تكريم الممثل التركي "ميرت أرتميسك" الشهير بكمال بمهرجان سينما المتوسط بتطوان    هل تحول البرلمان إلى ملحقة تابعة للحكومة؟    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    رئيسة الجمعية العامة لليونيسكو تطلع على ورشة لتكوين صناعة الزليج التقليدي التطواني    تسارع نمو الاقتصاد الإسباني خلال الربع الأول من العام    بورصة الدار البيضاء تفتتح تداولاتها بأداء سلبي    التلسكوب الفضائي"جيمس ويب" يلتقط صورا مفصلة لسديم رأس الحصان    الناصيري ل"الأيام 24″: أشغال ملعب "دونور" تسير بوتيرة سريعة ومعالم الإصلاح ستظهر قريبا    "مصير معلق" لاتحاد الجزائر وعقوبات قاسية في انتظار النادي    بطولة إفريقيا للجيدو.. المنتخب المغربي يحتل المركز الثالث في سبورة الترتيب العام    سفيان رحيمي يوقع عقد رعاية مع شركة رياضية عالمية    البحرية الملكية تقدم المساعدة ل81 مرشحا للهجرة غير النظامية    ثلاث وفيات وعشرون حالة تسمم بأحد محلات بيع المأكولات بمراكش    ثلاثيني يُجهز على تلميذة بصفرو    ثمان نقابات بقطاع الصحة تعلن عن سلسلة إضرابات وتحشد لإنزال بالرباط    مدينة طنجة توقد شعلة الاحتفال باليوم العالمي لموسيقى "الجاز"    موسيقى الجاز و كناوة .. سحر ووصل ولغة عالمية تتجاوز حدود الزمان والمكان    حماس تستعدّ لتقديم ردّها على مقترح هدنة جديد في غزة    العصبة الاحترافية تتجه لتأجيل مباريات البطولة نهاية الأسبوع الجاري    وحدة تابعة للبحرية الملكية تقدم المساعدة ل81 مرشحا للهجرة غير النظامية جنوب – غرب الداخلة    النعم ميارة يستقبل رئيس الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا    السكوري…المغرب استطاع بناء نموذج للحوار الاجتماعي حظي بإشادة دولية    حريق ضخم يلتهم سوق المتلاشيات بإنزكان (فيديو)    فتاة هندية تشتكي اعتداءات جنسية .. الأب والعم بين الموقوفين    الوداد يحدد لائحة المغادرين للقلعة الحمراء    ستة قتلى في هجوم على مسجد بأفغانستان    اش خذات الباطرونا واش خدات النقابات باش يتزاد فالسميك وفالصالير الف درهم: عرض قانون الاضراب فالدورة الربيعية والتقاعد على 65 عام فالخريفية    الموانئ الأوروبية في حاجة إلى استثمار 80 مليار يورو لبلوغ التحول الطاقي    ف 5 يام ربح 37 مليار.. ماسك قرب يفوت بيزوس صاحب المركز الثاني على سلم الترفيحة    مع اقتراب افتتاح الاولمبياد. وزير داخلية فرانسا: خاص يقظة عالية راه وصلنا لمستوى عالي جدا من التهديد الارهابي    أسترازينيكا كتعترف وتعويضات للمتضررين تقدر توصل للملايين.. وفيات وأمراض خطيرة بانت بعد لقاح كورونا!    حمى الضنك بالبرازيل خلال 2024 ..الإصابات تتجاوز 4 ملايين حالة والوفيات تفوق 1900 شخص    معاقبة جامعة فرنسية بسبب تضامن طلابها مع فلسطين    الصين تتخذ تدابير لتعزيز تجارتها الرقمية    مطار الحسيمة يسجل زيادة في عدد المسافرين بنسبة 28%.. وهذه التفاصيل    بطولة اسبانيا: ليفاندوفسكي يقود برشلونة للفوز على فالنسيا 4-2    يتقاضون أكثر من 100 مليون سنتيم شهريا.. ثلاثون برلمانيًا مغربيًا متهمون بتهم خطيرة    مغربية تشكو النصب من أردني.. والموثقون يقترحون التقييد الاحتياطي للعقار    مواهب كروية .. 