حزب الاستقلال يؤجل انتخاب أعضاء لجنته التنفيذية    ترقب وقلق بعد إعلان بيدرو سانشيز رغبته في الاستقالة من رئاسة الحكومة الإسبانية    "ذا صن" البريطانية تنشر خريطة المملكة المغربية كاملة وتوجه صفعة جديدة لأعداء الوحدة الترابية    الدرهم يتراجع بنسبة 0,46 في المائة مقابل الأورو    تعميم المنظومتين الإلكترونيتين الخاصتين بتحديد المواعيد والتمبر الإلكتروني على جميع البعثات الدبلوماسية والمراكز القنصلية    اتفاق جديد بين الحكومة والنقابات لزيادة الأجور: 1000 درهم وتخفيض ضريبي متوقع    الفيلم المغربي "كذب أبيض" يفوز بجائزة مهرجان مالمو للسينما العربية    اعتقال مئات الطلاب الجامعيين في الولايات المتحدة مع استمرار المظاهرات المنددة بحرب إسرائيل على غزة    بيع ساعة جَيب لأغنى ركاب "تايتانيك" ب1,46 مليون دولار    العسكر الجزائري يمنع مشاركة منتخب الجمباز في بطولة المغرب    نصف ماراطون جاكرتا للإناث: المغرب يسيطر على منصة التتويج    اتحاد جدة يقترب من إبرام صفقة الزلزولي    توقعات أحوال الطقس غدا الإثنين    هذه مقاييس الأمطار المسجلة بالناظور خلال 24 ساعة الماضية        دراسة: الكرياتين يحفز الدماغ عند الحرمان من النوم    توقيف مرشحة الرئاسة الأمريكية بسبب فلسطين    حصيلة ضحايا القصف الإسرائيلي على عزة ترتفع إلى 34454 شهيدا    الدورة 27 من البطولة الاحترافية الأولى :الحسنية تشعل الصراع على اللقب والجيش الملكي يحتج على التحكيم    نهضة بركان يضع آخر اللمسات قبل مواجهة اتحاد العاصمة الجزائري    قادمة من بروكسيل.. إفشال محاولة لإدخال هواتف غير مصرح بها    "خائف ومتوتر".. نتنياهو يخشى احتمال صدور مذكرة اعتقال بحقه من الجنائية الدولية    التاريخ الجهوي وأسئلة المنهج    مطالب بإحداث خط جوي دائم بين مطار العروي وفرانكفورت    طنجة "واحة حرية" جذبت كبار موسيقيي الجاز    رغم ارتفاع الأسعار .. منتوجات شجرة أركان تجذب زاور المعرض الدولي للفلاحة    الفكُّوس وبوستحمّي وأزيزا .. تمور المغرب تحظى بالإقبال في معرض الفلاحة    تتويج الفائزين بالجائزة الوطنية لفن الخطابة    شبح حظر "تيك توك" في أمريكا يطارد صناع المحتوى وملايين الشركات الصغرى    المعرض الدولي للفلاحة 2024.. توزيع الجوائز على المربين الفائزين في مسابقات اختيار أفضل روؤس الماشية    مور انتخابو.. بركة: المسؤولية دبا هي نغيرو أسلوب العمل وحزبنا يتسع للجميع ومخصناش الحسابات الضيقة    ميسي كيحطم الرقم القياسي ديال الدوري الأميركي بعد سحق نيو إنغلاند برباعية    نظام المطعمة بالمدارس العمومية، أية آفاق للدعم الاجتماعي بمنظومة التربية؟ -الجزء الأول-    خبراء "ديكريبطاج" يناقشون التضخم والحوار الاجتماعي ومشكل المحروقات مع الوزير بايتاس    الحبس النافذ للمعتدين على "فتيات القرآن" بشيشاوة    تعيين حكم مثير للجدل لقيادة مباراة نهضة بركان واتحاد العاصمة الجزائري    المغرب يشارك في الاجتماع الخاص للمنتدى الاقتصادي العالمي بالرياض    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    محمد صلاح عن أزمته مع كلوب: إذا تحدثت سوف تشتعل النيران!    