18 - ويقينا ان الشباب الذي غمر الميادين في الرباط وتونس العاصمة، وشيئا ما شوارع الجزائر العاصمة، وبعض نواكشوط، فضلا عن الاحداث الاولى في بني غازي بليبيا، لم ينتفض، ولا ثابر اياما واسابيع، ويواصل، بحتاجر تبح، و حشود تتزاحم باعمار مختلفة. وعزيمة ثابتة ووعي متفجر، لم يفعل هذا وذاك لأنه ينشد الوحدة، من اي نوع، ولا ارادته شحذت في المغرب، مثلا، كي ينهي الحكام الجزائريون اغلاق الحدود مع جارهم المغربي، ويسمحوا للبلدين بعودة تعايش مثمر،و لا الشباب الجزائري نبس ببنت شفة عن اي لاعج من اللواعج المشتركةفي المنطقة المغاربية، سواء وهي منظورة او كامنة في اللاوعي الجمعي. لقد فاضت مظاهرات الشباب التي بشرت بالربيع العربي، قبل ان يحصد ثمارها غيرها من المتربصين والمنظمين، رافعة شعارا واحدا يجمل كل حركتها ويتكون من عبارتين خفيفتين على اللسان، ثقيلتين في الميزان، »ارحل« و »الشعب يريد اسقاط الفساد« لم يتوفر لهذه الفصيلة النافرة من المغردين بارهاصات الربيع الطلق برنامج ولا اجندة ولا حتى موجه معلن، سوى حناجرهم وغضبهم. انفجرت رد فعل اثر الحادثة الشهيرة للشهيد البوعزيزي في قرية سيدي بوزيد البطلة، التي توجت بهروب الدكتاتور زين العابدين بن علي، الملقب منذئذ ب زين الهاربين وسقوط نظامه الاستبدادي. لتنتقل الشرارة، كما نعلم، الى ميدان التحرير القاهري لتحرق بنارها دكتاتور مصر (حسن مبارك) ثم لتسري النار بعد ذلك في الهشيم. هنا يمكن القول بان الشارع العربي، نخبته الفتية المتنورة. خريجيه الجامعيين العاطلين، هيئاته المدنية، الحضرية والقروية كذلك. شبيبته المنظمة سياسيا والمتمردة على كل تنظيم، هؤلاء واولئك، اناثا وذكورا فرادى وانفارا، وحدتهم الرغبة في اسقاط رموز الفساد، وارادة حصولهم على الحق في العيش الكريم والكرامة والعدالة. وسيادة القانون والديموقراطية، غدت المسألة الديموقراطية هي التراب الوطني والقومي الجديد لملايين العرب، وهذا اتحادهم او طموح اتحادهم الجديد، من المحيط الى الخليج. وما الاتحاد المغاربي الا رقعة في الشطرنج الكبير، واننا لمدعوون لامعان النظر في تركيب هذه الجغرافيا المختلفة، تبدو للبعض مجرد زبد سيذهب جفاء، بعد ان تكسرت امواجه على صخرة الواقع الصلد، بيد ان الواقع يتبدل، ووقائعه ما تنفك تتحول ومعطياته تتجدد، واحلام اهله بلا حدود. هل يمكن، بعد هذا، التعاطي مع الظرفي والمؤقت لاستقراء رأي او موقف معقول بخصوص توجه خارجي ذي طبيعة استراتيجية. من ظاهرة التحولات السياسية والنفسية الكبرى للمجتمعات العربية من بؤرة حركة الانتفاضة الشبابية، فيما هي فورة ونسيج تختلط فيه حساسيات متعددة ومتنافرة ثقافيا وايديولوجيا قاسمها المشترك هو الاحتجاج بالدرجة الاولى؟ اجل، انما لابد من اخذها بالاعتبار وبقوة، نظر لوضعها كرافد ورأس مال الغد. 18 - وليس ابعد عن هذا المعنى قولنا ان مفهوم النخبة في الاخير، اذ يحمل معاني الصفوة والحاشية في الحكم، والخاصة. وعلية القوم والمتميزين والانتلجنسيا، والمتنفذين في مواقع القرار، ومثله، له في الان مفهوم رجراج، مرن وقابل للتعبئة بالمعنى حسب الحقب التاريخية والثقافية، ووفق درجة التعليم والنمو وتكافؤ الفرص في بلد معين. وانه كلما كانت للنخبة قدرة القرار والتأثير الا واعتبر