200 طفل يظهرون مواهبهم من أجل تحقيق حلمهم    فرنسا.. أوامر حكومية بإتلاف مليوني عبوة مياه معدنية لتلوثها ببكتيريا "برازية"    ميارة يستقبل رئيس الجمعية البرلمانية لأوروبا    أسماء المدير تُشارك في تقييم أفلام فئة "نظرة ما" بمهرجان كان    سكوري : المغرب استطاع بناء نموذج للحوار الاجتماعي حظي بإشادة دولية    مشروبات تساعد في تقليل آلام المفاصل والعضلات    تحديات تواجه نستله.. لهذا تقرر سحب مياه "البيرييه" من الاسواق    مجلس النواب يطلق الدورة الرابعة لجائزة الصحافة البرلمانية    برواية "قناع بلون السماء".. أسير فلسطيني يظفر بجائزة البوكر العربية 2024    الشرطة الفرنسية تفض اعتصاما طلابيا مناصرا لفلسطين بجامعة "السوربون"    الرئاسيات الأمريكية.. ترامب يواصل تصدر استطلاعات الرأي في مواجهة بايدن    رسمياً.. رئيس الحكومة الإسبانية يعلن عن قراره بعد توجيه اتهامات بالفساد لزوجته    إليسا متهمة ب"الافتراء والكذب"    المفاوضات بشأن اتفاق الاستعداد للجوائح بمنظمة الصحة العالمية تدخل مرحلتها الأخيرة    حكواتيون من جامع الفنا يروون التاريخ المشترك بين المغرب وبريطانيا    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    الأمثال العامية بتطوان... (583)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحب في وطن الفواجع
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 07 - 01 - 2011


1 تقديم الرواية:
فوضى الحواس1، هي الرواية الثانية في رباعية الروائية الجزائرية ، أحلام مستغانمي، بعد «ذاكرة الجسد» وقبل «عابر سرير» و«النسيان». هي رواية تحتفي بالحب والعشق كما في كل روايات الكاتبة، غير أن «فوضى الحواس» ربما أكثر إشكالية وأوسع مفارقة وأعمق طاقة تخييلية. هي رواية تتخيل شخصية نسائية كاتبة وهي نفسها بطلة الرواية التي تكتبها وتسرد أحداثها، وفي نفس الوقت تربط علاقة غرامية مع بطل روايتها المفترضة. غير أن حضور، أو استحضار، هذا البطل مع اشتداد ضغظ العشق على الشخصيتين معا، يرتبطان دائما بحادث سياسي وطني مثير ينبثق فجأة. ومن الصفحات الأولى نتتبع هذا البطل العشيق دون أن نعرف عنه الكثير، يبقى بدون اسم ومقمط بالغموض خلال الجزء الأكبر من النص.
وفي الثلث الأخير من الرواية يبدأ في الانكشاف، خاصة حين عاد بوضياف ليكون رئيسا للجمهورية فشكل مجلسا وطنيا استشاريا من المثقفين والسياسيين النزهاء من أجل إنقاذ البلاد، وأصبح البطل ضمن أعضاء المجلس.
وفي هذا السياق انكشف أيضا أن البطل كان أحد أهم عناصر الثورة الجزائرية مع بوضياف ضد الاستعمار، ثم اتضح أن اسمه هو خالد بن طوبال، وهو اسم تجلى أن الساردة الروائية كانت قد أعطته لإحدى شخصياتها في رواية سابقة، ثم يظهر أن ذلك الاسم ليس له، ثم نصادفه صحفيا مع صديقه، عبد الحق، الصحفي اللامع، ثم يغتال بوضياف فيتماهى معه البطل ويختفي اختفاء غامضا أيضا ولعل هذا البطل هو نفسه الحب أو الحلم الذي جسده بوضياف للشعب الجزائري فاغتيلا مع اغتياله...
