يقدم لنا الأستاذ أحمد الإبريزي، من موقعه كأحد أقارب الشهيد محمد الزرقطوني، الذي عاش معه في ذات الفضاء العائلي بالدارالبيضاء، ثم كأحد رجالات الوطنية والنضال النقابي، هنا تفاصيل قصة حياة الشهيد محمد الزرقطوني، كما خبر تفاصيلها عن قرب. أي أنه شاهد لسيرة حياة، وشاهد لمغرب يتحول منذ الأربعينات، ثم هو مدرك بوعي سياسي لمعنى التحولات الكبرى التي صنعت مسار حياة رمز المقاومة المغربية الشهيد الزرقطوني. وميزة كتابة الأستاذ الإبريزي، أنها تزاوج بين الشهادة العينية المباشرة لمسار حياة الشهيد من داخل العائلة، وأيضا بين التأويل لمعنى التطور الأحداث والوقائع، وكيف أصبح الزرقطوني هو الزرقطوني. وهي هنا في الحقيقة، شهادة مكملة لسيرة الشهيد النضالية والسياسية والوطنية التي سبق وأصدرها كل من الأستاذ لحسن العسبي ونجل الشهيد عبد الكريم الزرقطوني في طبعتين سنة 2000 و 2003، والتي ترجمت إلى الإنجليزية من قبل جامعة مونتانا الأمريكية سنة 2007. لم يكن المغرب يتوفر على مدارس عصرية، بل كانت الكتاتيب القرآنية والزوايا هي السائدة في هذه الفترة، ومناهجها كانت ترتكز على حفظ القرآن الكريم للناشئة والتفقه في أصول الدين، وتعلم القراءة والكتابة، غير أن جامعة القرويين كان لها وقع آخر، فقد حافظت على الإرث الثقافي، إذ كانت الدراسة فيها في مستوى أعلى، حيث كانت تشمل شتى أنواع المعرفة في الأدب وأصول الدين والتاريخ وغيرها من العلوم الأخرى، فتخرج منها عدد من العلماء البارزين في مراحل مختلفة من التاريخ المغربي بما فيه العصر الحديث، أذكر في هذا الإطار نماذج وازنة كالأستاذ علال الفاسي والأستاذ عبد الهادي بوطالب. لم تأخذ جامعة القرويين طابعا عصريا كما هو الشأن في الجامعات الغربية الحديثة. وفيما يتعلق بمدارس الأعيان، فقد كان الوازع الديني سببا في دفع بعض الأسر لمقاطعة هذه المدارس، لدرجة أن الإدارة الاستعمارية بدأت ترغم بعض الأسر قسرا على إرسال أبناءها إلى مدارسها. ورغم ادعاء الأوساط الاستعمارية لاحترامها للتقاليد المغربية وللبنيات السياسية والاجتماعية للبلد، فإن هذا الادعاء كان باطلا ولم يكن له أي أساس من الصحة. انتشر التعليم الذي احتضنته الإدارة الفرنسية، إذ تخرج العديد من الأطر من معاهده سواء في المغرب أو في فرنسا، حيث حصلت على الشهادات العليا. ومع ذلك، فقد انقلب السحر على الساحر، وظلت النتائج محدودة وفشل المشروع الاستعماري فشلا ذريعا. فالحقيقة التي يمكن تسجيلها بكل فخر أن هؤلاء هم من قادوا المعركة بعد أن أصبحوا من أشد معارضي فرنسا. لقد كانت هذه النخبة من وراء التوقيع على وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير عام 1944، كنخبة وطنية مثقفة، وهم أيضا ممن تصدوا للغزو الثقافي الذي بدأ يستفحل ويتخذ أبعادا خطيرة كانت تهدد كيان الأمة وهويتها وتاريخها الحضاري وقيمها الروحية والحضارية. لذلك، فقد تصدت الحركة الوطنية للغزو الثقافي، بعد أن أصبح لها تأثير على الساحة السياسية، رغم جبروت الاستعمار. لذلك، فقد بدأ الوطنيون في التفكير بجدية في خلق مدارس حرة، ذات طابع وطني تعيد للغة العربية مكانتها التي تم تهميشها. فكان القرار بخلق منظومة تعليمية تحافظ، على الإرث الثقافي المغربي وتساهم في إعداد جيل مثقف واع متشبع بالروح الوطنية الصادقة، كانت هذه الخطوة محطة أساسية في بعث نشاطنا الثقافي. كانت المدارس الحرة التي انتشرت في عدد من المدن مستقلة تماما، عن الإدارة الاستعمارية، إذ أصبحت تحت سلطة الصدر الأعظم، الذي كان عليه تدبير شؤونها. لقد لعبت هذه المدارس دورا أساسيا في بعث الثقافة العربية وفق مبادئ التربية والتعليم الحديثة اعتمادا على مناهج حديثة في فن التدريس. هذه صورة طرحتها من وجهة نظري باعتباري من المنتسبين إلى هذه المدارس، لذلك سأوضح جوانب عاينتها من مسار هذه المؤسسات. وبما أنني تابعت دراستي في المدرسة العبدلاوية بالمدينة القديمة للدار البيضاء، وهي المدرسة التي أعتبرها نموذجا للتعليم العصري الحديث الذي استفادت منه هذه المدينة المناضلة، لتتحول إلى شرارة للثورة ضد الاستعمار الغاشم. لقد احتضنت هذه المدرسة عددا من الطلبة من حملة القرآن الكريم وممن تلقوا دروسهم الأولى في الكتاتيب القرآنية. كانت الدراسة في مستوى عال لما كانت تحتويه من دروس مستوحاة من أمهات الكتب العربية الإسلامية. لقد أعدت طلبتها بشكل جيد مكنتهم من بناء ثقافتهم على قواعد متينة، إذ تخرجت منها شخصيات سياسية وأدبية وفنية، كان لها دور أساسي في مقارعة الاستعمار نظرا لتشبعها بالروح الوطنية، وأعطى خريجوها صورة حية عن اعتزازهم بوطنهم والدفاع عن كيانه. ومن هؤلاء عبد ربه وأحمد المعداوي، ومحمد الظاهر، وعفيفي محمد سعيد، والشهيد محمد الزرقطوني زعيم المقاومة المغربية. فمحمد الظاهر، كان مقاوما ثم برلمانيا بعد الاستقلال، وانتزع هذا المقعد من شخصية وازنة نظرا لشعبيته في المدينة القديمة، وأحمد المعداوي الشاعر والأستاذ الجامعي، ومحمد سعيد عفيفي الذي كان مديرا للمسرح البلدي بالجديدة. وأنا شخصيا تقلدت مهام الكاتب العام للمجلس البلدي بالدار البيضاء في أول انتخابات نزيهة وشفافة، وقد كان رئيس هذا المجلس المرحوم المعطي بوعبيد، كما تقلدت مهام سياسية ونقابية على المستوى الوطني والجهوي...