توقيف سارق ظهر في شريط فيديو يعتدي على شخص بالسلاح الأبيض في طنجة    صديقي: المملكة قطعت أشواط كبيرة في تعبئة موارد السدود والتحكم في تقنيات السقي    بمشاركة خطيب الأقصى.. باحثون يناقشون تحولات القضية الفلسطينية    مهرجان إثران للمسرح يعلن عن برنامج الدورة الثالثة    ما هو صوت "الزنّانة" الذي لا يُفارق سماء غزة، وما علاقته بالحرب النفسية؟    سيارة ترمي شخصا "منحورا" بباب مستشفى محمد الخامس بطنجة    رسميا.. نزار بركة أمينا عاما لحزب الاستقلال لولاية ثانية    خبراء وباحثون يسلطون الضوء على المنهج النبوي في حل النزاعات في تكوين علمي بالرباط    ابتدائية تنغير تصدر أحكاما بالحبس النافذ ضد 5 أشخاص تورطوا في الهجرة السرية    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    انطلاقة مهرجان سينما المتوسط بتطوان    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    انتخابات الرئاسة الأمريكية تؤجل قرار حظر "سجائر المنثول"    رحلة الجاز بطنجة .. عودة للجذور الإفريقية واندماج مع موسيقى كناوة    كورونا يظهر مجدداً في جهة الشرق.. هذا عدد الاصابات لهذا الأسبوع    الأمثال العامية بتطوان... (583)    دراسة: التمارين منخفضة إلى متوسطة الشدة تحارب الاكتئاب    بروفيسور عبد العزيز عيشان ل"رسالة24″: هناك علاج المناعي يخلص المريض من حساسية الربيع نهائيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخناق يضيق على المهدي بن بركة .. بن بركة يزور باريس.. للقاء الجنيرال دوغول
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 09 - 10 - 2014

لاسيما و لسوء الأقدار في كل مرة كان مفترضا أن يلتقي المخرج السينمائي جورج فرانجو، كان الموعد يفشل.
بداية شتنبر تسارعت الأحداث بعد لقاء القاهرة، التقى المهدي ببارنيي وفيغون يوم 20 من نفس الشهر. كان من المفترض أن يحضر السينمائي فرانجو. لكنه لسبب مجهول لم يحضر. كان المهدي بن بركة يجهل أن فيغون تعمد أن يفوت عليه رحلة ا لطائرة بإعطائه عنوانا خطأ للمكان الذي كان يفترض أن يأخذه منه إلى المطار.. في جنيف تناول بن بركة غذاءه في مطعم بورابورا رفقة كاتبته السويسرية مونيك ساموريل. وبحضور فليب بيرنيي، بعد الظهر التحق بهم جورج فيغون ليتلو عليهم مشروع العقد لمتعلق بالفيلم. لم تعجبه بنود العقد كما تليت عليه: كان لابد من مراجعتها وبالأخص أخبره فيغون بأنه عثر على منتج «إسرائيلي» لفيلم لم يكن المهدي يخلط بين انتقاده لدولة اسرائيل، بأي نوع من العداء تجاه اليهود - جوا أوحنا الذي كان يقيم في بيته عندما يكون في باريس أو صديقه هنري كورييل من أصول يهودية - لكنه استبق العواقب التي يمكن أن يستخلصها خصومه إذا ما قيل بأن «فيلم الثورة العالمية» ممول من هؤلاء اليهود الذين يعتبرون في العالم الإسلامي، ألد أعداء العالم العربي وفلسطين المغتصبة...
وكما لو أنه كان يريد زيادة الضغط، اقترح فيغون على المهدي شيكا، لكن هذا الأخير رفضه بلباقه «ارسلوا الأموال إلى الخيريات في المغرب!» . بعد ذلك انسحب بيرنيي من الرفقة ثم غادر سويسرا بعد موعد مع عشيقة. إلا أن فيغون لم يكن يريد الابتعاد عن فريسته. نجح في عقد لقاء ثاني مع المهدي في اليوم الموالي (21 شتنبر) وموعد آخر في يوم 6 أكتوبر، وكان المهدي قد عاد للتو من هافانا، ومرة أخرى فشل عقد لقاء مع فرانجو الذي لم يخبره أصدقاؤه بأن تاريخ العودة من كوبا تغير، ولم يتمكن بن بركة من الاتصال بفرانجو إلا عبر الهاتف بعد ثلاثة أيام.