والبطلة في الرواية سليلة عائلة مناضلة، كان أبوها من أهم وجوه الثورة الجزائرية أيام المقاومة، كان مثل رفاقه مفعما بالحلم الوطني والقومي، وقد أخذ معه حلمه حين استشهد قبيل الاستقلال تاركا وراءه طفلين، حياة، اسم البطلة/الساردة، وطفلا سماه ناصر، تيمنا باسم جمال عبد الناصر، وبعد الاستقلال، وخلال التسعينيات من القرن الماضي، أصبح ناصر إسلاميا، ينتظر الاعتقال أو القتل في كل لحظة الأمر الذي دفعه إلى الهجرة بعدما اقتنع أن الموت قريب منه...
وقد تزوجت حياة من ضابط كبير في الجيش، أحد الجنرالات الذين وزعوا بينهم خيرات الوطن وأنتجوا كل الفواجع التي عانى ويعاني منها الشعب. وقد مارست البطلة/الكاتبة متعة الحب مع رجل مفترض أصبح عشيقها المتخيل، تريد الإعلان عن أنوثتها وتحقيقها. لكن الحب هنا وفي الواقع يعتبر من المحرمات، تراه الساردة تهمة، ويقول عشيقها ذاك: «تدافعين عن هذه التهمة! أية تهمة؟ وأمام من؟ أمام زوجك؟ وهو أحد المتهمين في هذا البلد! الذي أعجب له الأكثر، أن يكون الحب هو الفعل الذي يحرص الناس على إخفائه الأكثر، والتهمة التي يتبرأون منها بإصرار. ما عدا هذا.. فبإمكانك أن تكون مجرما وسارقا وكاذبا وخائنا وناهبا لأموال الوطن...»، يعتبر الحب جريمة، مع أن كل الجرائم الحقيقية سائدة ومباحة. إنه مثل الأنوثة، فالإعلان عنها أيضا جريمة فتصبح الأنوثة، مثل الكتابة، تهمة «كنت أتحدى القتلة، شاهرة التهمتين اللتين جمعتهما: تهمة الأنوثة وتهمة الكتابة، تلك التي كانت تحديا صامتا في يدي...»2. وإذا كانت الأنوثة تهمة تلصق فقط بالمرأة لأنها هي الوحيدة التي ابتليت بها، فإن التهمتين الأخريين مشتركتان بين المرأة والرجل، لذلك أضحت «الكتابة في هذا البلد هي التهمة الأولى التي قد تفقد بسببها الحياة». فكان على رأس قائمة من يستهدفه الإسلاميون والجيش معا بالقتل هم الكتاب الصحفيون، فعاشوا قبل قتلهم يختبئون أو يلتحفون الظلام أو يسيرون جنب الحائط. الكتابة/التهمة هي التي جعلت الساردة تقرر أن تقوم «بمحاولة اكتشاف فضائل الجهل، ونعمة أن تكون أميا، في مواجهة الحب، وفي مواجهة الكتابة.. وفي مواجهة العالم.»3. فيكون الجهل في الجزائر قيمة مطلوبة وضرورية تؤخر القتل بعض الشيء...
لقد افتقدت البطلة /الساردة /الكاتبة المتخيلة متعة الحب في بيتها مع زوجها، وهو ضابط كبير أو دكتاتور صغير في هيئة زوج4 يتحكم في قدرها، زوج تدخله في خانة أحد «نوعين من الأغبياء: أولئك الذين يشكّون في كل شيء. وأولئك الذين لا يشكون في شيء»5. وحين افتقدت متعة الحب في بيتها اختلقت رجلا من ورق عشقته ومتعت به أنوثتها المشتعلة، تنجذب إليه بواسطة صوته وصمته أو بواسطة كلامه النادر وغموضه وبواسطة عطره الممزوج برائحة السجائر، كل شيء فيه يثير شبقيتها فتسافر إليه من قسنطينة إلى العاصمة؛ وكثيرا ما نبهها للخروج من أوهامها، قائلا: «... أنا كائن حبري أسافر بين دفاترك ومعك فقط ومن قسنطينة إلى العاصمة..»6، ليؤكد أنها تعيش الوهم في هذا الحب. ولكنها مصرة على أن تقدم صورة المرأة التي لا تملك ولا تضمن أي شيء لها إلا هذه الأنوثة اللصيقة بها، لأن الأقارب كلهم مهددون، مثلها، بالرحيل، فقد كانت الساردة تعيش بين ثلاثة رجال ينتظرون القتل المفاجئ، «بين أخي الأصولي الذي تطارده السلطة، وزوجي العسكري الذي يتربص به الأصوليون، وذلك الصحفي الذي أحب، والذي يصفي الاثنان حساباتهما وخلافاتهما بدمه، كيف يمكن لي أن أعيش خارج دائرة الذعر»7. فخارج دائرة الموت المحقق ينحشر المواطن في دائرة الذعر...
