"لاغرابة في تجذر "ثقافة الكريدي"بين الأوساط الشعبية، والسبب هو غلاء المعيشة والفقر والهشاشة والتهميش والراتب الهزيل والدخل المحدود".. هكذا أجمع الكثيرون في أجوبتهم، وبديهيا في خضم هذه الظروف أن تنتعش المؤسسات البنكية من تزايد عدد المطالبين بالحصول على بعض القروض لتحسين أوضاعهم المتردية، كما لا غرابة في انتعاش مؤسسات القروض والسلفات الصغرى، على خلفية العدد الهائل من الأشخاص الذين يصعب عليهم الاستفادة من القروض البنكية ويودون "خلق"أشياء للبيع والشراء وحرف يدوية وتعاونيات ومشاريع إنتاجية صغرى، أو ما يصطلح عليه ب"البطالة المقنعة"في إطار الصراع من أجل البقاء ومواجهة قساوة العيش ومصاريف الحياة والأسرة، وقد فات للمندوبية السامية للتخطيط، العام الماضي، أن أكدت أن أزيد من ثلث الأسر المغربية (35.1 في المائة) تلجأ للاقتراض. غرقى في اليابسة عندما لا يكون "الكريدي"حلا لجميع المشاكل ومعضلات الفقر، باعتباره من المبادئ التي تقوم بالتصدق على الإنسان بسمكة عوض تعليمه الاصطياد، فإنه يبقى حلا ترقيعيا ل"الأزمة"فقط، ومؤسسات القرض تلعب على الإعلانات المغرية من قبيل كبش العيد والسكن والسيارة والتجهيز المنزلي، والعديد من المستفيدين من قروض البنك مثلا يوجهون هذه القروض إلى مظاهر وكماليات، وتحقيق مكاسب وهمية، فتأكل القروض رواتبهم الهزيلة ثم يعجزون عن الوفاء بمديونياتهم البنكية لتكون عاقبتهم متاهات المحاكم والسجون، وهناك الكثير من الأخبار التي تحدثت عن انتحار أشخاص نتيجة الديون المتراكمة، والأسباب غالبا ما تكون بفعل العربدة والقمار ورهانات سباق الخيل مثلا، ويمكن التعرف على موظفين لا يتجاوز راتبهم الشهري ما ينفع لأسبوع واحد فيعمدون إلى الحصول على قرضين أو ثلاثة قروض في وقت واحد دون ضمانات. ومن جهة أخرى قد تختلف أهداف المواطن تجاه مبلغ القرض، إذ هناك من يقترض لغاية علاجية أو لبناء مسكن أو إحداث مشروع تجاري أو تدريس الأبناء، فيصبح القرض بعد ذلك وحشا خطيرا عند استخدامه في أشياء تافهة، ولا بأس من التذكير هنا بحكاية أشخاص حصلوا على قروض من أجل دفعها لنصاب نجح في الاحتيال عليهم بإيهامهم بتوفير عقود عمل بالخارج، وبعد ذلك يترك ضحاياه وجها لوجه مع مصيرهم المفتوح على أنياب المؤسسة التي حصلوا منها على القروض، أو الجهة التي استلفوا منها "المبالغ الطائرة"بالكمبيالة أو الشيك، ولا خيار لهم حينها ما بين الأنياب وبين الهرب أو السجن، شأنهم شأن بعض الموظفين من الفئات المتوسطة الذين حولت مؤسسات القروض، ومؤسسات التجهيز المنزلي، حياتهم إلى جحيم وكوابيس ومشاكل عائلية وإباحة الرشاوي، وربما بات بعضهم يعيشون بنصف الراتب أو الربع فاضطروا إلى المزيد من القروض لتزداد حياتهم تعقيدا وإشكالا. ولما يقال أن "الكريدي"من المهدئات الاجتماعية فمن الممكن أن يظل هذا التحليل في حاجة إلى نقاش من حيث أن هناك تفاوتا طبقيا حتى في هذه القروض، إذ في الوقت الذي تتم فيه معاملات مالية وقروض سمينة لحساب أثرياء البلد عن طريق تحويلات بالملايين عبر الأبناك، تصطف طوابير الموظفين المقهورين أو المواطنين "المزلوطين"أمام مؤسسات القروض وشركات التمويل من أجل الحصول على بضع دريهمات لتمويل الجيب الفارغ أو حل مشكل أو خلق نشاط مادي أو تسوية دين لفائدة "مول الحانوت"الذي لا يتوقف عن التلويح بلوحة "الطلق ممنوع والرزق على الله"، والقروض بالنسبة للطبقات الكادحة أو المتوسطة تبقى في كل الأحوال عاملة على تأجيل الأزمة إلى أجل آخر عن طريق العيش ب"الكريدي"، ولا تحل المشاكل الأساسية بل تكتفي أحيانا كثيرة بحلول عابرة، أي أنها قد تعالج الأعراض لكنها لن تعالج جوهر المشكل طالما أن بلادنا في حاجة إلى إصلاح اقتصادي وسياسي وتنموي واجتماعي وليس لنصائح الذي يضطر لأخذ "كريدي"من أجل كبش العيد، وبمجرد ذبحه لهذا الكبش تظل "أشباح الكريدي"تطارده. وصلة بموضوع القروض البنكية دائما، يشار إلى أن الحاصلين من العالم القروي على قروض لا جدال في واقع معاناتهم مع مخلفات الجفاف وويلات