في انتظار يوم الأربعاء 6 أكتوبر، كان فيغون لوحده في جنيف وتخاصم مع بيرنيي خلال لقاء مع فرانجو حول مسائل مالية وتوزيع امتيازات لإنتاج الفيلم، ومهما كانت علاقات المحتالين (فيغون/بيرنيي) مع عالم السينما أو مع رجال المخابرات أو مع المجرمين في كل هذه القضية، لم يكن يهمهما سوى المال، وهو ما بدأ يفرق بينهما: الحصول على أكبر نصيب.
بخصوص رحلة 6 أكتوبر إلى سويسرا، سافر الشتوكي، عميل الكاب 1 الملكف بتنسيق عملية مراقبة المهدي، سافر رفقة فيغون في نفس الطائرة.
هذه المرة كان العقد المتعلق بإنجاز الفيلم جاهزا. ويوضح في 6 بنود مايلي:
1 - جورج فيغون المنتج المنتدب للفيلم الجاري تحضيره تحت اسم مؤقت Basta !، والذي عهد بإخراجه للسيد فرانجو، والتعليق للسيدة مارغريت دورا بصفتها مسيرة لشركة (بريس أوروبيين مقرها 5، شارع لاشيز باريس، الدائرة السابعة)، يقترح على السيد بن بركة منصب مستشار سياسي للإنتاج بالنسبة لمدة إنجاز الفيلم من تصوره الذي شارك فيه.
2 - يحصل السيد بن بركة مجانا على نسخة من الفيلم فور إنتاجه ويتعهد بعدم استعمالها لأغراض تجارية (ويحصل بن بركة على 2% من مداخيل الفيلم)
3 - يضمن السيد بن بركة المسؤولية السياسية والتاريخية للفيلم، وعليه أن يعطي البيانات الأولية التي تسمح بوضع توجيهات العمل والاشراف على عمل المونتاج، والمساهمة في تعاليق السيدة دورا أو أي مساعد آخر في الانتاج.
4 - يمارس السيد بن بركة حق الرقابة على اختيار الصور أو على التعليق في كل ما يتعلق بالمستوى السياسي والتاريخي والأخلاقي باستثناء تصور المعالجة الفنية والسينمائية للموضوع المتعلق ب «تاريخ التحرر من الاستعمار ونضال شعوب العالم الثالث ضد الإمبريالية».
5 - يحتفظ السيد بن بركة، بعد مشاهدة الصيغة النهائية للفيلم، بحق تضمين أو حدف اسمه من الجينريك.
6 - يلتزم بن بركة بتسهيل اتصالات المخرج السيد فرانجو ومساعديه مع الحكومات والمصالح الرسمية، التي تسمح باختيار أو أخذ نسخ الأحداث من المكتبات السينمائية وعند الحاجة تسهيل الاستجوابات وأخذ الصور التي يظهر أنها ضرورية.
كان يبدو أن كل الأمور حلت في شفافية تامة، لكن كان ذلك خطأ فادحا. فبالإضافة الى الثنائي فيغون/الشتوكي، وصل الى جنيف في اليوم الموالي 7 أكتوبر، فريق ثاني مشبوه يتعلق الأمر بأنطوان لوبير، رجل مطار أورلي، وبوتشيش المجرم الذي يشرف على أماكن للدعارة بطنجة. كان هؤلاء يريدون التحقق بأنفسهم ما يحاك.
لوبير الذي كان يتحرك كسمكة لفائدة المخابرات المغربية، كان دائما «مراسلا» لمصالح المخابرات الفرنسية ولصالح الاستخبارات العامة دون أن نغفل علاقاته مع أحد عملاء الموساد الإسرائيلي وعضو في مكتب مكافحة المخدرات الأمريكية.
