لقاء مرتقب يجمع وزارة الصحة والنقابات    وزارة الفلاحة تترقب استيراد حوالي 600 ألف رأس من الأضاحي قبيل العيد    لاعب دولي مغربي يتعرض لاعتداء بشع في ألمانيا    الرجاء يرفع شكاية إلى لجنة الأخلاقيات ضد نابي مدرب الجيش الملكي بسبب تصريحاته    4 سنوات نافذة لصاحبيْ فيديو "شر كبي أتاي"    الاتحاد الهولندي يعين عادل رمزي مدربا لمنتخب تحت 18 سنة    زيادة 1000 درهم.. السكوري في رده على "البيجيدي": قمنا بما فشلت فيه الحكومات السابقة    المديرية العامة للأمن الوطني تنظم ندوة حول "مكافحة الجرائم الماسة بالمجال الغابوي"    الإيسيسكو تحتضن ندوة ثقافية حول مكانة المرأة في الحضارة اليمنية    "التنسيق الميداني للتعليم" يؤجل احتجاجاته    غامبيا جددات دعمها الكامل للوحدة الترابية للمغرب وأكدات أهمية المبادرة الملكية الأطلسية    هذا هو موعد مباراة المنتخب المغربي ونظيره الجزائري    تحرير ما معدله 12 ألف محضر بشأن الجرائم الغابوية سنويا    الشرطة الفرنسية تفض اعتصاما طلابيا مناصرا لفلسطين بجامعة "السوربون"    بالفيديو.. "الديستي" تساعد إسبانيا في الإمساك بقارب يحمل طنين من الحشيش    الملك يهنئ بركة على "ثقة الاستقلاليين"    تفاصيل حصرية على كيفاش تشد المجرم اللي قتل تلميذة بطريقة بشعة فصفرو: سبق ليه دوّز 5 سنوات نافذة ديال السجن بسبب تكوين عصابة إجرامية (صورة)    شنو هي قصة مرات سانشيث؟ وشنو المبررات اللي خلات سانشيث يبقى فمنصبو؟    الأنفاس مقبوطة فالحركة الشعبية...والسبب: انتظار جلسة النطق بالحكم ضد انتخاب محمد أوزين أمينا عاما    نيروبي.. وزيرة الاقتصاد والمالية تمثل جلالة الملك في قمة رؤساء دول إفريقيا للمؤسسة الدولية للتنمية    الرئاسيات الأمريكية.. ترامب يواصل تصدر استطلاعات الرأي في مواجهة بايدن    يوسف يتنحى من رئاسة حكومة اسكتلندا    مجلس النواب.. انطلاق الدورة الرابعة لجائزة الصحافة البرلمانية برسم سنة 2024    الدورة السادسة من "ربيعيات أصيلة".. مشغل فني بديع لصقل المواهب والاحتكاك بألمع رواد الريشة الثقافة والإعلام    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    الاتفاق رسميا على زيادة عامة في أجور العاملين بالقطاع العام بمبلغ 1000 درهم شهريا        المكتب الوطني للسياحة يضع كرة القدم في قلب إستراتيجيته الترويجية لوجهة المغرب    الفنان الجزائري عبد القادر السيكتور.. لهذا نحن "خاوة" والناظور تغير بشكل جذري    إدارة السجن المحلي بوجدة تنفي ما نقل عن والدة سجين بخصوص وجود آثار ضرب وجرح على وجهه    المغرب التطواني يتعادل مع ضيفه يوسفية برشيد    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    رسمياً.. رئيس الحكومة الإسبانية يعلن عن قراره بعد توجيه اتهامات بالفساد لزوجته    وزارة الفلاحة…الدورة ال 16 للملتقى الدولي للفلاحة بالمغرب تكللت بنجاح كبير    فيلم أنوال…عمل سينمائي كبير نحو مصير مجهول !    أسعار الذهب تتراجع اليوم الإثنين    رئيس ريال مدريد يهاتف مبابي عقب التتويج بالدوري الفرنسي    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولات الإثنين بأداء إيجابي        غزة تسجل سقوط 34 قتيلا في يوم واحد    إليسا متهمة ب"الافتراء والكذب"    الروائي الأسير باسم خندقجي يهزم السجان الإسرائيلي بجائزة "بوكر العربية"    المفاوضات بشأن اتفاق الاستعداد للجوائح بمنظمة الصحة العالمية تدخل مرحلتها الأخيرة    المنتخب المغربي يتأهل إلى نهائي البطولة العربية على حساب تونس    حكواتيون من جامع الفنا يروون التاريخ المشترك بين المغرب وبريطانيا    200 مليون مسلم في الهند، "أقلية غير مرئية" في عهد بهاراتيا جاناتا    إدارة أولمبيك خريبكة تحتح على الحكام    "عشر دقائق فقط، لو تأخرت لما تمكنت من إخباركم قصتي اليوم" مراسل بي بي سي في غزة    بعد كورونا .. جائحة جديدة تهدد العالم في المستقبل القريب    دراسة: الكرياتين يحفز الدماغ عند الحرمان من النوم    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    انتخابات الرئاسة الأمريكية تؤجل قرار حظر "سجائر المنثول"    كورونا يظهر مجدداً في جهة الشرق.. هذا عدد الاصابات لهذا الأسبوع    الأمثال العامية بتطوان... (583)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشاهدات وانطباعات من الحج : مناسك وتجارة ولصوصية وتحرش

هي مشاهدات وانطباعات عن موسم حج هذه السنة . انطلقت من مطار سلا، وانتهت إليه بعد شهر من الإقامة بين مكة ومشاعرها والمدينة ومآثرها.