وحين ترغب البطلة في ممارسة الحب الوهمي مع عشيقها الوهمي أيضا تنتقل من قسنطينة إلى العاصمة لتقيم في فيلا من فيلات إحدى القرى السياحية المجاورة، تعود «إلى أيام الاحتلال الفرنسي، يوم كان كبار الإقطاعيين الفرنسيين، يعمرون فيلات فخمة على الشواطئ الجزائرية» قريبا من السهول التي كانوا يملكونها. «بعد الاستقلال، حجزت الدولة الأملاك الشاغرة التي تركها المعمرون الفرنسيون لتكون مقرا صيفيا لكبار الضباط والمسؤولين الذين أصبح لهم وجود شرعي ودائم على شواطئ موريتي وسيدي فرج، ونادي الصنوبر»8، يعيشون فيها الليالي الحمراء حينا وحينا يرسلون إليها نساءهم وأولادهم، وقد جعلت حياة، الزوجة فبيلاتها مستقرا لها كلما تخيلت بطلها المعشوق فتنتقل إليه بسهولة. وحياة، الكاتبة، العاشقة لبطل روايتها، والزوجة على ضرة تزوجها منذ عشرين سنة وله معها ثلاثة أولاد، «قبل أن يصبح ضابطا، بحيث كان لابد له ككل المسؤولين من حوله، أن يعيد النظر في حياته الزوجية»9. الساردة هي زوجة ثانية تزوجها صغيرة حين أصبح ضابطا كبيرا في الجيش، زوج لا تشعر بأي انجذاب نحوه، هو مجرد زوج «السترة». والبطلة متعددة الأدوار في الرواية هي الشخصية الرئيسية في الرواية وساردة لكل أحداثها، وهي كاتبة في النص، وزوجة وبنت وأخت وعشيقة، غير أنها، مثل عشيقها بطل روايتها المفترضة، خلقت منذ البدء لتكون «كائنا من ورق وحبر، تلغيه هذه الكميات الهائلة من الماء والبخار»، صرحت الساردة حين ذهبت مع أمها إلى الحمام البلدي دون أن تأخذ معها مستلزمات الحمام10. حب وحبيبان من حبر على ورق. حب/ وهم تحلم به المرأة المثقفة في هذه البلاد المشبعة بالفواجع.