لكنه كان يخبر باستمرار صديقه مارتيل لوروا الملقب «فانفيل» أو الضابط المتعامل معه ميشيل بولان بما كان يجري. كان ذلك أفضل طريقة ربما وحدها لحماية نفسه في حالة و قوع مشكل «وتوريط» المخابرات الفرنسية...
ولذلك أخبر لوروا باجتماع القاهرة بداية شتنبر، ثم ظل يطلعه أولا بأول عن تقدم علاقات المغاربة مع بن بركة، وهكذا يوم 7 أكتوبر أشار في تقريره أن «فريق الشتوكي يحاول الوصول إلى بن بركة في جنيف، ويوم 8 أكتوبر أشار لوبيز أنه التقى في جنيف بالمدعو محمد جبايلي أحد مرافقي أوفقير، والذي سأله عن مكان وجود بن بركة، كان لوبيز يعتقد أن المهدي يوجد في جاكارتا، لقد استبق التاريخ المقرر لذهاب هذا الأخير إلى اندونيسيا.
قام لورا بناء على هذه المعلومات بتحرير تقرير لرؤسائه في مصالح المخابرات الفرنسية: «يوم 8 أكتوبر، التقيت لوبيز الذي أخبرني أن مغربيا يدعى جبايلي اتصل به هاتفيا وطلب منه الذهاب إلى جنيف، سافر لوبيز إلى جنيف يوم 7 أكتوبر، أخذ الطائرة بعد الظهر وعاد في مساء اليوم، جبايلي كان يريد أن يعرف من لوبيز إن كان بن بركة في جاكارتا، من جهة أخرى أخبرني أنه يسمح لبن بركة بالعودة رسميا إلى المغرب خلال الأيام الأولى لشهر نونبر وأنه سيتم تعيينه من طرف الملك ممثلا للمغرب في مؤتمر القارات الثلاث المقرر انعقاده في كوبا في بداية 1966.
غير أنه في الأيام الموالية كانت معلومات لوبيز تعطي معاني أخرى يوم 12 أكتوبر، قال إنه يخشي أن هناك محاولة «لتصفية المهدي».. السؤال سيطرح فيما بعد: ألم يكن سفر رجال الظلام هؤلاء إلى جنيف يرمي إلى محاولة اختطاف وربما اغتيال عراب مؤتمر القارات الثلاث؟ في اليوم الموالي 13 أكتوبر، كان لوبيز يواصل تعقب خطوات المهدي - بفضل لوائح المسافرين، حيث أشار إلى أن المهدي «الذي يقيم عادة في جنيف، عاد من لندن قبل أن يسافر يوم 16 أكتوبر 1965 إلى جنيف.
وفي حالة ما إذا كانت المخابرات الفرنسية تعتقد أن محاولات «الاتصال» مع المهدي تتعلق دائما بمصالحة محتملة بين بن بركة والقصر في الرباط، يبدو أن لوبيز وضع النقط على الحروف، إضافة إلى أنه كان يكفي المخابرات الفرنسية قراءة الاستجواب الذي أجراه حسنين هيكل مع المهدي بن بركة والذي نشر في جريدة الأهرام المصرية في منتصف اكتوبر، حيث تحدث فيه بن بركة عن عدم ثقته الكاملة في المفاوضات مع ملك المغرب: «اليوم يكتشف قادة الجيش أن تعاوننا مع الملك استأنف أو أنه على وشك الاستئناف. واكتشفوا أنه عليهم التحرك وإلا سيخسرون الجولة الأولى، أويمارسون ضغط لا يقام على الملك أو سيقودون ضدنا العمليات الحاسمة للتصفية بكل الوسائل، لا أعلم ما ستكون عليه الأمور غدا، لكن الاحساس بالخطر لم يسبق أن فرض نفسه علي بهذه الحدة».
