رئيس مجلس النواب يجري مباحثات بالرباط مع المدير العام لمنظمة العمل الدولية    المعارضة البرلمانية تعدد "إخفاقات" الحكومة وتشتكي "التضييق والتغول"    وهبي.. المغرب على استعداد تام لدعم إحداث الشبكة الدولية للآليات الوطنية للتنفيذ وإعداد التقارير والتتبع في مجال حقوق الإنسان    توقيف خمسة أشخاص للاشتباه في تورطهم بترويج الأقراص المهلوسة في كل من القنيطرة وطنجة    الأمثال العامية بتطوان... (593)    منظمة العمل تشيد بالحماية الاجتماعية    الزمالك يعترض على حكام مباراتهم أمام نهضة بركان    الإضراب يصيب مستشفيات المملكة بالشلل.. والنقابات تستعد لتصعيد أكبر    ارتفاع حصيلة وفيات التسمم الغذائي بمراكش    الفيلم الأمازيغي "قارب الحب" يحصد جائزتين بمهرجان الدراما بمكناس    الأغلبية البرلمانية تنعت حكومة أخنوش ب"الصمود" وتنوّه بمنجزات نصف الولاية    "إذا هوجمت رفح، لن يكون لدى نتنياهو ما يقدمه في إدارته للحرب" – الإندبندنت    المؤرخ برنارد لوغان يكتب: عندما كانت تلمسان مغربية    دالاس.. تسليط الضوء على مؤهلات المغرب، القطب الاستراتيجي للاستثمار في إفريقيا    في كلمة مثيرة للجدل.. الرميلي تدافع عن موظفة رفض امهيدية تزكيتها    إيقاف سائق "تريبورتور" متهور عرّض حياة الناس للخطر بالبيضاء    رغم تراجع ظاهرة إل"نينيو".. تسجيل درجات حرارة قياسية حول العالم في أبريل الماضي    زمن الجراح.. من الريف السامق إلى الحوز الباسق    زياش يقرر رسميا البقاء في نادي غلطة سراي التركي    الذكرى 21 لميلاد مولاي الحسن.. مسار أصغر ولي عهد في العالم من المدرسة المولوية إلى الأنشطة الملكية    أسترازينيكا تعلن سحب لقاح كورونا من الأسواق    جلالة الملك يستقبل الأمير تركي بن محمد بن فهد بن عبد العزيز آل سعود مبعوث خادم الحرمين الشريفين حاملا رسالة لجلالته    حقيقة انفصال صفاء حبيركو عن زوجها    اكتشاف مقبرة جماعية ثالثة وانتشال 49 جثة من مجمع الشفاء في غزة    المغرب يزيد من طاقة إيواء السجون ب 5212 سريرا في إطار أنسنة ظروف الاعتقال    1.5 مليون شاب مغربي لا يعملون ولا يدرسون.. الشامي: رقم مقلق    الرياض توافق على مذكرة تفاهم مع الرباط    بورصة البيضاء تستهل التداول بأداء إيجابي    برنامج متنوع للنيابة العامة بمعرض الكتاب    توقيع اتفاق تعاون بين الإيسيسكو وليبيا في المجالات التربوية    الحرارة تتجاوز المعدل الموسمي بالمغرب    محاضر جرائم الأموال تؤرق مسؤولين ومنتخبين بتطوان    منصة "إفريقيا 50" تشيد بالتزام المغرب تحت قيادة الملك محمد السادس لفائدة التنمية بإفريقيا    طنجة.. ربيع جاكاراندا للمسرح المتوسطي يحتفي بتنوع الثقافات    الرباط: يوم تواصلي تحسيسي لفائدة مرضى التهاب المفاصل الروماتويدي    السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية    وسط استمرار القلق من الآثار الجانبية للقاح «أسترازينيكا»..    