2 حب/ هروب:
لكنه لم يكن حبا عاديا، هو حب غريب. حب واهم: «ولكن قبل أن أرفع السماعة، دق الهاتف وهزني. كان زوجي على الخط يَحدث لكلمة «ألو» أن تقتل الوهم أيضا»، كانت تتهيأ لتتصل بعشيقها من فيلا الاستجمام تلك، تستعجل اللحظات الممتعة فسبقها زوجها الضابط بذلك «الآلو» ليتبادلا جملا عجلى، «وكأننا نتحدث على بعد قارات.» 11. فيغتال فيها الحلم الممتع، أو الوهم اللذيذ، إنها بحبها ذاك تهرب من زواج كالكابوس، يعانقها فيه زوج مزعج وقاتل، كما قال لها أخوها ناصر: «ولا يزعجك أن يحتضنك بيدين ملطختين بالدم؟ بتعليمات منه يسجن الأبرياء، وتمتلئ هذه القبور.»12. تهرب من واقع عام كالجحيم، ينتظر فيه الشخص، في كل لحظة، رصاصة أو خنجرا ينبثقان من المجهول... غير أنها كلما راودتها نية الحب تنبت فجيعة في الوطن، «طبعا... لم أكن أدري أنه يكفي أن أنوي الحب، كي تنقلب البلاد رأسا على عقب، ولا توقعت أن التاريخ سيهدي إلى الجزائر يومها إحدى مفاجآته. ولا أن الرئيس الشادلي بن جديد سيختار ذلك السبب بالذات، ليعلن في نشرة الثامنة مساء من ليلة 11 يناير 1992 استقالته، وحل البرلمان ومن ثم دخول البلاد في متاهة دستورية. لم أعتب على الشادلي بن جديد إهدار رغبتي. فقد أهدر قبلها سنوات بأكملها من رغبات شعب»13. الشادلي بن جديد رغم مساهمته في إهدار رغبات شعبه فقد أحس بخيوط القتل تنسج حوله، فأراد أن ينجو بجلده، ليقدم المقصلة لمحمد بوضياف على عرش من الرئاسة... كانت ترغب في لقاء عشيقها حين هز هذا الحدث بلادها. وحين انتقلت إلى عشيقها في قسنطينة وهي راكبة سيارة زوجها الضابط الكبير، سيارة دولة بسائقها، قتل هذا السائق على مقربة منها لاعتقاد القاتل أنه الضابط نفسه، وحين ذهبت تبحث عن العشيق في أحد أحياء العاصمة صادفت مظاهرات صاخبة نظمها الإسلاميون...
فلابد أن يكون هذا الحب ومتعته ولذاته مهربا وهو ما يؤكده عشيقها الوهمي قائلا: «في زمن النهايات المباغتة، والموت الاستعجاليّ والحروب البشعة الصغيرة التي لا اسم لها، والتي قد تموت فيها دون أن تكون معنيا بمعاركها، الجنس هو كل ما نملك لننسى أنفسنا»14. الجنس، أو الحب الذي تكرره الساردة في النص، من أجل نسيان ما يقع، نسيان الرعب والقتل اليومي في وطن الفواجع.
3 وطن الفواجع:
لم تعد الجزائر حلما مفتوحا على مستقبل زاهر كما كان ينتظره ثواره، الذين استشهدوا في سبيله أو الذين اعتقلوا من أجله خلال أيام الاستعمار وأيضا خلال أيام الاستقلال. بل أنتج استقلالُه نخبة من الحكام العسكريين ومواليهم استفادوا أثناء الثورة ونهبوا الوطن بعد الاستقلال، «... نجحوا في اختصار مشقة الحياة، ناهبين البلاد حيث وجدوا، مشهرين غنائمهم دون خجل، رافعين في بضع سنوات فيلِّيات شاهقة، تقع عند بابها سيارات فاخرة. وتسكنها امرأة تسافر إلى أوربا في كل المناسبات لتجدد خزانتها»15. أفقروا الوطن رغم البترودولار وأفقدوا الشعب الأمن الشخصي والجماعي وحرموه من وطنه في واقع مرعب. واقع حول هذا الوطن إلى مجرم مفجع، «الوطن؟ كيف أسميناه وطنا.. هذا الذي في كل قبر له جريمة.. وفي كل خبر لنا فيه فجيعة»16. وطن قاتل لأبنائه «.. أي وطن هذا الذي كنا نحلم أن نموت من أجله.. وإذ بنا نموت على يده... أوطن هو؟! .. هذا الذي كلما انحنينا لنبوس ترابه، باغتنا بسكين، وذبحنا كالنعاج بين أقدامه؟! وها نحن جثة بعد أخرى نفرش أرضه بسجاد من رجال، كانت لهم قامة احلامنا.. وعنفوان غرورنا»17، كما فعل بالرجل الطيب النزيه الأمين، محمد بوضياف. أي وطن هذا الذي يهدر فيه الشباب الوقت في قاعة السينما، وفي الشارع وهم متكئون على جدار18؟! لغياب فرص العمل. أي وطن هذا الذي تصبح وتمسي فيه على فواجع، وتتحول فيه الأعياد مآتم؟! ف»قبل أن تفتح الجريدة، يهجم عليك الوطن بعناوينه الكبرى، «السلطات العسكرية تعلق حظر التجول إلى ما بعد عيد الأضحى»، «اعتقال 469 شخصا خلال الأيام الثلاثة الماضية»، «جبهة الإنقاذ تعلن العصيان المدنيّ، وبدء الإضراب والاعتصام المفتوح»، «حضور عسكري مكثف حول المباني الرسمية والمساجد...»19. أي وطن هذا الذي لم يستثن حتى المقابر من القتل فيتفاجأ «أولئك »الأذكياء» الذين جاؤوا لزيارة موتاهم بعد يومين أو أكثر. فقد فوجئوا بمن ينتظرهم ليلا ونهارا خلف القبور، وذهبت بهم المفاجأة في مقبرة. »20... هذا هو الوطن الذي أعاد صياغته الحكام العسكريون في الجزائر خلال وقبل وبعد التسعينيات من القرن الماضي، وأشبعوا واقعه قتلا ودمارا مطلقين.