لم يكن فيديل كاسترو ورفاقه وحدهم من حذر المهدي بن بركة بضرورة أخذ الاحتياطات الضرورية في مواجهة المخاطر المحدقة به، بل حتى في براغ أعطاه موظفون في المخابرات التشيكية وصفات للإفلات من المطاردة، ومواجهة عمليات التنصت وهي التقنيات التي كانوا متفوقين فيها وهي أمور ليست سهلة، لأنه مثلا قامت المخابرات الفرنسية بالتنصت على منازل بعض الصحفيين الذين كان يلتقيهم بباريس.
وفي هذه الفترة بالضبط أصبح اقتراح الحماية الذي طرحه عليه صديقه هنري كوريال قبل أسابيع أصبح ضروريا أكثر من أي وقت مضى، فقد طلب هنري كوريال رئيس جمعية تضامن الشبكة السرية القوية المكلفة بتقديم المساعدة التقنية لحركات التحرير، طلب من رفاقه حماية تحركات الزعيم المغربي، الذي أصبح مسموحا له بزيارة باريس بقرار رسمي من الجنيرال دوغول، أكثر من ذلك كلف كوريال البارون البلجيكي جيهان دو فانغن، أحد أقرب مساعديه بالاشراف على تلك الحماية.
دوفانغن الذي كان رفقة كوريال في السجن بسبب الدعم الذي كان يقدمانه لجبهة التحرير الوطني الجزائرية، كان يحظى بكامل الثقة، ولذلك اقترح كوريال على المهدي بأن يكون دوفانغن سكرتيرة في وكوبا بمناسبة انعقاد مؤتمر القارات الثلاث، في انتظار ذلك طلب من أعضاء جمعية تضامن في سويسرا، اضافة إلى قنصلية الجزائر التي كانت تحميه لضمان حماية أقوى أصبحت ضرورية خاصة وأنه كان مقتنعا بأنه كانت محاولة لاغتياله حتى قبل أن مجيء عصابة فيغون التي كان لا يعلم بوجودها.
في جنيف، حيث كان يقيم المهدي بن بركة لفترات طويلة، تكلفت المجموعة المحلية لجمعية تضامن بضمان حمايته، كما ذكر جيل بيرو كاتب سيرة كوريال، في كتابه «رجل استثنائي» لم يعد الأمر سهلا، فبن بركة لم يعد ذلك المناضل الذي يأخذ كامل احتياطاته... ربما استسلم للإحساس بعدم الوصول إليه الذي غالبا ما يستحوذ على شخص في وضعية سرية، وهو إحساس خطير يقود صاحبه إلى تعريض نفسه للخطر، فالسرية تستهلك صاحبها» والرئيس المرتقب لمنظمة القارات الثلاث كان سنة 1965 من هذه الطينة.
16 أكتوبر 1965 القاهرة
رغم الإرهاق والانشغالات كان «الدينامو» (المهدي بن بركة) يجد ما يكفي من القوة لشحذ بطارياته ومواصلة سفرياته المتعددة من أجل نسج خيوط مشروع منظمة القارات الثلاث، ولو على حساب عائلته الصغيرة التي لم يرها كثيرا حتى يوم 16 أكتوبر 1965، ورغم تواجده بالقاهرة، وبدل عشاء مع ذويه في المنزل، فضل العشاء بمقر إقامة صديقه سفير الجزائر بالقاهرة الأخضر الإبراهيمي، حيث تناول الحديث الصعوبات مع الرباط، والتقدم المسجل مع هافانا. كان عند السفير تلك الليلة العديد من الشخصيات من ضمنهم ألان سافاري رفيق التحرير والقيادي البارز في الحزب الاشتراكي الموحد الذي قدم استقالته سنة 1956 من حكومة غي مولي عندما قامت المخابرات الفرنسية بعملية تحويل الطائرة التي كانت تقل بن بلة ورفاقه القياديين في جبهة التحرير الوطني. دار الحديث، بطبيعة الحال، عن الانتخابات الرئاسية الفرنسية المرتقبة والتنافس بين دوغول وفرانسوا ميتران، وبالنظر إلى دور هذا الأخير كوزير للعدل خلال حرب الجزائر، لم يكن يحظى بتأييد الحاضرين تلك الليلة في مقر إقامة الإبراهيمي.