الفيضانات وأمراض المواشي، وكم هي اللقاءات التي انكبت على تدارس المعضلة المتعلقة بالقروض، في وجود عدد من المزارعين متابعين قضائيا، أو تم الحجز على ممتلكاتهم، ومن حين لآخر تنجح التدخلات في إقناع الجهات المسؤولة بالوضعية المزرية التي يعاني منها الفلاحون والمزارعون جراء ظروف الجفاف والفيضانات، فينتهي الكابوس برفع "مقصلة المتابعة"عن رقاب الفلاحين المتضررين. صغرى لكنها مغامرة وبالنسبة لموضوع القروض الصغرى، فعلى هامش "السنة الدولية للقروض الصغرى"عام 2005، صرح الوزير الأول أنذاك، إدريس جطو، بأن نصف المستفيدين من القروض الصغرى على مستوى منطقة البحر الأبيض المتوسط يوجدون على التراب المغربي، ووقتها شكل المغرب لجنة وطنية للسنة الدولية تحت رئاسة الوزير الأول (إدريس جطو حينها)، وتضم بالإضافة إلى الفيدرالية الوطنية لجمعيات القروض الصغرى بالمغرب، وبرنامج الأممالمتحدة للتنمية، والبنك العالمي وشركة التمويل الدولية والوكالة الأمريكية للتنمية والمجموعة المهنية لبنوك المغرب وصندوق الإيداع والتدبير ومؤسسة بلانيت المالية المغربية والوزارات المعنية. ما أكثر المستفيدين الذين أصابهم "الإفلاس"فعجزوا عن تسديد ما بذمتهم من قروض ومن ثم أضحى الضيق من أمامهم والسجن من ورائهم، وربما فكروا في مراسلة الجهات الرسمية للتوسل من أجل عتق رقابهم، وسبق لتقارير خاصة أن كشفت أن حجم المتأخرات بلغ 5 %، وغالبا ما تضطر العديد من جمعيات القروض الصغرى إلى تغطية متأخراتها السنوية بفائض الأرباح المتوفر لديها تطبيقا لمبدأ الزبون الجيد الذي يؤدي نيابة عن الزبون غير القادر على الوفاء بالتزاماته المادية، أو الزبون المتوفى، في إطار نظام المجموعة التضامنية، علما بأن الجمعيات المذكورة "تعجز"عن متابعة المستفيد قانونا رغم توفرها على محام، فتكتفي بالتهديد دون تنفيذه على خلفية دورها الذي يلزمها بمساعدة الفئات المعوزة والهشة. والمؤكد أن هناك جمعيات تخرق قانون السلفات الصغرى باللجوء إلى إجراء الحصول على شيكات من زبنائها على سبيل الضمان، مما يضرب في العمق المبدأ القاضي بتوفير السيولة للعاجزين عن ولوج الأبناك، وفي ذلك تناقض مكشوف من حيث أن الزبون الذي له القدرة على ولوج المؤسسات البنكية هو أصلا في غنى عن ولوج مؤسسات القروض وسلفاتها الهزيلة، ومن جهة أخرى فغالبا ما تؤدي الجمعيات فاتورة بعض مواقف السلطات المحلية، كما هو الحال بالنسبة لأسواق تعرضت للحرائق والتهمت النيران كل الدكاكين التي يملكها زبناء جمعيات السلفات الصغرى، وتعرضوا للإفلاس من حينها، ولا السلطات تدخلت لتعويضهم ولا الجمعية استردت قروضها منهم. الفقر يرافق "الكفر" وبالعودة إلى "لكريدي"أشارت إحدى النساء إلى أنها هربت من الدعارة عن طريق حلم قادها إلى الحصول على سلف "صنعت"به أشياء للبيع ولم تفلح في خطوتها لتعود إلى سوق الدعارة من جديد للحصول على المال الكافي، وأخرى لم تتوقف دموعها عن التقاطر لحظة حديثها عن ويل القروض، وكم من امرأة رغبت في البحث عن "حرية مالية"، بحسب قول ثالثة، فتوجهت إلى جمعيات السلفات دون إذن من زوجها، وتسبب ذلك في عدة مشاكل وحالات طلاق، وهناك رجال إذا لم يتقدموا بأنفسهم للحصول على قروض صغرى، دفعوا بزوجاتهم لذلك، وكلما"تورطت"الزوجة يلجأ الزوج إلى التملص بلوم الجمعية على منحها القرض لزوجته دون إذنه. ورغم ذلك فان بعض التقارير المتعلقة بقطاع القروض الصغرى الذي بدأت تجربته في بلادنا عام 1993، تفيد بأن هذه القروض ساهمت بشكل ملموس في تطوير حياة الكثير من المغاربة والمغربيات، واحتوت معاناة الكثيرين مع البطالة والبؤس، وحتى بالرغم من تخلي الكثيرين عن فكرة الاقتراض لعوامل دينية فإن الظروف المتوحشة تدفع المرء أحيانا إلى احتضان أي شيء ، فما عسى المواطن أن يفعل أمام صعوبة الحياة المؤثثة بالفوارق الطبقية؟ ثم أو ليس الحكمة تقول بأن الفقر يقود إلى الكفر؟، وربما من الزاوية الدينية انتشرت عملية "دَارْتْ"بين الأوساط الشعبية، ذلك حين أضحت القروض ثقافة اجتماعية بامتياز.