السعودية تفرض عقوبات على مخالفي أنظمة وتعليمات الحج    لوحة الجمال والعار    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    سلا تشهد ولادة عصبة جهوية للألعاب الإلكترونية    تشكل موردا ماليا ل 13 مليون فرد وتشغل 40% من اليد العاملة.. الفلاحة في المغرب أمام تحديات كبيرة    2026 هو موعد تشغيل محطة تحلية المياه بالدارالبيضاء    مشاركة البطل الطنجاوي نزار بليل في بطولة العالم للقوة البدنية بهيوستن الأمريكية    الركراكي مدربا جديدا لسريع واد زم    منتخب الصغار يواجه كرواتيا وإنجلترا وأمريكا    ياسمين عبد العزيز تصدم الجميع بحديثها عن طليقها أحمد العوضي (فيديو)    بعد ضجة آثاره المميتة.. "أسترازينيكا" تعلن سحب لقاح كورونا من الأسواق    سحب لقاح "أسترازينيكا" من جميع أنحاء العالم    "من المهم أن تفهم أن آخر شيء أريد فعله هو وضعك في السجن"    نور الدين مفتاح يكتب: ثورة الجامعات    بطولة انجلترا: رفض استئناف نوتنغهام بشأن عقوبة خصم 4 نقاط من رصيده    بطولة انجلترا: ثياغو سيلفا ينضم إلى نادي بداياته فلومينينسي في نهاية الموسم    وقفة تضامن في الرباط تحذر من إبادة إسرائيلية جديدة متربصة بمدينة رفح    غلاء دواء سرطان الثدي يجر "السخط" على الحكومة    وفد من حركة "حماس" في "القاهرة"    وزارة الداخلية السعودية تعلن تطبيق عقوبة مخالفة أنظمة وتعليمات الحج    الأمثال العامية بتطوان... (591)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في مجموعة «جزيرة زرقاء» لسعيد منتسب جدل الكتابة والمحو
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 14 - 01 - 2011

تحفل المجموعة القصصية «جزيرة زرقاء» بعدة تقنيات سردية يتصدرها الحكي المبتور والمكتفي بالتلميح غالبا.رهان يعتمد استراتيجية المحو التي تتوسل تقنية جبل الجليد الذي لا يظهر منه إلا عشره والباقي مغمور في المياه..فضلا عن تقنية التعجيب السردي والتي تقدم الأحداث خارج نطاق المنطق والعقل..عدة حكائية استثمرت لعرض تيمات في غاية الحساسية وعلى قمتها المحظور الجنسي والسياسي وما شابه من خلال وضعيات درامية تحتمل أكثر من معنى تاركة المتلقي منذورا لملء الفجوات والبياض، دافعة به للحفر المضني عن الدلالة في كل الاتجاهات قصد تلمس وعي الأبطال وتجلية نمط إدراك الشخوص للذات وللعالم. يقول بيير ماشيري في هذا السياق:»إن العمل الأدبي لا يرتبط بالإيديولوجية عن طريق ما يقول،بل عبر ما لا يقوله،فنحن عندما لا نشعر بوجود الإيديولوجية نبحث من خلال جوانبها الصامتة الدالة التي نشعر بها في فجوات النص وأبعاده الغائية، هذه الجوانب الصامتة هي التي يجب أن يتوقف عندها الناقد ليجعلها تتكلم» (1).
إن المحو باعتباره إسقاطا للتفاصيل وتكثيفا للخطاب في قصص سعيد منتسب لا يمكن اختزاله إلى وظيفة جمالية صرفية بقدر ما يضمر بعدا أطروحيا يؤشر على المقموع والمغيب عنوة. فالخطاب الممحو يقتضي ماح متسلط يقبع في خلف الصورة وسياق قمعي أنتج فعل المحو.قمع يخفي بالجوار سلط متربصة ولا حصر لها..والكشف عن هذه الأحواز قمين بتجلية حجم الكبت والإحباط وسعة القمع..علما أن مجمل أبطال هذه الأضمومة قدموا مشلولي الإرادة بل ومخدرين أحيانا إما بفعل قمع خارجي وموضوعي أو بفعل داخلي استأسد بفعل التنشئة الاجتماعية والتي تربي الفرد أحيانا على طأطأة الرأس وكبح للرغبة الأمر الذي يجعله فريسة المعاناة والخيبة والشقاء..