كان الوقت متأخرا، وكان المهدي ينوي في اليوم الموالي 17 السفر إلى أندونيسيا. بالنسبة للبعض، كان هذا السفر يهدف إلى المشاركة في «مؤتمر دولي حول تصفية القواعد الأجنبية» بينما يعتقد آخرون أن هذه الزيارة هي مناسبة لمعرفة موقف سلطات جاكارتا وإن كان ممكنا موقف الرئيس سوكارنو حول انعكاسات الأحداث التي تعيشها أندونيسيا منذ 15 يوما على التحضيرات لمؤتمر منظمة القارات الثلاث.
وفي الطريق إلى جاكارتا اكتشف أن الأوضاع استفحلت في الأرخبيل الشاسع، حيث تم إحراق مقرات الحزب الشيوعي الاندونيسي في جاكارتا، وبدأ جنود نخبة المظليين عمليات قتل واسعة في جافا، وبالأخص يوم 14 أكتوبر أجبر الرئيس سوكارنو على إعطاء منصب رئيس أركان القوات المسلحة للجنرال سوهارتو، لقد أخذت أندونيسيا طريقها نحو الدكتاتورية وتأكد المهدي من ذلك عبر جريدة لوموند ليوم 16، وهي الجريدة التي كان يحرص دائما على قراءتها والحصول عليها أينما وجد، لكن مقالا آخر أتار انتباهه: غيفارا وغاستون سوميالو ربما قتلا في الكونغو - ليوبولدفيل، وبما أنه توقف في دار السلام، اكتشف أن سوميالو رئيس المجلس الأعلى للثورة الكونغولية، حي بالفعل ويقيم في العاصمة التانزانية ولم يتوقف عن إصدار البيانات للتنديد بالدعاية الامبريالية المغرضة التي تروج لخبر مقتله.
وبما أن خبر جريدة «لوموند» كان إشاعة أخرى للأوساط الامبريالية، فإن شي غيفارا لايزال حياً. لكنه ظهر أخيراً في أفريقيا! وربما كان بإمكان المهدي لقاءه!
27 أكتوبر 1965/ سفارة الجزائر/ القاهرة
لم يصل المهدي بن بركة إلى مطار أورلي يوم 23 أكتوبر، لكنه برمج التوجه إلى باريس يوم الجمعة 29 أكتوبر، وأصبح أكثر فأكثر يتبع نصائح وتحذيرات أصدقائه، وعلى رأسهم كوريال ودوفاغن. تغيير مواعيده في آخر لحظة، تغيير حتى تذاكر الطائرات، الحذر من استعمال الهاتف، وربما كان عليه التخلي نهائياً عن استعمال الهاتف! كان ذلك مستحيلا، لأنه كان لابد له من تنظيم وعقد عشرات اللقاءات والمواعيد مع شخصيات من مختلف المشارب. وكان يحدث له أن يرتب عدة مواعيد في نفس الوقت وعدم حضورها في آخر لحظة أو يقرر موعداً لم يكن مبرمجاً، في آخر لحظة، وهو ما كان يخلق متاعب كبيرة لعشرات الجواسيس المكلفين من طرف أوفقير بتتبع خطواته كظله كلما حل بإحدى العواصم.
عند عودته من دار السلام، وليس من جاكارتا، كما كانت تعتقد عصابة لوبيز، عرج على بيروت، حيث كان يجري إعداد الترجمة العربية لكتابه «الخيار الثوري بالمغرب»، الذي يعتبر إعلان حرب حقيقي ضد نظام الحسن الثاني، ثم التقى صديقه في الجامعة البيربول لونتين الصحفي الذي التحق حديثاً بمجلة نوفيل أوبسرفاتور التي يديرها صديقه جان دانييل.
