1 توفي الوالد في غشت 2003. عم النواح البيت، بينما أنا في مقهى تافيلالت، أو ربما في حانة التجار. تسلل ملك الموت إلى المنزل الكائن بزنقة فرنسا في الجديدة، لكن بوشعيب، بمفرده، يعرف من كان يرافق عزرائيل حاملا الأكفان والحنوط: ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ احتسى "البوگادو" كأس المنية هذه المرة. تهشمت متاريس الصمت السميكة التي ظل الجد يقيمها داخل البيت، وأصبح عويل نسوة آل العبادي سيد الموقف. أحتسي فنجان قهوة كنتُ يومها، أو تراه كأس جعة، برفقة كافكا في غشت ذاك. لم يولد لدي خبر الموت الغثيان لأنه لم يكن قد وصلني بعد. فرانز هو من فعل ذلك. في مطلع غشت سابق عن غشت دفن الأب، انزوى كافكا في غرفته كعادته ليلخص لحظات يومه في كلمات منتقاة خطها على إحدى صفحات كراسة مذكراته. اقتصد في الكلمات أكثر مما يطاق ليصفعني: "1 غشت 1914: ألمانيا تعلن الحرب ضد روسيا... قضيت زوال اليوم في المسبح". لا تعليق. لا سؤال. لا موقف! لغة مقتضبة، صقيعية، محايدة! كأن كافكا لم يكن معنيا بآثار فاجعة حدس الجميع أهوالها لحظة إعلان الرايخ الرابع الانخراط في رحاها. وطوال سنوات المجزرة الأربعة، سيظل فرانز منزويا في غرفته، غير مبال بالدم، الغائط، الوحل، التراجيديا... سيظل يلهث خلف الشبح المضلل ل"الكتابة رغم كل شيء، كيفما كان الثمن"، كتابة تغتال الإنسان ثانية بعد أن فرضت عليه جهنم الحرب الموت "مثل الذباب" بقرار من معتوه. لوكنت مكان كافكا لما ذهبت إلى المسبح زوال فاتح غشت ذاك، لأنه لا أحد يذهب إلى المسبح في رحم المطر، والحرب دائما "مطر دماء ودموع" (جاك بريفير)... لكنت أعلنت "الحقائق المطلقة" مع فيكتور هوغو قبل أن أتقيأها في وجه "المسخ": "لنمرغ شرف الحرب في الوحل. لا، ليس ثمة مجدٌ دامٍ. لا، ليس ثمة فضيلة للجثث ولا مبرر لخلقها. لا، لا يمكن للحياة الفعلَ من أجل الموت" وزوال غشت السفر الأخير للأب الذي كان دائم الترحال، لن أذهب أيضا إلى المسبح. بل إلى المقبرة. شرط أن يخبرني أحد أن الوالد توفي اليوم. 2 والبحر من ورائك، والعدو أمامك، لم يكن لك اختيار آخر غير نعي الوالد. رغم أن عدوك لا يستحق التعامل معه وفق وصيتي باولو كويلهو: "سنحب أعداءنا، لكننا لن نتحالف معهم أبدا. لقد وُضعوا في طريقنا لاختبار سيوفنا، ولذا، فهم يستحقون الاحترام خلال معركتنا ضدهم" و"سنختار أعداءنا"؛ ورغم أن البحر خلفك ليس بحر بودلير: " أيها الرجل الحر، سوف تعشق البحر دائما!/ البحر مرآتك؛ تتأمل روحك/ في التموج اللا ينتهي لموجته العارمة/ وروحك ليست هوة أقل مرارة"؛ فخطاك ستقودك، كل جمعة وكلما حل السابع والعشرون من رمضان أو عاشوراء، إلى قبر من دبجت نعيه في جرائد ومواقع إلكترونية لا تعتبر الموتى جديرين بالاحترام خارج ركن التعازي. 3 "التعازي في صفحات الجرائد مثلها مثل طوابع البريد، تقول الكاتبة الاختصاصية في علم النفس سولانج لابيريير، الكثير منها يشبه بعضه البعض، لكن جزءا منها استثنائي، شاعري، ملون، خارج عن المألوف ويحاور القارئ. لنتأمل هذه التعزية: "شارل أورليان، الناحت، عبقري الحياة، الغزير الإبداع، النصف-شيطان، شارل يرقد اليوم في مياه كانوطا الوحشية. يتحدث هناك مع زوجته كارول، والإزميل في يده باستمرار. سلم، حب وحرية". لنتوقف أيضا عند "رثاء" آخر: "تكريما لجون-كلود. أعرف، للأسف، أنك لن تقرأ هذه الزاوية بمرح وروح نقدية مثلما كنت متعودا على ذلك، هذه الزاوية حيث "يستمر الموتى في القبض على الأحياء". لكنني رغبت في توجيه تحية صداقة إليك، تحية لن تكون الأخيرة بكل تأكيد". ومن بين التعازي الأخرى التي توردها سولانج لابيريير، هناك "النعي" التالي: "أجل، إنها نهاية الطريق... القراب يصطدم بجوانبي... الأرض صلبة للغاية، هذا جميل، جميل، جميل... إنه مشهد خراب رائع... لقد غادرنا أندري مانيج يوم 12 شتنبر"."