1-عتبات المجموعة: أ-عتبة العنوان: جزيرة زرقاء: الجزيرة كفضاء تؤشر عادة على ذاك الحيز المشمول بالهدوء والوداعة، مكان للفطرة والوعي الأولي للإنسان..ونستحضر في هذا المقام»حي بن يقضان»لابن طفيل..الجزيرة كذلك فضاء لتحقيق الأحلام والرغبات المنفلتة باستمرار ،ونحيل هنا على الأمواج التي حملت»أشيل»إلى الجزيرة البيضاء حيث ارتبط ب»هلين»وعاش حياة رغدة بعيدا عن تطاحن وصراع المدينين.بل إن الجزيرة في مجمل الثقافات البشرية تحمل دلالات ايجابية إلا في ما ندر. ففي الثقافة اليونانية ينتسب «زيوس» اله الآلهة إلى جزيرة مقدسة تحسب على الأماكن الخارقة كما تمثل شبه الجزيرة الايبرية فردوسا مفقودا للبعض بل ووجهة الشباب الإفريقي الحالم بالمجد والثراء..جاء في معجم الرموز»الجزرة هي المكان الذي لا نصله إلا بالطيران أو العوم.هي رمز لمركز روحي وبشكل أدق مركز روحي أزلي.»(2) أما اللون الأزرق المسند للجزيرة فهو أعمق الألوان، بالنظر إليه تتعمق الرؤية ونضيع في اللامتناهي..لون شفاف وكأنه فراغ مجمع. الأزرق كذلك هو أبرد الألوان وأكثرها صفاء خارج الفراغ المطلق للأبيض المحايد. الأزرق من زاوية ثالثة ينزع البعد المادي عن كل الأشياء الحاملة للونه فحائط أزرق مثلا يتوقف عن كونه حائطا. أقصد أن الأشكال تضيع في الزرقة وتغرق ويغمى عليها كعصفور أزرق في السماء. الدخول في الأزرق هو تقريبا الذهاب والإقامة في الجانب الآخر من المرآة. الأزرق هو طريق الحلم ، معه التفكير الواعي يترك مكانه شيئا فشيئا للاوعي..وبخلاف كل هذا يأخذ اللون الأزرق في الثقافة الشعبية صفة سالبة.فالوجه الأزرق هو كناية على كائن يتوجه نحو الموت..وبين الدلالة الأولى والثانية توزعت دلالة قصص هذه الأضمومة.
عتبة لوحة الغلاف:
ب- يمتد لون زرقة الجزيرة للوحة الغلاف حيث يحضر اللون الأزرق في شكل عريضة قائمة تتقاطع أفقيا وعريضة رمادية.في الثلثين السفليين من غلاف الواجهة تحظر لوحة عبد الكريم الوزاني.لوحة تعطي الانطباع وكأنها حائط متشقق به تصدعات عدة..حائط نبتت بوسطه ورقة صبار حمراء شائكة تنبئ المتلقي بفعل وخز محتمل.وهو بالفعل ما يقع عندما ننتهي من قراءة جملة من قصص هذه المجموعة المختومة إما بالانتحار أو الجنون،الانتقام أو الخيانة وما شابه من التيمات الدرامية..
2- شعرية المحو أو قانون الندرة والتلميح:يقوم السرد المسهب والتفصيلي أحيانا بفعل خنق الحكي لأنه يحد من فعالية خيال القارئ جراء استبداد السارد بالكلمة..سارد يريد أن يقول كل شيء..وبخلاف هذا فالحكي المشبع بالحذف والمحو،سرد صحي لأنه مناقض للاسترخاء والطمأنينة..فهو يحفز القارئ على ملاحقة امتدادات الخطاب ويتطلب يقظة قصوى من لذن السارد ومن خلفه القاص في قول ما يجب قوله فقط..وسرد مماثل هو بالذات ما يجعلنا نعيد النظر في قيمة الفراغ الجمالي للكتابة وقانون الندرة ومناطق الهمس والصمت.فالقص الذي يراهن على الحذف والمحو والبياض يستطيع من جهة تحرير المعنى من سجن المكتوب ومن جهة ثانية تشتيته على المحذوف والمغيب وتخليصه من سلطة تطابق النص المكتوب مع المرجع.علما أن هذا التطابق مبتغى مستحيل التحقق.إن محو التفاصيل وإسقاط الكثير من الأحداث أصبحا إحدى آليات اتساع النص وبات الحديث عن سمك الخطاب بدل طوله. ففي قصة «موعد»مثلا (ص7) كانت نصف ورقة من الحجم المتوسط كافية للسارد كي يفتح لنا شرفة على سيرة الفقدان التي تتلبس حياة الإنسان المعاصر. جمل سردية على قلتها فتحت جراح الألم جراء إخلاف البطل موعد التصالح مع نفسه.