حدثه بن بركة عن أن الهجمة الرجعية والامبريالية التي سجلت مكاسب كبيرة لن تقتصر على أندونيسيا، وأنه يعتقد أنها ستتوسع أكثر وخاصة في أفريقيا. وفي هذا السياق الجديد على العالم الثالث الثوري والتقدمي أن يتأقلم بدوره مع الوضع الجديد ويبتكر أساليب عمل جديدة ويبلور استراتيجية شاملة في مستوى هذا التحدي... «كما ترى، يا صديقي أعتقد أنه في كل العالم الثالث تقريباً الدول ومجموعات الدول لن تقدم سوى دعم محدود لقوى التحرر الوطني، وأكثر من ذلك لقوى التحرر الاجتماعي...
سأله الصحفي: إذا ماذا يتوجب فعله في نظرك؟
التنظيمات اليسارية، الأكثر حرية في تحركاتها، هي التي يجب عليها أن تتحمل مسؤولية التحرك الثوري!».
كان يتوجب عدم استعمال الهاتف، كما قيل له من قبل. لكن بن بركة كان يعتقد على العكس أن الاتصال وإخبار أكبر عدد من الأصدقاء يشكل أفضل ملاذ في الوقت الذي كان سيتوجه إلى باريس بشكل مكشوف وفي واضحة النهار. وهكذا وقبل يومين أو ثلاثة أيام على زيارته لباريس أخبر بذلك واحدا من رفاقه الأوفياء، فانسان مونتاي. هذا الضابط خريج أكاديمية سان سير سبق واشتغل على التوالي ضابطا بشؤون الأهالي بالمغرب، وحارب في الفيلق الأول لفرنسا الحرة، ومراقبا في فلسطين وملحقا عسكريا في إيران قبل أن يشارك في المفاوضات الخاصة باستقلال تونس. كان مهتما شغوفا بالعالم العربي الإسلامي، لكنه لم يكن قد أسلم بعد. وتمكن سنة 1954 من إقناع بييرمنديس فرانس، الذي أرسله في مهمة إلى المغرب، أقنعه بالإفراج عن 40 معتقلا من الوطنيين من ضمنهم المهدي بن بركة؟
في سنة 1959، ومن لبنان حيث كان ينهي أطروحته حول اللغة العربية، تمكن هذا الضابط من ترتيب لقاءين للمهدي مع الجنرال دوغول وعند خروجه من اللقاء الثاني قال المهدي لصديقه فانسان مونتاي «لقد وجدت بطل العالم الثالث، لقد تفاهمت معه بشكل رائع، هذا هو الرجل الذي أحتاجه. ويمكنني القول أنني أتوسم فيه الكثير، والجنرال أكد لي أنني تحت حمايته بفرنسا، ويجعل من ذلك قضية شخصية. لا أخشى شيئا هنا».
هل تذكر الرجلان ذلك الرد عندما شرح مونتاي للمهدي عبر الهاتف قائلا: «آسف، السي المهدي، لن أستطيع استقبالك في باريس. في ذلك اليوم، علي أن أكون في دكار للدخول الجامعي..» ثم أضاف «ولكن عليك أن تنتبه جيدا. هل تحمل معك سلاحا على الأقل؟»
- لماذا أكون كذلك؟ بما أنني أتوفر على ضمانة رئيس الدولة نفسه، تذكر أنني تحت حمايته!».
وفي كل الأحوال لن يكون وحيدا في باريس. كان له أصدقاء سيلتقيهم يوم 29 أكتوبر أو صباح 30 أكتوبر (الجمعة أو السبت)، كان الأمر يتعلق بلقاء مع فرنسي آخر من الفرنسيين الأحرار، وهو المحامي مارسيل مانفيل وهو من لامارتينيك الذي كان رفقة مجموعة كوريال والفنزويلي أوسفالدو بارتيو، ينظم الاتصالات مع وفود جزر الأنتيل التي ستتوجه إلى مؤتمر منظمة القارات الثلاث، وهذا المحامي كانت له كذلك علاقاته في الإليزيه.