مشاهدات وانطباعات... ووقائع عرفها هذا الحيز الزمني الذي كانت أبرز سماته : حرارة معدل درجاتها 48 و 3 مليون شخصاً، بل أكثر من ذلك. يتحركون رجالا ونساء جماعات وفرادى في كل الاتجاهات بكثافة قد تتجاوز ثلاثة بالمتر المربع الواحد وينتظمون دوائر حول الكعبة، عندما يؤذن الأذان ويعلن الإمام: «سووا صفوفكم... ».
إحرام من ...فاس
في مطار سلا، أرغمنا ارتباك الرحلات الجوية على الانتظار 12 ساعة، لتضيق بنا أرجاء هذه المنشأة، بعد أن وجدنا فوجاً من الحجاج قضى ليلته بسبب تأخر طائرته 36 ساعة..
قبل أن تغلق الطائرة أبوابها ذاك المساء. ونحن نحمل إرهاقنا وتعبنا ونرتخي على المقاعد، جاءنا صوت تحدث بصيغة الأمر: »أحرموا بعد ساعة إلا ربع من الإقلاع«، قالها وغادر الطائرة ليترك الدهشة في العيون والأسئلة على الألسن: هل نحرم قبل أن نصل إلى وجدة ونحن المتجهين إلى مكة لأداء فريضة الحج.! أي هل نتدثر بذلك الأبيض (الغير محيط ولا مخيط) ونشرع في التلبية (لبيك اللهم لبيك...) ونحن بين فاس وعاصمة المغرب الشرقي.!
كانت الطائرة أوكرانية اكترتها الخطوط الملكية المغربية، ولم تكلف إدارة ادريس بنهيمة نفسها عناء إرفاق الطاقم بمضيف أو مضيفة مغربية تعرف طبيعة الرحلة وتشرح للربان ومن معه أن عليه إخبار الركاب بأنهم على بعد ساعة قبل الوصول إلى مطار جدة، ليحرموا من الميقات الذي هو بالنسبة لنا نحن القادمين من شمال افريقيا هو مدينة رابغ الواقعة على الطريق السيار بين مدينتي ينبع وجدة.
ما رسخ في الذاكرة من كلمات إنجليزية شرحت للمضيفات بمعية بعض الحجاج أن يتم إخبارنا بعد عبور الطائرة البحر الأحمر أو أن تكون على مرمى ساعة من الوصول، حتى يتسنى لنا الإحرام والنية في أداء عمرة، لأن الركاب اختاروا الحج بالتمتع?
حسناوات، جميلات، ذوات قوام رشيق كن هؤلاء المضيفات الأوكرانيات وهن يبذلن أقصى مجهود لخدمة ركاب يتوجهون إلى أداء أحد فرائض الاسلام هن غير المسلمات كقائدي الطائرة وفروا ما أمكن من سبل راحة السفر لمئات من المسلمين في جو من التسامح الديني وكان لابد للسؤال أن يطرح: كيف لبعض الأشخاص والجماعات المتأسلمة أن تكفر أناساً وتستبيح دماءهم لمجرد أنهم غير مسلمي!!...
تعرفت ونحن في الطائرة على شاب وسيم اسمه عبد اله، إمام أحد مساجد باب الأحد بالرباط، اقترحت عليه أن يخاطب الركاب عندما يتم إخبارنا بأننا على مشارف رابغ، ويشرح لهم ما عليهم القيام به، رجالا بالإحرام ونساء بلباسهن العادي، وانطلقت التلبية إلى أن حطت الطائرة في الثانية والنصف صباحاً حسب التوقيت المحلي.
