهاية الثمانينيات حيث يركز على محاور ثلاثة متكاملة بدءا بمواجهة الاختلالات الجهوية وإنعاش العالم القروي ومرورا بالارتقاء بأقطاب جديدة للتنمية وانتهاء بضمان مساهمة السكان في عملية التنمية وتحسين مستوى إدارة المؤسسات الجهوية والجماعية. وهو ما أنذر بوجود وعي متنام بكون البنيات الجهوية لم تبرح شكليات الوجود وأن المطلوب في المرحلة ينطلق لزوما من إعادة تعريف وتحديد الاختصاصات ذات الطابع التقريري لكل مؤسسة يفترض فيها التكفل بمهام التنمية الجهوية. وبطبيعة الحال وفي سياق العسر المالي لخزينة الدولة والانحسار الاقتصادي الذي كان يعيشه المغرب وهو يخضع لسياسة التقويم الهيكلي لم تكتب لأريحية الخطاب حول إعداد مقومات التنمية الجهوية أدنى حظوظ النفاد إلى الواقع... ومع ذلك فلا يمكن إنكار مساهمة هذا الخطاب في تحضير نموذج جهة 1997.
التردد والطابع الشكلي لإعلان الجهة مع سياق دستور 1999
يبرز تحليل الدينامية الاجتماعية والاقتصادية على مستوى كبريات جهات المغرب ترسخ النزعة نحو تركز مجالي متعاظم منذ الاستقلال. وإذا كانت هذه حقيقة من ضمن الحقائق التي تكتشف بالمغرب من حين لآخر فهي لم تتجاوز تحصيل الحاصل ولم تستنفر في اتجاه مواجهة حازمة وممنهجة لمواجهة مخاطر الاختلالات بين الجهات وما يصاحبها من مظاهر الإقصاء الاجتماعي وتبعات تردي الوضع التنافسي للجزء الأكبر من البلاد. ومن المعلوم أن هذه النتيجة ربطت أكثر بمصدر وحيد يتلخص في كون جهات المغرب التي تشهد واقع «التخلف الجهوي» جهات تعاني من وضع تبعية مطلقة للتقلبات المناخية من جهة ولخصاص مهول في ميدان التجهيزات من جهة أخرى. فنادرا ما كانت العوامل ذات الطابع السياسي والمؤسساتي تقدم على أن لها دورا حاسما أو محددا للوضع الجهوي العام بالمغرب.
ومع قبول مركز السلطة بالمغرب بمطلب دسترة الجهة ضمن كشكول المطالب السياسية والمؤسساتية التي كانت تتعبأ حولها المعارضة آنئذ والمتمثلة في الكتلة الديمقراطية، يكون المغرب قد قطع شوطا جديدا في اتجاه إعمال الجهوية. لكن التقدم الحاصل بموجب الفصل 100 من دستور 1996 والذي ترجم مباشرة في قانون 1997 لم يشكل سوى أحد المداخل الشكلية لما سيسمى بالتناوب التوافقي. فهو مجرد مدخل شكلي لأنه استجاب إسميا لأحد المطالب المرتبطة بتجاوز انحسار تجربة اللامركزية دون أن يقدم أي شيء لتجاوز ما انتهت إليه تجربة الجماعات المحلية منذ 1976 من نقائص في تحسين محيط عيش السكان ومن الاختناقات التي علقت بمشروع إطلاق مسلسل حقيقي وملموس للتنمية المحلية.
منذ 1997 عرف المغرب تجربة صيغة جديدة للتنظيم الجهوي، وانضاف إلى هرمية تنظيمه الإدراى مستوى جديد هو المستوى الجهوي دون أن يسفر ذلك عن تحريك لنمط اللامركزية المتبع في اتجاه تدبير ديمقراطي للجماعات والأقاليم أو أن يدفع نحو تغيير في علائق مركز السلطة بالهوامش والحواشي. فرئيس الجهة منتخب بنمط اقتراع غير مباشر كأسلوب يدفعه للحفاظ على توازنات لا ترفعه إلى مستوى الشخصية التي يمكن لها أن تزعم أو تدعي مشروعية ما داخل الفضاء الجهوي وإزاء الوصاية الإدارية. فلا هو بآمر بالصرف ولا هو بمصدر لبلورة سياسة أو استراتيجية تنموية مستقلة. والمجلس الجهوي المنحدر من هيآت مختلفة لا مشروعية له ولا نفوذ غير ما يتوافق مع برامج الولاية والأقاليم والعمالات المنضوية داخلها. وهي حدود تزداد مع طبيعة النخب وكيفية انتقائها ومراقبتها من طرف الهيآت التي ترشحها لتولي تدبير الشؤون المحلية و الجهوية.