الحقل الذي ترتبط به ذا اهمية. و قابلا لان يخضع بشكل ناجع لتصورها واختياراتها. نقول هذا لان موضوع الاتحاد المغاربي، وكل ما هو من قبيل التعاون او بصيغ التكامل الاقتصادي. مثلايندرجا اساسا في اطر مهيكلة رسميا بالدرجة الاولى. والقرارات الحاسمة فيه يمليها وينفذها الحكام، وهو في منطقتنا يملكون القول الفصل فيما تبقى اقوى النخب، واكثرها خبرة تأتمر بأمرهم،و تخطب ودهم او تخاصمهم بمقدار، ولها بعد ذلك ان تهرطق على هواها، ولذلك يصعب علينا الجزم بحقيقة الرغبات في هذه المسألة. والنظرلكل ما بحثنا فيه كافتراضات وفرضيات، لا سيما ونحن في هذه الجغرافية الخصوصية من العالم العربي نعيش فترة غليان تتطاير فيها شظايا المقولات والمعاني، بل و ما كان الى عهد قريب يعد من قبيل المقدسات. نقول هذا لنخلص الى أن تبلور دولة مؤسسات بشكل صحيح، في مناخ تسود فيه الديموقراطية، وهو مسلسل طويل الامد، ويتاح فيه لاوسع قطاعات الشعب التعبير عن حاجاتها، واستشراف تمنياتها المستقبلية في علاقاتها بالمحيط الخارجي، القريب والبعيد منه، لهو الكفيل في نهاية المطاف بدفع الشعوب الى ربط جسور تواصل متين. و تعاون متكافل، تختار له ما تشاء من الأسماء والعناوين، وليس »إرادة رجل واحد« كما زعم عبد الله العروي الذي قدم في هذا الصدد آراء جوهرية، بكل تأكيد. 19 - وبعد، فقد قدمت لهذه الورقة باستهلال ذي نكهة شخصية وبرواية عنصر من سيرة ذاتية، ولا أجد أفضلمن العنصر ذاته لكلمة الختام، منداة بالشوق والمنى لما هو غائب ومتفقد. لقد بدا في استهلالي وكأني أنفر من بلد صميم، من جارنا الشرقي، أو أظهر تجاه أهله بعض خيبة أمل. وهو استنتاج محتمل في حد ذاته، لولا أنني صمتت خلاله عن إحساس وعن معنى لم تكن الأىام قد وهبتنيه بعد. أظن أن أحد الأسباب الخلافية الكبرى بين الشعوب، ومصدر سوء تفاهمها وتباعدها، هو اسقاطات الواحد على الآخر، وافتراضه المسبق، التسلطي، بإمكانية إن لم نقل حتمية النظير، ولم لا المتسيد، لا الند أو المحاور والمكمل الضروري. لا تعاون ولا تكامل مع استبداد الرأي، وإرادة الهيمنة ونزعة التوسع والشعور بالتعالي وعجرفة الماضي، ولا وعي النعرة، وغياب قابلية التنازل لفائدة مصلحة مشتركة. وكنت قد أسقطت الكثير على من ذهبت إليهم في مهمة تعليمية تربوية. مغلبا أهوائي على حقهم، وغلوائي على طبيعة مزاجهم، وهم في بلدهم علما بأني وفدت إليهم ملء الحماس والمحبة. وهو شعور يجد نسغه في سنة 1969 حين قمنا نحن جماعة مجلة »أنفاس« وتيارها الأدبي برحلة تاريخية حقا قادتنا صيف ذلك العام البعيد جدا اليوم، إلى الجزائر وتونس، عبر الطريق البري على متن سيارة من نوع بوجو 404 (الشاعران عبد اللطيف اللعبي، مصطفى النيسابوري، الرسام محمد شبعة، والمهندس السياسي الشيوعي أبراهام السرفاتي، وكاتب هذه السطور). كان حلما ومشروعا قررت تنفيذه جماعة أنفاس التي كنت من أعضائها لربط الصلة بأدباء ومثقفي المغرب العربي انسانيا وابداعيا ولطرح برامج للمستقبل. وإني مازلت أذكر أن زادنا كان قليلا، يكفي انحشارنا كلنا في سيارة واحدة، وفي الجزائر تكفل بمبيتنا من قصدنا من معارف وأصدقاء أذكر منهم الشاعر المغتال جان سيناك ومولود معمري وأسماء وازنة أخرى في الساحة الأدبية آنذاك. ووجدنا عند مضيفينا