مطار جدة (مطار الملك عبد العزيز الدولي) بدا لنا كغابة أضواء والطائرة تخترق المدينة لتتجه صوب المدرج. هذا المطار هو بوابة الحجاج والمعتمرين، فإليه يفدون ومنه يغادرون إلا بعض الاستثناءات . تم افتتاحه سنة 1981 تترامى أطرافه على مساحة 100 كلم مربع. إنه أحد أكبر مطارات العالم مساحة ورواجاً، إذ بلغ مجموع الركاب الذين قدموا إليه أو غادروا في السنة الماضية 30 مليون شخص. الاجراءات كانت بطيئة بسبب احترازات صحية وتدقيقات إدارية... حملنا عياءنا وإرهاقنا على متن حافلات متواضعة، وبقدر ما كان الليل يطوي سدوله ويفسح المجال لغبش الفجر، كانت أراضي خلاء تتوزع جغرافيتها على تلال وجبال صخرية وامتدادات رملية تكسرها من حين لآخر أضواء بعض التجمعات السكنية? ها هي هوامش مدينة مكة تكشف عن شوارع فسيحة وأحياء يحاصر بعضها بؤس سوء التهيئة وتنتشر في أرجاء بعضها نفايات تتبعثر هنا وهناك . وأنت تتوغل في مكة التي تعد أحد أقدم المدن السعودية، تلاحظ تبايناً في عمرانها واختلالا في مجالها إلى أن تطل على قلبها النابض، حيث المسجد الحرام الذي تتربع وسطه الكعبة، فتفاجئك البنايات الشاهقة التي ما هي سوى فنادق ومراكز تجارية بعضها استوطن امكنة جبال صخرية تم افتراسها من طرف آلات ضخمة لتحيلها إلى مجرد ذكرى جغرافية.
توسعات ب 22 مليار دولار
وصلنا إلى الفندق في الساعة التاسعة صباحاً لتبدأ عملية التوزيع على الغرف وهي عملية صعبة يقوم بها أحد أنشط أفراد بعثة الحج المغربية واسمه مصطفى، لأن كل غرفة يجب أن تستضيف 4 أو 5 أفراد، ومنبع الصعوبة هو أنانية العديد من الحجاج واختلاف طبائعهم وتباين متطلباتهم. والفندق الذي أقمت به كان من بين 24 منشأة فندقية خصصت للحجاج المغاربة، يحتوي على 21 طابقاً بكل واحد منها 31 غرفة وفاق عدد ساكنيه 1500 شخص.. لم أجد صعوبة في جمع رفقاء لي في الغرفة. أولهم أخي وصديقي محمد بوهلال الذي تعود الصداقة بيننا إلى 30 سنة، باعتباره عميد مراسلي جريدة »الاتحاد الاشتراكي« ليس في فاس فقط، بل بشبكة المراسلين على الصعيد الوطني، وانضم لنا أحد الأطر البنكية (غ. عمر) الذي ساعدنا كثيراً في معرفة أرجاء الحرم ومرافقه والمراكز والأسواق المحيط به، لأنه اعتمر وحج لما يقارب العشر مرات، وكان رابعنا أحد الحجاج (س. عبد الرحمان) من مدينة فاس الذي عزز انسجامنا بمرحه وأطباقه... وقدرته على تكسير رتابة الوقت.
ها نحن بعد أقل من ساعة على استقرارنا نصل إلى المسجد الحرام قصد أداء مناسك العمرة من خلال طواف وسعي القدوم? نهر أو بحر بشري عارم، ذلك الذي يلف مبنى الكعبة، تتداخل الأصوات والأدعية والأذكار، كما تتداخل الأجساد في اتجاه عكس عقارب الساعة لا تُخمد هذه الحركة سوى إقامة الصلاة ليعود بعدها هذا البحر مباشرة بعد قول الإمام «السلام عليكم..» إلى أمواجه الهادرة..
من أبرز الملاحظات والعين تستجلي هذا البناء الضخم أن نصف محيط المسجد الحرام تقريباً تنتصب فيه رافعات عملاقة تسابق الزمن لاستكمال ثالث مراحل التوسعة التي وضع خطتها الملك عبد لله عاهل العربية السعودية، وهو مشروع اتسعت مرحلته الأولى لأكثر من 800 ألف مصل، والثانية والثالثة تشمل توسعة الساحتين الشرقية والغربية للحرم ليستوعب ما يقارب المليوني مصل جديد وتغطي هذه المراحل مليون متر مربع، وهو ما سيضاعف طاقة الحرم ثلاث مرات. ولإنجاز ذلك، شمل الهدم 100 عقار تنتشر على مساحة 13 هكتار، وكانت الحكومة السعودية سخية مع مالكيها إذ عوضتهم ب 50 مليون سنتيم عن كل متر مربع. وبلغ الغلاف المالي المخصص لهذه التوسعات 22 مليار دولار.