أصبح أبناء الشعب، على رأسهم النخبة المثقفة، يتوجسون بالقتل في أية لحظة والقتلة كثر يمكن أن ينبثقوا من زحمة الشارع أو ينتظرونك في زاوية أو يلتقون بك وجها لوجه في الشارع أو يجلسون بجانبك في المقهى يخفون وجوههم في جرائد، أو يفاجئك رصاص شرطي أو جندي وهما يتوقعان أن تقتلهم في أية لحظة أيضا... يقول ناصر، أخ حياة/الساردة: «الموت أقرب إلينا مما تتوقعين. أتريدين أن أدلك على قبر لصديق، قتل منذ أيام دون مبرر، سوى لأنهم اشتبهوا في أمره، وهو يضع يده في جيبه ويوشك أن يخرج منها شيئا، على مقربة من شرطي. عندما قتلوه، اكتشفوا أنه لم يكن يحمل في جيبه شيئا»21. بل إن «الرجال يعيشون في هذا البلد عدوى انتشرت بينهم.. جعلتهم جميعهم يتكلمون الكلام نفسه، ولا يحلمون سوى بالرحيل؟»22، ومن يتوهم أكثر يحلم بأن يهجر البلاد خوفا من الموت المفاجئ أو السجن المجاني، كما فعل ناصر23... الوطن الذي يستورد الأكباش ويصدر البشر، وتتحول فيه الأعياد الدينية المقدسة إلى مآتم «هذا العام أتوقع أن تكون الحاجة إلى الصدقات قد زادت، بعدما تجاوزت أسعار الخروف، العشرة آلاف دينار جزائري. وهو ما جعل أضحية العيد تفوق ثمن الإنسان نفسه، الذي لا يكلف هذه الأيام أكثر من رصاصة..»24. وطن أفقروا فيه الأمة واغتالوا في أبنائه الفرحة وأنتجوا له الإرهاب المركب يزرع الموت والرعب في كل ربوعه...
بعد أن قدم الشادلي بن جديد استقالته من الرئاسة، ثم أتوا لهذه الرئاسة برجل كان منفيا في المغرب يعيش هادئا يجتر أحلام الثورة التي كان من قادتها وترعبه كوابيس وطنه الراهنة. مناضل كان قد اعتقله رفيقه في المقاومة، الرئيس الأول للجزائر، أحمد بن بلة سنة 1963. وسوف يعتقل بومدين بن بلة نفسه ويرمي به في السجن سنة 1965 بعد أن أزاحه من السلطة «ليخرج منه بعد خمسة عشر عاما عجوزا»25. من السجن انتقل محمد بوضياف إلى المنفى في المغرب، «كان يسكن في مدينة صغيرة، بالمغرب (القنيطرة) ناسيا العمل السياسي26. »تذكروه، هكذا فجأة، بعد ثلاثين عاما، وقد شبعوا وانتفخوا، وملأوا جيوبهم وأفرغوا جيوب الجزائر. وانسحبوا تاركين لنا وطنا مرهونا لدى البنك الدولي»27، بل أوهموا بترك الوطن... أتوا به ليبعثوا الأمل في الشعب، اعتبره البسطاء المنقذ والحلم المنتظرين. تقول الساردة: «نحن نبحث عن رجل في بساطة أهلنا، يمرر يده على رأسنا... يعدنا بأحلام بسيطة ندري أنه سيحققها... ... رجل منذ نزوله من الطائرة يعلن الحرب على من سطوا على مستقبلنا، وبنوا وجهاتهم.. بإذلال وطن»28.