ففي غياب سياسة لاتمركز فعلي وغموض توزيع المهام والمسؤوليات بين المركز وأطرافه ومع التردد الذي ينتاب محاولات إصلاح مسلسل اللامركزية ستعدم الجهة كل مرتكز نحو الفعالية. فسؤال الجهوية مازال يراوح مكانه سواء قبل ربطها بآفاق الحكم الذاتي في أقاليم الصحراء المغربية أو بعد ذلك وإلى حين الإعلان عن تكوين لجنة عهد لها ببلورة «جهوية موسعة». فالبحث في حد ذاته عن صيغة مغربية للجهوية يعني أن التجربة الجارية مطالبة بالانتقال إلى مرحلة أخرى لضمان تجاوب سيرها وأسس تدبيرها مع مستلزمات مغرب الألفية الثالثة. فهل ستكون المرحلة الثالثة في تجربة الجهوية بالمغرب مرحلة تدشين مسلسل فعلي لدمقرطة تدبير الشؤون الجهوية ولتفعيل قدرات الجهات وإحكام توزيع العمل بينها في اتجاه الارتقاء بتنافسية البلاد وهي تنفتح بشكل متنامي على عالم لامتناهي التحولات؟
كما يقول المثل المحاولة الأولى هفوة فتجاوز والثانية فلتة فعذر والثالثة محاسبة عسيرة. فهل ستكون المحاولة الثالثة لبناء مشروع جهوي «موسع» محاولة منتجة؟؟ لعل تكوين لجنة لهذا الغرض خصيصا يتجه نحو اعتماد أسلوب جديد في بلورة مقومات مشروع جهوي مغربي يقطع مع المشاريع السابقة؛ مشروع يتخذ من التنمية أفقا ومن الدمقرطة الفعلية مرتكزا.
الجهوية...
وأسئلتها الكبرى
1 - أين تكمن اختناقات تجربة الجهات بالمغرب؟ أهي مرتبطة بضعف سياسة اللاتمركز أم بانحسارات مسلسل اللامركزية؟؟ أم هي نتيجة للمنطق العام لحكامة البلاد؟
2 - هل نضجت فعلا مقومات الانتقال نحو جهوية تنظيم الدولة والمجتمع بالمملكة المغربية؟
3 - من أي منطلق يمكن ضمان نجاح إصلاح تجربة الجهة بالمغرب، من اعتبارات إغناء حركية المشهد السياسي أم من مستلزمات إذكاء دينامية مكونات الاقتصاد الوطني أم من معضلات تجاوز نكوص الإدارة الترابية وتكلسها؟
4 - كيف يمكن تحضير الانتقال نحو ممارسة جهوية منتجة والمغرب لازال لم يحسم في طبيعة ونوعية علاقات مركزه بمحيطه وهرميات هوامشه؟ هل هناك مشروع إصلاح مؤسساتي موازِ للدمقرطة الترابية للملكة؟
5 - ما هو الوضع المرتقب للجهوية الفعلية على مستوى اختصاصات التراتبية الترابية بدءا بالجماعة فالإقليم-العمالة قبل الولاية ثم الجهة؟؟
6 - كيف يمكن للمشروع الجهوي أن يؤسس لتوزيع ترابي للعمل يضمن تأهيل التراب الوطني ككل من منطلق التضامن الفعلي بين الجهات واستسواء شروط العيش والارتقاء الاجتماعي داخلها ؟
7 - ما هي نوعية الأهداف المعبئة نحو استنهاض وعي مواطني بصلاحية المستوى الجهوي كمستوى لتدبير شؤون معينة ومستوى فعلي لتنفيذ برامج تخدم تقدم محيط العيش والعمل والحياة؟
8 - هل هناك قرار أو توافق لتجاوز معضلات التقطيع الترابي والابتعاد بمشاريعه عن هواجس المراقبة وصنع الخرائط الانتخابية؟
9 - من أي منطلق ستتحمل مكونات المشهد السياسي مسؤولياتها لإفراز وتكوين ومراقبة النخب التي يتطلبها تدبير الشأن الجهوي؟
10 - هل ستنحو اللجنة المكلفة بإعداد مشروع الجهوية الموسعة نحو إجراء حوار وتشاور وطني صريح يلغي ضغوط البحث عن التوافق بأي ثمن؟ و هل ستغلب هذه اللجنة مستلزمات المرحلة لتجاوز هواجس التدرج والإجماع الشكلي الذي يكرس الركود؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.