بعد محاولة اغتياله.. زيلينسكي يقيل المسؤول عن أمنه الشخصي    شركات عالمية تتوجه نحو منع "النقاشات السياسية" في العمل    ما الذي قاله مدرب المنتخب المغربي النسوي عن مواجهة الجزائر؟    إحداث منصة رقمية لتلقي طلبات الحصول على "بطاقة شخص في وضعية إعاقة"    حموشي يجري مباحثات ثنائية مع عدد من نظرائه الإسبان    "كونفرنس ليغ".. أيوب الكعبي يقود أولمبياكوس إلى اللحاق بفيورنتينا في النهائي    بركان تؤمن بالحظوظ في "كأس الكاف" .. ورئيس الزمالك يؤكد صعوبة المقابلة    منتخب فتيات الجزائر يتجنب الإعلام    حراس خواص يشتكون غياب الأجور    إحداث منصة رقمية لتلقي طلبات الحصول على "بطاقة شخص في وضعية إعاقة"    تخصيص غلاف مالي بقيمة 98 مليون درهم لتأهيل المباني الآيلة للسقوط بالمدينة العتيقة لطنجة    صدمة أوناحي وحارث القوية في الدوري الأوروبي    سعار عضال.. خيال مخابرات الجزائر في مقال    العثماني يلتقي هنية في الدوحة والأخير يطلعه على مستجدات العدوان الإسرائيلي على غزة    هل جامعات المغرب مستعدة لتعليق تعاونها مع إسرائيل كما أعربت جامعات إسبانيا؟    مديرية الأرصاد: طقس حار وقطرات مطرية مرفوقة بالرعد بهذه المناطق    موسيقى نساء تطوان بين الماضي والحاضر (1)    المحكمة الإدارية تقضي بأداء وزارة الصحة تعويضا لمتضررة من لقاح كورونا    الكعبي هداف دوري المؤتمر الأوروبي    عبد اللطيف حموشي يجري مباحثات ثنائية مع عدد من نظرائه الإسبان    حيار: إصدار بطاقة "إعاقة" لحظة تاريخية فارقة انتظرتها هذه الفئة منذ 40 سنة    الإيسيسكو تنظم أكثر من 60 نشاطا بجناحها في الدورة 29 للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط    نصف ولاية حكومة أخنوش.. التوازن الإصلاحي كلمة السرّ في النجاحات المحقّقة    تخصيص غلاف مالي بقيمة 98 مليون درهم لتأهيل المباني الآيلة للسقوط بالمدينة العتيقة لطنجة    تداولات بورصة البيضاء تتشح بالأخضر    وزارة الحج والعمرة السعودية تشدد في إجراءات دخول أداء المشاعر المقدسة    المغرب ينقذ مرشحين للهجرة السرية    زعيم المعارضة في إسرائيل يدعو "نتنياهو" إلى إقالة "بن غفير"    الجيش الإسرائيلي يعلن اغتيال قائد كبير لحماس في غزة    بوريطة: الأمن الغذائي، أولوية استراتيجية ضمن السياسة الإفريقية لجلالة الملك    الإنزال الجوي الخاطئ للمساعدات في غزة يودي بحياة 21 فلسطينيا    أخنوش يرد على الشامي: تقريرك لم يأت بجديد وحلولك غير مقنعة    السعودية تختار المغرب باعتباره الدولة العربية الوحيدة في مبادرة "الطريق إلى مكة المكرمة"    بايتاس… عدد الطلبات المتعلقة بالدعم المباشر للسكن تناهز 64 ألف طلب    الحكومة ترد على جدل أسترازينيكا.. اللقاحات في المغرب لا يتم العمل بها إلا بعد الترخيص    الدورة 22 للمهرجان الدولي لسينما التحريك بمكناس    الأمن يمنع ترويج آلاف "الإكستازي" بطنجة    "كارثة" في نصف نهائي دوري أبطال أوروبا وتوخيل يصب غضبه على التحكيم    245 ألف ليلة مبيت سياحية بوجهة طنجة            مرضى السكتة الدماغية .. الأسباب والأعراض    تراجع أسعار السيارات الكهربائية لهذا السبب    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية    سبع دول من ضمنها المغرب تنخرط في مبادرة "طريق مكة" خدمة لضيوف الرحمن    المغرب يدخل القطيع المستورد من الخارج الحجر الصحي قبيل عيد الأضحى    ارتفاع أسعار النفط مدعومة بتقلص مخزونات الخام الأمريكية    بعد اعترافها بآثاره الجانبية المميتة.. هيئة أوروبية تسحب ترخيص لقاح كورونا من أسترازينيكا    أفق جديد لسوسيولوجيا النخب    جوائز الدورة 13 لمهرجان مكناس للدراما التلفزية    متحف "تيم لاب بلا حدود" يحدد هذا الصيف موعداً لافتتاحه في جدة التاريخية للمرة الأولى في الشرق الأوسط    علم فرنسا يرفرف فوق كلية الطب بالبيضاء لتصوير "حرب العراق" (صور)    ريال مدريد يضرب بايرن ميونخ 2-1 ويتأهل رسميا لنهائى أبطال أوروبا    ملتقى طلبة المعهد العالي للفن المسرحي يراهن على تنشيط العاصمة الرباط    الحمل والدور الحاسم للأب    الأمثال العامية بتطوان... (593)    المؤرخ برنارد لوغان يكتب: عندما كانت تلمسان مغربية    السعودية تفرض عقوبات على مخالفي أنظمة وتعليمات الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المناضل سعد الله صالح، يتذكر: النهر العنيد
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 14 - 07 - 2014

مثل كتاب قديم أتصفح أوراقه، شرعتُ أُقلب صفحات ماضي الشخصي ، صفحةً صفحةً. تسعفني الذكريات حينا و تتمنع علي في بعض الأحيان. غير أن إصراري لم يلن للعودة بذاكرتي إلى مداها الأبعد من أجل تسجيل أكثر ما يمكن من محطات، خاصة منها تلك التي وضعت بصماتها على طفولتي و صباي الأولين و كونت إحساسي الوطني وأثرت في كمُقاوم و رسمت مسار حياتي كمناضل إلى يومنا هذا من أجل تقدم و رفعة هذا الوطن. و قد تكون هذه المحطات، أحداثا وطنية عامة طبعت جيلا بكامله، مثل الأحداث الكبرى التي عرفتها بلادنا و هي ترزح تحت الاستعمار، أو تلك التي عاشتها بعد الاستقلال من صراع بين قوى التقدم المتطلعة لغد أفضل لجميع فئات الشعب المغربي و بين الرجعية المتحلقة حول النظام و المُتحالفة معه من أجل استنزاف خيرات البلاد و قمع العباد. كما قد تكون محطات و أحداث شخصية، تندرج في سياق الأحداث الوطنية الكبرى، بدءا من انضمامي للمقاومة المسلحة ضد الاستعمار إلى المشاركة في جيش التحرير بالجنوب إلى مشاركتي في بناء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية و الاتحاد الاشتراكي تاليا،و تأسيس النقابة الوطنية للتعليم و أداء ضريبة هذا النضال في السجون والمعتقلات منذ الستنات حتى أواخر سبعينات القرن الماضي بما في ذلك معاناة تجربة «الكوربيس» الفظيعة .
هذه المذكرات شهادة صادقة على الأحداث و الوقائع التي عشتها و التي شاركتُ فيها أو تلك التي سمعت عنها من أفواه أصحابها و صُناعها. و في كل هذا أنا واثق بأن حقائق كثيرة قد فاتني ذكرُها إما لأني لم أشهدها أو لأن دائرة النسيان قد ابتلعتها، و لكني فيما يلي لا أروي سوى الحقيقة و لله على ما أقول شهيد.
تزامن تذمر المتضررين من الضبط مع رغبة البعض آنذاك في القضاء على جيش التحرير و زرع الفتنة داخل صفوفه، فاستغلت مراكز القرار بالرباط هذه الأجواء و طفقت في عملية تحريض انتهت بمحاولة انقلاب خطيرة داخل جيش التحرير.
و هذا ما حصل بالفعل، ففي أواخر صيف 1957 ، تخلت بعض المجموعات عن مواقعها (و هذا أمر بالغ الخطورة في وقت الحرب) داخل الصحراء المقابلة للعدو سواء الفرنسي منه أو الإسباني، و طوقت مدينة بويزكارن، و هي موقع حساس و ممر ضروري للصحراء، إذ لا يمكن للقادم من الشمال عبر أكَدير و المتوجه إلى كَولميم إلا أن يمر عبر بويزكارن.
و قد جاءت هذه المجموعات التي كانت تعتزم احتلال بويزكارن، بهدف اعتقالنا أو تصفيتنا و كانت لديها ? كما علمنا فيما بعد ? توجيهات بالقضاء على أفراد المقاومة. إذ كانت هذه المجموعة تُكن عداء غير مبين لمقاومي الساعات الأولى. بينما هم في الأغلب كانوا من الملتحقين بجيش التحرير أثناء قدومه من الشمال إلى الجنوب، و أغلب ضباطه و قادته كانوا مرتبطين بالرباط الذي صدر منه التوجيه بالقضاء على أعضاء المقاومة الذين لا يشكلون إلا "شرذمة صغيرة" وسط بحر جيش التحرير، و هذا أمر سنعرفه بعد اعتقالهم و استنطاقهم.