مثلت عودته مركز حب البسطاء وبؤرة أحلامهم. كان الناس يريدون وضع الحد للمفسدين ناهبي خيرات البلاد، وتوافق ذلك مع مشروع بوضياف، فقد قال في خطاب له بثه التلفيزيون: «إن في هذا البلد مافيا ومسؤولين استحوذوا على أموال ليست لهم. أعدكم بإعلان حرب حقيقية على هؤلاء...»29. ولم يمهلوه في الرئاسة أن يتمم فيها نصف عام، حتى اختطفوا من فمه الكلمة والحياة، «وقبل أن ينهي جملته، كان أحدهم، من المسؤولين عن أمنه، يخرج إلى المنصة من وراء الستار الموجود على بعد خطوة من ظهره، ويلقي قنبلة تمويهية.. جعل دويها الحضور ينبطحون جميعهم أرضا. ثم راح يفرغ سلاحه في جسد بوضياف، هكذا مباشرة أمام أعين المشاهدين، ويغادر المنصة من الستار نفسه»، فاغتالوا أحلام الجزائر30. ليستمر رجال الجيش وكل من ينصبونه معهم من المدنين، ينهبون ويقتلون ويعمقوا جر البلاد نحو الوراء...
هذا ما تقوله رواية «فوضى الحواس» عن فضائها خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي، فماذا يمكن أن يقوله الأدب عن الفواجع المركبة التي أنتجت بعد هذا العقد، ربما سيبقى الأدب عاجزا على تصوير الفظاعة التي أضحت تفيض في الواقع وعلى الواقع.
لا يمكن أن نجد كاتبا أو كاتبة في دقة أحلام مستغانمي في استبطان فوضى الحواس وشدة توتراتها، وفي عمق معرفتها الثقافية ومعرفة وطنها ماضيه وحاضره وتوقع مستقبله، ومعرفتها بمحيطه الجهوي والعالمي، وفي شاعريتها المتدفقة، وفي قوة وصفها للألم والشعور بالغربة والعزلة، وفي طاقتها التخيلية المركبة التي تجمع بين التذكر والاسترجاع والاستباق، بين الكوابيس والأحلام وبين الحزن المرعب والفرحة المدفونة في أعماق النفس، وفي عمق شفافية جملها القصيرة التي تشبه الأنين حينا والصرخة حينا آخر، ولا في قدرتها التي تجمع بين عدة مجالات الإبداع والكتابة: من قصيدة ورسالة ومقالة صحفية ومن حوارات مشهدية. كان من الممكن لهذه الروائية الفذة أن تكون أفضل مؤرخ لواقع وطنها الراهن لو استمرت في تتبع ومتابعة ذلك الواقع؛ غير أن الكاتبة يبدو أنها فضلت اللجوء الأدبي، عوض السياسي، إلى موضوع الحب، موضوع أرحب وأوسع من الوطن الخاص نفسه، موضوع لوطن أعم هو الكون...
هوامش
1 طبعة دار الآداب بيروت، الطبعة السابعة عشرة، 2008.
2 ص. 359.
3 ص. 371372.
4 ص. 152.
5 ص. 152.
6 ص. 194.
7 ص. 340.
8 ص. 141.
9 ص. 311.
10 ص. 231.
11 ص. 191.
12 ص. 205.
13 ص. 236.
14 ص. 355.
15 ص. 216.
16 ص.368.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.