فباتت حياته مليئة بالثقوب والغياب حيث حاول استعادت زمنه الجميل دون جدوى..الأمر الذي جعله أسير التذكر والاستيهام عله يعوض ذاك الغياب الفادح لشخوص تسكن قرارة وجدانه. فسارد قصة»موعد» يسترجع عشرين سنة من خلال فعل التذكر في أقل من سبع جمل..علما أن فعل التذكر فعل تراجيدي لأنه ينعي الأنا المتذكرة والتي توفت في زمن مضى وانقضى محاولا إحياؤها دون الاهتداء إلى ذلك.إذ يجد السارد نفسه في نهاية القصة مرتهنا للفراغ والغياب.يقول السارد في ص7:»لمحتها واقفة في محطة الحافلة.فرفر قلبي واهتز كياني وهاجمتني الذكريات(...)دخلنا الجامعة بأحلام تهز الجبال.خرجنا منها بهموم واسعة وأثقال(...)كانت تنتظر الحافلة»هل أكلمها؟»»هل تذكرني؟»(...)أكملت طريقي،كأني أعوم في بحيرات من القطن.تجاوزتها بمأتي متر دون أن ألتفت.فجأة قررت أن أحدثها.استدرت.قطعت المسافة ركضا.كانت المحطة فارغة.وحدها الشمس كانت تزغرد.وحدي كنت ألملم نفسي » هل لمحتها فعلا ؟ »
إن قصص بهذا التكثيف تضعنا أمام مفارقة حقيقية وهي قصر الحجم الكمي مع القدرة على احتواء قضايا كبرى وأسئلة مركبة من قبيلة سؤال المصير والمآل والهوية و الوجدان..قصص تعري الأحشاء وتفتح الجراح والندوب ومن ثم تعمق إحساسنا بماهية الحياة.قصص توحي أكثر مما تحيل وترمز أكثر مما تصرح وبسبب ذلك توفقت في استغوار مناطق معتمة في قاع الوجدان..إن اعتماد المحو على إسقاط التفاصيل والأحداث الثانوية يولد خطابا مكثفا بالغ السمك الأمر الذي يجعل المدلول أكثر امتدادا من الدال.فضلا عن كون تقنية المحو تسرع من إيقاع السرد وتشرك المتلقي في ملأ الفراغات والفجوات الدلالية.كما تكسب الخطاب نكهة شعرية.لنتأمل قصة «العاشقان» التي تختزل تعارض مسار الرجل عن المرأة جراء اختلاف وجهة نظر كل واحد منهما حيال العلاقة العاطفية في جمل غاية في الكثافة.يقول السارد في ص63:»بسمة فوق الخد،اليد ترتاح على اليد،فنجان القهوة يراقص عصير الليمون،يعانقه يتهامسان.قال لها:أحبك./قالت له:متى نتزوج؟/ قال: أحب عطرك،عطرك جذاب./قالت متى نتزوج؟/نظر مليا في عينيها،ذابت البسمة وارتخت اليد.فنجان القهوة بارد.عصير الليمون ساخن.هبت الأقدام..وانتشرت الظلال..»إن اكتفاء القاص بهذه اللقطة السريعة والمنتزعة من صيرورة حياة الإنسان حتمت عليه محو الكثير من الجزئيات والتفاصيل إلى حد أن المفردة الواحدة أضحت تلخص موقف المرأة من الرجل وتفصح عن للاوعيها الراغب أشد ما تكون الرغبة في شرعنة الارتباط به ..بخلاف الرجل الذي نشبت بمفردة الحب في مجمل أجوبته وكأني به يؤمن»بأن الحب قل ما ينشأ بين متزوجين بخلاف حب العاشقين اللذين يهبان بعضهما كل شيء طوعا واختيارا بعيدا عن تأثير كل ضرورة أو قسر، أما الزوجان فهما ملزمان بحكم الواجب أن ينزلا نزولا عند رغبات بعضهما وألا يضن أحدهما بشيء على الآخر.»(3)
نخلص من هذه القصة الممحوة التفاصيل إلى تقابل دال جدا بين مفردة حب وزواج.تقابل يفقد الحب عنفه وزخمه إلى حد يمكننا الخلوص إلى أن الحب المتوج بالسعادة لا يلهم بخلاف الحب المختوم بالنهايات التعيسة..وهذا النمط من الحب وحد القادر على إدخال أصحابه لصفحة التاريخ ولعل علاقة كيلوباترا بمارك أنطوني تصلح مثالا لهذا التعالق فضلا عن عشق آنا كارنينا لفرونسكي في رائعة تولستوي.