بعد أن أطبقوا على بويزكارن تقدم أفراد هذه المجموعات أربعين كيلومترا إلى الأمام نحو كَولميم، حيث مقر القيادة العامة لجيش التحرير، و باتوا يهددون باحتلالها ،لدرجة أننا أصبحنا نتحرك داخل المدينة مسلحين برشاشاتنا و في مجموعات يحمي بعضُها بعضا. كانت تلك ظروف قاسية و حرجة جدا إذ يشق علينا أن ندخل في اقتتال داخلي و نحن جئنا في الأصل لمحاربة العدو و تحرير الوطن. أما المدنيون سكان المدينة، الذين رحبوا بنا و اندمجوا معنا فأصبحوا ينظرون بتوجس و رهبة إلى ما ستأتي به الأيام.
بعد مرور مدة طويلة على هذا الوضع، بدأ حماس المتمردين يفتُر و أصيبوا بالعياء، إذ لم يتمكنوا من الهجوم لاحتلال كَولميم لأننا كنا لهم بالمرصاد من جهة و لم يرضوا بالانسحاب من جهة ثانية. أثناء ذلك كانت تحصل بعض المناوشات بيننا و بينهم لدرجة أنهم حاولوا اغتيال بنسعيد أيت إيدر لكنهم أصابوا سيارته فقط.
و أمام هذا المأزق تدخلت قيادة المقاومة لنزع فتيل المواجهة، و في هذا الإطار جاء حسن الاعرج رحمه الله صحبة بعض قادة المقاومة للتفاوض مع المتمردين، و طالبوهم بتسليم أنفسهم. إلا أنهم ردوا أنهم لن يسلموا أنفسهم إلا للجيش الملكي. فتم الاتفاق بين قادة المقاومة و بعض ضباط الجيش الملكي على أن يسلم المتمردون أنفسهم لهم.
و بالفعل تمت هذه العملية في قيادة بويزكارن و تحت إشراف محمد المرواني قائد المدينة، و هو مقاوم سابق من الذين اقترحتهم قيادة المقاومة على محمد الخامس لتعيينهم في مناصبهم الإدارية تلك. و بدأت عملية الاستسلام بأن يتقدم أعضاء المجموعة المتمردة فردا فردا فيعطي إسمه و رتبته و يسلم سلاحه و يصعد إلى شاحنة الجيش الملكي.
بعد إركابهم الشاحنات، و كان عددهم يناهز المائة بمن فيهم خمسة من قادة الرحي، تحركت هذه الشاحنات في اتجاه الشمال مخفورة بسيارتي "دجيب"، إحداهما في المقدمة و الثانية في المؤخرة. و ما أن وصل الموكب إلى "ثلاث لخصاص" حتى انعطفت سيارة الدجيب الأولي يسارا و توجه الموكب نحو معتقل خُصص للمتمردين الذين فوجئوا بأنهم سقطوا في أيدينا و ليس في أيدي الجيش الملكي كما كانوا يرجون.
في المعتقل تم الشروع في استنطاقهم، فأخذنا منهم، خاصة من الضباط، معلومات كافية حول مع من كانوا يتصلون و من كان يُحرضهم و لأي غاية ...و هو ما كان كافيا بالنسبة لنا لاقتناعنا بأن المؤامرة مُدبرة من الرباط. إذ تبين من خلال اعترافاتهم أن بعض الضباط كانوا يتلقون تعليمات من العاصمة بعدم تنفيذ الأوامر العسكرية لقيادة جيش التحرير في حربهم ضد الاستعمارين الفرنسي و الإسباني، و بنشر أخبار زائفة لدى شيوخ القبائل الصحراوية حول تخلي قادة جيش التحرير عنهم و بتحريض الجنود على المطالبة بالزيادة في أجورهم و الادعاء بأن الحكومة تمنح أجورا مجزية للضباط و الجنود إلا أن قيادة جيش التحرير تحتفظ بها و لا توصلها إلى مستحقيها. و قد عملت مثل هذه الإشاعات الزائفة على زرع نوع من التذمر، تطور بدوره ليتحول إلى عصيان و تمرد.