الحماس ذاته الذي قادنا إليهم، تشاغفنا كثيرا وتبادلنا الرأي، وتجلى لنا المستقبل زاهرا، وزاخرا بالمشاريع المشتركة بين مبدعي ومثقفي البلدين، وقد تبلور ذلك في ملفات حول قضايا وأفكار تهمنا جميعا. وقصدنا بعد أيام الديار التونسية حيث لقينا الحفاوة نفسها، واجتمعنا في ما أذكر باللساني رشاد الحمزاوي والقاصين عز الدين المدني، وسمير العيادي، حولهم ثلة من الأدباء والمثقفين الطليعيين. لقد كانت الطليعية في الثقافة والأدب والالتزام هي ما يقودنا واللحمة الرابطة في مسعانا وتعارفنا، نسعى إلى بناء مغرب عربي ثقافي وإبداعي برؤية طليعية. وقد نجحنا في خطواتنا الأولى، وكنا سنذهب أبعد لولا تكالب ظروف العسف السياسي في المغرب فتوقف المشروع، إنما إلى حين. كنا جيلا آخر، مختلفا عن جماعة مؤتمر طنجة، لا تكفينا الروح الوطنية، ونتقدم بشعلة إذكاء الروح التقدمية ومناهضة الرجعية ونزعة التحرر الشامل. كنا نخبة مستنيرة وثورية، غير محجوزة في القوالب السياسية ولا الهياكل الدولتية الجامدة. 20 - هذه الرحلة العظيمة، هي ما شجعني على الالتحاق للتعليم بالجزائر الشقيقة، هنا حيث عشت زمنا ثوريا وشاهدت خطوات بناء كبرى، وتحولات تاريخية، وملتقيات كفاح وتحرر، خاصة شعبا يولد من رماده، وجيلا فتيا يقبل أبناؤه على استعادة تعلم تاريخهم وثقافتهم ولغتهم، وصوغ هوية تناسب حاضرهم ومستقبلهم، وأنا أسهم بقسط في هذا المسعى، وفي الآن كنت أتخبط في همومي ونزواتي، وأبحث عن نفسي وأضيعها كلما توهمت أني قبضت عليها. لكني أتذكر أني هنا شغفت بالولادة الجديدة، وقدرة الشعوب على الصمود والنهوض، وهنا بدأ لساني العربي يذرب وهنا خفق قلبي بأول حب. وهنا كتبت بعض قصصي الأولى، وهنا غضبت من الناس لم أتريث لأحس بمشاعرهم، وأتفهم طبائعهم، وعدت إلى المغرب لأستأنف حياتي، كما تصورتها بمزاجي، لكن الجزائر كانت بالرغم مني قد سكنت شغافي، صرت أزعم مستقبلا أني من بين قلائل يفهمون هذا البلد وشعبه، ويقرأ أدبه العربي الفتي، ثم الناضج، بما هو أدبي ويعاشر كتابه بوصفهم كتابنا جميعا، وفي كل مرة يقفز أو يتغاضى أو يغيظ المعوقات السياسية المنفرة، ويشدد على أن التعليم والثقافة عامة، حقل الفكر والإبداع يمكن أن تينع بذوره، فيه ينبغي أن نزرع حبنا وتعاوننا وستخصب ترتبه لا محالة في انتظار هزم تلك المثبطات. لا أستطيع أن أتكهن بأي موقف / مواقف سيكون لنخب الغد الذين سيترعرعون في مناخ عولمة متصاعدة. مع تداخل للمصالح متسارعة، وشبه زوال للحدود بين اللغات والثقافات، ينجم عنها انبثاق هويات تنهض على هويات. لكني أومن أومن بأن حقول وأدوات التعليم والتربية والثقافة في بلدان المنطقة، وأبعد منها هي، المؤهلة لتجديد الروابط، والبرهنة على جدوى التعاون وأشكال الاتحاد، بمراعاة الخصوصيات والخطط القطرية، وهنا يلعب الكتاب والنخبة المثقفة بتعدد روافدها وتنوع بدائلها، دورا حاسما. وأومن بحكم انتمائي إلى جيل مخضرم: وطني وديمقراطي فعل الدولة الوطنية وبرنامجها، والمرتبط أيضا بالآصرة القومية، من ضرعها تغذى ونما، أن هذا الجيل يبقى مشدودا إلى حلمه إلى حنينه والانتماء إلى الأمة الواسعة والخريطة الكبيرة، مجال التعاون والتفتح الأكبر هو طموحه ويقع المشروع المغاربي في صلب هويته وبه سيتجدد ويغتني لا محالة.