يقدم لنا الأستاذ أحمد الإبريزي، من موقعه كأحد أقارب الشهيد محمد الزرقطوني، الذي عاش معه في ذات الفضاء العائلي بالدارالبيضاء، ثم كأحد رجالات الوطنية والنضال النقابي، هنا تفاصيل قصة حياة الشهيد محمد الزرقطوني، كما خبر تفاصيلها عن قرب. أي أنه شاهد لسيرة حياة، وشاهد لمغرب يتحول منذ الأربعينات، ثم هو مدرك بوعي سياسي لمعنى التحولات الكبرى التي صنعت مسار حياة رمز المقاومة المغربية الشهيد الزرقطوني. وميزة كتابة الأستاذ الإبريزي، أنها تزاوج بين الشهادة العينية المباشرة لمسار حياة الشهيد من داخل العائلة، وأيضا بين التأويل لمعنى التطور الأحداث والوقائع، وكيف أصبح الزرقطوني هو الزرقطوني. وهي هنا في الحقيقة، شهادة مكملة لسيرة الشهيد النضالية والسياسية والوطنية التي سبق وأصدرها كل من الأستاذ لحسن العسبي ونجل الشهيد عبد الكريم الزرقطوني في طبعتين سنة 2000 و 2003، والتي ترجمت إلى الإنجليزية من قبل جامعة مونتانا الأمريكية سنة 2007. كانت الثورة تجري في عروق الشهيد محمد الزرقطوني، مبكرا، وكان يتمنى أن يحدو حدو الزعماء الثوريين، كان في ذهنه هذه التصورات وكان يعد لها في صمت. لم يطلع عليه أي أحد إلى أن انفجر الوضع في المغرب، فخرج من مخبئه، ليشعل نار الثورة على المستعمر الغاشم، هذه الحقائق هي التي تترجم مدى طول باعه في تحديد آفاق المستقبل دون أن يفصح عن كل هذا، لأن طبعه كان يميل إلى حفظ الأسرار الخاصة، وقد كشفت الأحداث اللاحقة كيف أن الكثير من الأسرار قد رحلت معه إلى دار البقاء. حدث آخر كان له تأثير كبير في حياته، يتعلق الأمر بوفاة زوجته الأولى المرحومة للا هبة أثناء المخاض خلال شهر أبريل من سنة 1951. ولقد شكل هذا الحدث صدمة ثانية عمقت جراح الشهيد بسبب فقدان إبنته البكر المرحومة بديعة. ورغم شدة وقع هذه الظروف على نفسيته، فقد ظل صامدا أمام عوادي الزمن وغدر الأحداث. في هذا الإطار ومن أجل التفرغ لعمله النضالي والجهادي، اتجه نحو اختيار زوجته الثانية السيدة السعدية العلمي، الأمر الذي تم بالفعل خلال سنة 1952، بعد تحريات عميقة وتقص دقيق في صفات الزوجة التي كان عليها أن تتحمل أعباء المسؤوليات الجهادية للزوج وبما يمكن أن يحمله ذلك من تضحيات جسام ومن مسؤوليات مضاعفة. وكما كان منتظرا، فقد ظلت السيدة السعدية وفية لالتزاماتها، حيث حرصت على ملازمة الشهيد من اليوم الأول الذي ارتبطت فيه به، وإلى تاريخ استشهاده فجر يوم 18 يونيو سنة 1954. ولج الشهيد مجال العمل دون أي مركب نقص، ليكسب قوته بعرق جبينه رغم إمكانيات أبيه التي كانت قادرة على تغطية احتياجاته هو وأسرته كمقاول في البناء وقيم على الزاوية الحمدوشية التي كان يتصرف في وقفها، بالإضافة إلى أنه كان يرعى مصالح بعض التجار، لما كان يحظى به من احترام من جانبهم، وبما كان يتصف به من جدية وصدق. ومع ذلك، فقد أعرض الشهيد على كل هذا لأن طبيعته كانت الاعتماد على النفس، التي هي سمة كل إنسان يعتز بشخصيته الذاتية، لهذه الاعتبارات اقتحم عالم الشغل بمنهجية خاصة تساير فكره النير وقدرته على تمييز الأشياء وإلمامه بالقضايا الاجتماعية والسياسية. تحاشى العمل في المؤسسات التي كان يديرها الفرنسيون الذين كانوا يستغلون العمال المغاربة استغلالا فاحشا بأجور أقل وبتعب أكثر وبامتهان للكرامة الإنسانية في أبشع صورها، وبالحرمان من الدفاع عن الحقوق المهضومة، وبالمنع من الحق في تكوين نقابة مغربية مستقلة. فكان العمال المغاربة ينحون نحو الانخراط في نقابة فرنسية كانت تابعة للحزب الشيوعي للاحتماء بها نظرا لطابعها اليساري. كان يكره الفرنسيين ويضعهم في صف الأعداء الألداء، فامتنع كليا عن الدخول تحت سلطتهم، لذلك اختار عن طواعية أن يعمل في معمل للنجارة، كان على رأسه مغربي رأى فيه حسا وطنيا من خلال تحرياته. فتعاقد معه على مسك حسابه والإشراف على حاجيات الزبناء وتسهيل طلباتهم، وقد أظهر قدرة في هذا الشأن لما كان له من خطاب مقنع وقدرة على الاستقطاب. كان يتسم بالجدية وبروح المسؤولية، الأمر الذي طمأن رب العمل، فأصبح يرتاح له ويعتبره شريكا له، نظرا لأنه كان فأل خير عليه، بل أصبح محل تقدير من كل النجارين لمزاياه الحميدة، وعندما انتقل إلى مهام أخرى بعد تجربته الأولى في العمل، سار على نفس المنهاج وبالأسلوب ذاته نظرا لديناميته التي لا مثيل لها فأبدع في كل عمل أنيط به. كيف كانت نظرته للطبقة العاملة الذي أصبح جزءا، لا يتجزأ منها ؟ هذا ما أفصح عنه عندما تفرغ للعمل السياسي الذي اختاره كواجهة للكفاح الوطني، وفي جعبته أفكار نيرة ونظريات صائبة في المفهوم السياسي ومتطلباته. لقد كان يؤمن بمهام الطبقة العاملة وبدورها الطليعي، خاصة إذا استكملت وعيها ووصلت إلى مرحلة النضج السياسي لتعزيز التيار الوطني. لقد أصبحت الطبقة العاملة تتحكم في الاقتصاد الوطني، بل أضحت قادرة على إصابته بالشلل في حال انخراطها في إضرابات سياسية أو نقابية، مثلما وقع عقب أحداث سنة 1952 الشهيرة.