3- كثافة القصة الومضة من كثافة الحلم: يتصف الحلم عادة بلغته اللعوبة والمتلفعة ورموزه الزئبقية..عدة سردية مركبة تقول شيئا وتعني شيئا آخر، لأن الحلم في الأصل خطاب مكثف ورمزي وشذري-يشبه تماما القصة الومضة-الأمر الذي يجعل معناه منفلتا وهاربا باستمرار وهذا ما يستدعي تأويله..إن كثافة الحلم ترجع لضيق زمنه قياسا وكثرة الرغبات الواقعية المعلقة.فضلا عن كون الحالم يلعب دور الممثل والكاتب والجمهور والناقد في ذات الآن .فقط هذا لا يعني أن الحالم يتحكم في حلمه،بل العكس هو الذي يقع..علما أن ثمة تعالق بين المحفزات الواقعية أو البقايا النهارية وما يتم استدعاه ابان أحلام النوم.وكأني بالحالم يود تصفية حسابه بما ظل عالقا في حالة اليقظة.يقول السارد في قصة»جريمة»ص11:»ينتظرهافي المقهى.ساعة .ساعتان.لم تأت.ينتظرها في البيت.ساعة.ساعتان.ليلتان.لم تأت.نام وجدها في حلمه جثة هامدة.أفاق السكين في يده.وبقايا عتاب ودم.» توحي نهاية هذه القصة أن الحرمان يقف خلف الحلم كما الكتابة.علما أن اشتغال الحلم على الرموز يعود بنا لطفولة البشرية حيث كانت لغة الكلمات في طور التشكل وكان التواصل بالرموز هو السائد ...إن امتشاق البطل للسكين في حلمه- وهو رمز الاختراق والقوة- يحيل على الرغبة في استرداد فحولة مهيضة ومحبطة جراء غياب اللقاء وبقاء البطل في حالة انتظار مؤذ ومذل.لكن هل يمنكننا هنا اعتبار هذا الإشباع الهلوسي للرغبة نوعا من البحث عن التصالح مع الذات كيف ما اتفق ؟ أم أن هذا الحلم يمثل إحدى تجليات الأنانية المطلقة؟علما أن الحلم في نهاية الأمر ما هو إلا أحد مرودي الرغبة المتمنعة وصنمية الواقع.غايته الكبرى هي الانفلات من صرامة الالتزام و المسؤولية بغاية إبرام صك صلح مع رغباتنا المجهضة.يقول فردريك كوسان:»يعتبر الحلم رمز المغامرة الفردية الضاربة بعمق في حميمية الوعي الذي يهرب عن صانعه بنفسه.فالحلم يبدو كما لو أنه التعبير الأكثر سرية والأكثر خصوصية لأنفسنا»(4) إن احتفال شخوص هذه المجموعة بالحلم ناتج على خلفية وعيهم بصنمية الواقع لأنه يمثل زمن تحقق الرغبة ويمنح صاحبه فسحة النيل من الواقع الجارح.إذ أن التوجه للحلم وان كان لا إراديا فهو دليل قاطع على وجود جرح خلفه وسبب هذا الجرح هو الواقع بالذات.وبالتالي يمكن اعتباره لحالم كائنا جريحا لا يلبت يتهرب من تقرحاتها التي لا تبرأ أبدا.الأمر الذي يجعل الحلم مرآة كبرى تعكس الرغبات من جهة أولى ومن جهة ثانية تعكس الكدمات و الأعطاب التي تفوح منها رائحة نضج الرغبة على نار اللاشعور.يقول سارد قصة»أحضان»ص39:»الدمية الجميلة تضحك،لا تسدل العيون/كانت تحلم في حضن الصبية.ضحكت الصبية الصغيرة،كانت تحلم في حضن أمها.ضحكت، المرأة،كانت تحلم في حضن زوجها ضحك الرجل،باتت في خياله امرأة لا تشبه زوجته.»نستشف من هذه القصة المكثفة أن سائر شخوصها يعيشون في حلم يقظة مسترسلة. والقول بأن الفرد يعيش حالة حلم يقضه أو نوم يفيد أن ثمة قمع وكبت في الجوار جراء وجود رقيب معين.مع وجوب الإشارة إلى أن حلم الرجل كان معبأ بشحنة عاطفية متوترة بدا كما لو أنه نزيف قواه موضوع الرغبة المبعد.وهذا ما يعطي للحلم هذه القوة السحرية في اختزال الأزمنة والأمكنة واستدعاء البعيد و يتوفق عادة في خلق توازن بين الكائن والمأمول .الأمر الذي يجعلنا نعتبر الحلم هو أسطورة الفرد بينما الأسطورة هي حلم الجماعة.يقول فرويد:»في الغالب يشمل محتوى الأحلام شخصية أو قيمة غائبة وهذا الغياب هو ما يستدعي التأويل والربط بين عناصر الحلم المتناثرة.»