و تبين أيضا ضلوع عامل الرباط المحجوبي أحرضان و رئيس الحكومة امبارك البكاي آنئذ في المؤامرة إذ أخبرا أحد الضباط المتمردين (و هو علال بن عمر) بأن الحكومة تزود جيش التحرير بعدد كبير من الملايين و أن الأجرة الشهرية لكل ضابط ينبغي أن تكون مائة ألف فرنك، و ليس أقل من ذلك كما كان جيش التحرير يؤديها، و وعداه إذا ما تم الاستيلاء على قيادة جيش التحرير بتسلم ذلك القدر من الدراهم و إذا أخفقت المهمة فإن "الرئيس البكاي و المحجوبي أحرضان سيقفان معنا لدى سمو ولي العهد لندخل الجيش الملكي بمراتبنا كضباط" حسب ما ورد في اعترافاته.
و بالفعل ما أن بلغ خبر اعتقال المتمردين من طرفنا، حتى توالت الاتصالات الهاتفية بالقيادة تطالب بتسليمهم للجيش الملكي كي يحقق معهم بنفسه. و سلمنا الضباط الكبار للرباط و احتفظنا بباقي الجنود.
إذا كان هذا الحدث الخطير لم يَنَل الأهمية التي يستحق في تاريخ جيش التحرير، و لم يتم الوقوف عنده طويلا و لا عند تداعياته ، فلأن حدثا أكبر قد غطى عليه و هو اندلاع انتفاضة أيت باعمران في الثالث و العشرين من نوفمبر 1957 التي طغت على هذا الحادث.
و القصة هي التالية فبعد الاستقلال، انسحب الإسبان من المنطقة ، إلا أنهم لاحظوا الفراغ الذي تركوه بحيث أنه لم تحُل الإدارة أو السلطة المغربية محلهم، و لم يكن يسير أمور السكان سوى أعضاء حزب الاستقلال. لذلك قرر الإسبان العودة إلى مواقعهم و إداراتهم و اعتقلوا عددا من السكان الوطنيين و طفقوا يستنطقون بعض المواطنين الباعمرانيين حول نشاطهم في تلك الفترة الانتقالية. مما اضطر قيادة جيش التحرير إلى اتخاذ قرار بمواجهة العدو الإسباني.
فمُقابل سياسة المهادنة التي اتبعتها القيادة العامة لجيش التحرير حيال إسبانيا، زادت هذه الأخيرة من أعمالها الاستفزازية مما وتر العلاقات بين الطرفين و دفع جيش التحرير إلى اتخاذ الموقف الذي يفرضه عليه الواجب الوطني و هو مواجهة العدو الإسباني الذي ما فتئ يبين عن عدائه بشكل جلي و مُستفز.
و تبين فيما بعد أن هذا التغير في السياسة الإسبانية، قد جاء نتيجة محادثات فرنسية-إسبانية في شهر يوليوز 1957 و هي المعروفة بمحادثات "سان سيباستيان" و التي انتهت بالاتفاق بين الحكومتين الإسبانية و الفرنسية من أجل توحيد جهودهما لمواجهة جيش التحرير، و التزمت خلاله إسبانيا بشغل جيش التحرير بمعارك تترك المجال لفرنسا كي تتابع محاولاتها التقسيمية في موريتانيا و تندوف. و كانت فرنسا تخطط لتحويل الرأي العام العالمي عن القضية الجزائرية و تسليطه على مشكلة إيفني و الصحراء.
تم الاتفاق بين قيادة جيش التحرير و شيوخ قبائل أيت باعمران على أن يتم شن هجوم كاسح في وقت واحد و هو صبيحة 23 نوفمبر 1957. على أن يشمل معظم المراكز العسكرية الإسبانية بأيت باعمران. و بالفعل بدأت ثورة أيت باعمران بالهجوم على إفني و تاليوين و تغزا و ثلاثاء أسبويا و تبركوكت أيت السمور، و هي الثورة التي حررت تسعة أعشار منطقة أيت باعمران و لم يبق سوى إفني التي حاصرها مقاتلو جيش التحرير و مجاهدو أيت باعمران، لكنهم لم يشاؤوا دخولها كي لا يعرضوا سكانها المدنيين لضربات البوارج الحربية الإسبانية المرابطة في عرض البحر.
و لم تكتف الحكومة المغربية بعدم استغلال هذا الحصار لعرض القضية على المحافل الدولية، بل إنها عمدت إلى إهمال تموين و تمويل جنود جيش التحرير الذين خلفوا عائلاتهم و أسرهم دون معيل للقيام بواجبهم الوطني، مما يضع علامة استفهام كبرى حول ضلوع السلطات المغربية في مؤامرة ستتضح معالمها فيما بعد.
الحلقة المقبلة:
معركة دار حمايدوش


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.