إضافة إلى أن أستاذ الرياضيات (المهدي) اتصل بأحد تلاميذه السابقين، التهامي الأزموري، وحدد معه موعدا في مقهى رومبوان (Rond-point) بالشانزليزيه حوالي الساعة الثالثة بعد الزوال يوم 29 أكتوبر، كان يريد منه إنجاز عمل ضخم في وقت وجيز: أن يعد له عملا توثيقيا عن تاريخ التحرر من الاستعمار، كان ينوي استعماله لتأطير التعاليق لفيلم «كفى!» (Basta). وفي الساعة الخامسة مساء، برمج المهدي بشكل متزامن لقاءين:
الأول مع مناضلة عالم ثالثية كانت عزيزة على قلبه وهي هانريان دو شابوناي، ولقاء ثاني مع جوهان دوفاغن الساعد الأيمن لكوريال، الذي اقترح عليه المجيء لمرافقته من مطار أورلي. لكن بن بركة رفض ذلك رغم أن دوفاغن كان ينوي أخذه في المساء إلى منزل أحد الاصدقاء لتفادي المبيت في الفندق.
لكن في نفس الوقت اقترح المهدي على أحد أصدقائه، وهو التهامي الطاهري الذهاب إلى المسرح مع زوجته وشقيقه عبد القادر بن بركة لمشاهدة عرض مسرحية (le gouter des geueraux) التي لبتها بوريس فيان.
وأخيرا، اتصل هاتفيا بالمخرج السينمائي جورج فرانجو واقترح عليه لقاء بمطعم سان جيرمان، وأكد هذا الاقتراح لبيرنيي الذي اقترح عليه بالمقابل الغذاء بمقهى ليب حوالي منتصف النهار و 15 دقيقة . قبل بن بركة الاقتراح واقترح دعوة مارغريت دورا للحضور إذا كانت ظروفها تسمح بذلك.
يوم 27 أكتوبر مساء، عشية مغادرته مصر في اتجاه سويسرا، التقى المهدي بن بركة مرة أخرى سفير الجزائر الأخضر الإبراهيمي. كان المهدي متحمسا ربما لفكرة الذهاب إلى فرنسا، لكنه في نفس الوقت كان متوجسا. لم يستطع السفير الجزائري إقناع صديقه بن بركة بعدم الذهاب إلى باريس رغم أنه حاول ذلك طيلة النقاش الذي استمر طيلة الليلة بين الرجلين. وأيضا بما أنه غادره في الصباح الباكر، سلمه جواز سفر جزائري خاص ( رقم 798 ) باسم الزايدي عبد الكريم. كانت تلك مبادرة شجاعة من الأخضر الإبراهيمي خاصة وأنه منذ شهر وبضغط من الحسن الثاني، قررت حكومة بومدين اعتبار المهدي بن بركة شخصا غير مرغوب فيه بالجزائر، وهو ما لم يكن بطبيعة الحال يشاطره جميع القادة الثوريين في جبهة التحرير الوطني، ويأملون أن يكون القرار مؤقتا.
في الفجر، رافق الإبراهيمي بن بركة إلى المطار الدولي القريب من سكناه بضواحي القاهرة، ليأخذ رحلته على متن الخطوط السويسرية في اتجاه جنيف، ويتذكر الإبراهيمي ما قاله له صديقه المهدي خلال نقاشهما طوال الليل، ولن ينساه أبدا، شيء ما كالتالي : «ولكنك ستذهب إلى باريس من أجل حكاية الفيلم.. ألا يمكنك تنظيم لقاءاتك في جنيف أو في مكان آخر غير فرنسا؟. بيرنيي هذا، ليس واضحا تماما لقد رأيته.
- نعم، أعرف، إنه قريب بشكل أو بآخر من المخابرات الفرنسية.. والمخابرات الفرنسية تتعامل مع المغاربة. ولكن لابد أن أذهب إلى باريس، لا خيار لدي...
- ولكن لماذا؟
- علي أن أرى الجنرال..
هل ستلتقي أوفقير من أجل التفاوض
- لا سألتقي بالجنرال
- الجنرال؟
- نعم، لقد فهمت، الجنرال، دوغول..».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.