(5) لكن ألا يمثل العنوان مفارقة مع نهاية القصة؟أقصد هل يمكننا الحديث عن حضن دافئ للرجل وهو يعيش في غربة عن من يحلم بها؟ وهل هذا يعني أن الحرمان بالضرورة منتج لبذرة الحلم؟أم أن الرجل يظل مسكونا بصورة الأم مدى الحياة ويقضي عمره في البحث عن شبيه لها دون جدوى ليمسي تاريخه الوجداني لعبة هروب كبرى من امرأة إلى أخرى إلى ما لا نهاية.لنتوقف عند هذه القرينة القصصية من قصة «فيض»( ص69):» قالت له «تعال تنام»أعطى وجهه للحائط اقتربت منه انكمش مثل القنفذ تلغم وجهها..»إن انكماش الرجل يذكرنا بوجهة نظر فرويد الذي يعتبر «النوم من وجهة النظر الجسمانية .استذكار للإقامة في جسم الأم وتحقيق لبعض شروطها الوضعية الساكنة،الدفء،والابتعاد عن التنبيهات،بل كثيرون هم الأشخاص الذين يتخذون أثناء رقادهم وضعية الجنين البدئية.وتتسم حالة النائمين النفسية الانسحاب شبه كامل من العالم المحيط وبإلغاء كل اهتمام به.:(6) لكن إذا كان التوجه للحلم هو في العمق خيار لمراوغة العجز الواقعي واستبدال الحرمان بالإشباع ولو بالقوة قصد ترميم نذوب الذات ورثق جروحها اللامتناهية..فانه بالموازاة لكل هذا مخرج سلبي ومخادع لطبيعة الصراع..بحيث لا يعدو كونه إشباع زائف لرغبة حقيقية وتحوير لصراع ينبغي أن يحسم على أرض الواقع..فالاكتفاء بتحقيق الإشباع على مستوى الحلم يجعل من الواقع يبقى على ما هو عليه..وبالتالي قبول الحالم بالاختلال والاستمرار في التنازل عن حقه في عيش سوي.يقول السارد في قصة «نسيان» ص71:»بالأمس كان يدخل غرفته التي لا تدخلها الشمس.يستلقي على الفوتي القديم.يقرأ القصص والروايات،يحلم بعروس جميلة ومرتب ضخم وبذلة رائعة.الآن،يدس يده في جيبه،يخرج المرتب الهزيل،يشتم فيه رائحة العرق(...)لم تعد له غرفة(...)يعمل مثل بغل(...)لم يعد يحلم.كان مشغولا جدا بعلب الحليب والقماطات والنسيان.» نخلص من هذه المقاربة إلى أن أهم سمات الكتابة الممحوة التفاصيل هي اعتمادها على المفردة كوحدة سردية بدل الجملة،الأمر الذي يجعلها تتقاطع وكثافة الشعر.إذ أن المفردة تصير ذات إيماءات متعددة حيث يهيمن البعد الاستعاري في الكتابة وهذا يمنح المتلقي فسحة أرحب للتأويل.كما أن الرهان الجمالي للمحو بالمعنى أعلاه ينتج لنا كتابة مرتهنة في الغالب للتأمل الفلسفي العميق.فأن يكتب القاص وهو يمحو الكثير من تفاصيل سروده معناه أولا تكثيف قصه وتضعيف دلالته وثانيا فتح عبارته على هوامش وبؤر عميقة من المعاني المسكوت عنها.كتابة تتأسس على خلفية اكتفاء السارد بالتلميح وفق ألاعيب السرد وتقنياته ومكر اللغة وتكتمها...
إحالات:
(*)جزيرة زرقاء »سعيد منتسب- قصص-منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب-2003.
1-نقلا عن مقالة»الإيديولوجية في الرواية »لعبد الجليل الأزدي- مجلة علامات.العدد 7/1997-مكناس المغرب.ص103/104.
2-Dictionnaire des symboles-Gean chevalier. Alain cheerbrant.edition1982.p519.
3-طوق الحمامة-ابن حزم.تحقيق الأستاذ حسن كامل الصيرفي.المكتبة التجارية القاهرة.1968-ص6
4-Dictionnaire des symboles..p519. -
5- le rêve et son interprétation .Sigmund Freud .traduit de l allemand par Helene Legros .Gallimard.1925-p47.
6-علم ماوراء النفس-سيغموند فرويد-ترجمة جورج طرابشي.دار الطليعة بيروت1979-ص95.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.