وثاني الملاحظات هو كثرة المنافذ للدخول الى المسجد. فهناك أكثر من 170 باباً تؤدي إلى جوفه وسطحه وقبوه، أبواب رئيسية وأبواب فرعية يلزم لخدمتها 600 عامل للمراقبة والمساعدة والحراسة... بالإضافة إلى تواجد 7 سلالم كهربائية لها 12 مدخلا...
كان الشغف كبيراً لاستكشاف ردهات وأركان ومحيط هذا الحرم الذي تعد كعبته «أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين» (سورة آل عمران)... لذلك عددنا نقط الدخول لنكتشف امكن من الارجاء.
ثالث الملاحظات هو هذا الامتداد الأفقي للمسجد المغلفة جدرانه وأرضيته برخام متناسق، وتفيد المصادر أن الرخام الذي بلطت به ساحات المسجد يحمل اسم «تاموس» نسبة إلى جزيرة تاموس اليونانية التي توجد بها المقالع، والتي اشترت احتياطها العربية السعودية لتصبح خزاناً لقطع الغيار في حال ما أصاب التلف بعض القطع أو تم احتياجها في عمليات قادمة..
ومن خصائص هذا النوع من الرخام وهو ناصع البياض أنه يحتوي على مسام تمتص الرطوبة ليلا لتلفظها نهاراً، وبالتالي لا يشعر من يطأه بأي حرارة تحت قدميه أو تلفح وجهه ...
رابع الملاحظات هي ضخامة المراكز التجارية والفنادق التي أصبحت محيطة بالمسجد الحرام. في أحاديث العديد من الحجاج انتقاد لهذه البنايات التي جعلت من الحج وكأنه سوق تجاري تصبح معه الكعبة ومرفقاتها مجرد مجال ثانوي تتغول عليه »ناطحات سحاب« تفقده بعده الديني الروحي... بل إنها تطيح بمفهوم المساواة بين الحجاج الذين كانوا ولمئات السنين يعيشون نفس الظروف ويقتسمون نفس معاناة الطقس والإقامة... ها هي هذه الفنادق تحول الحجيج إلى طبقات: حجاج 5 نجوم وحجاج الخيام... حجاج ارستقراطيين وحجاج الطبقة الرثة.
البعثة: سؤال الانتقاء
بلغ عدد الحجاج المغاربة هذه السنة 25 ألفاً و 600 تم توزيعهم على 9 مراكز منتشرين ب 24 فندقاً. ويؤطر هذه الجغرافيا البشرية بعثة مغربية مكونة من أكثر من 200 شخصاً. وإن كان من سؤال شفوي يوجه إلى السيد وزير الأوقاف، فيتركز على كيفية انتقاء أعضاء هذه البعثة. ما هي المعايير.! وأي آلية للتنسيق بينهم... وأي قيمة مضافة يضفيها تواجد العديد منهم ومنهن؟
بالبعثة، كان هناك بالفعل أفراد أكفاء في تعاملهم وتواصلهم (والتواصل أساسي) مع حجاج أغلبهم لم يسبق له السفر خارج المغرب وبحاجة إلى مساعدة لأداء المناسك في ظروف مناسبة... العديد من أعضاء مكاتب البعثة كان يهيم في ردهات الفنادق والأسواق التجارية ليترك العبء على قلة تحملت عناء حجاج واجهوا مشاكل أو اصطنعوها في إقامتهم أو تجوالهم. أسبوعان بعد إقامتنا بمكة جاء موعد الحج، من يوم التروية الذي يصادف الثامن من شهر ذي الحجة، إلى ال 13 منه...
دخلنا مشعرمنى ليلا في خضم حركة نقل تعد الأضخم من نوعها في العالم قياساً بمدتها الزمنية? فال 3 ملايين حاج يجب أن يرحلوا من داخل مكة إلى هذا المشعر في أقل من 12 ساعة. وقد عبأت العربية السعودية 20 ألف حافلة وافتتحت هذه السنة الطريق الدائري الرابع الذي يلف المدينة وطوله 22 كلم ليساعد في انسياب حركة السير بدون اختناق.
كنا في المركز 79 الذي يحمل اسم «المنعم عليهم»، ويبدو أنه أردأ مركز على الإطلاق. ولحجم مشاكله، أطلق عليه العديدون مركز »المغضوب عليهم« فالإقامة بمكة لم تكن في المستوى. والتأطير متواضع إلى حد ما. وروائح حاويتين للنفايات مجاورتان للفندق تزكم الأنوف صباح مساء... وكان قدر هؤلاء «المنعم» عليهم أن تستضيفهم مشاكل جديدة بمنى. إذ تم تكديس حجاجه في خيام تتسرب إليها مياه دورات المياه. أما العناية الطبية داخله فمنعدمة شأنه شأن بقية المراكز، وعندما سألنا بعض أفراد البعثة كان جوابهم: «السعوديون هم المكلفون...» ويكفي أن أشير إلى حادثة وقعت لأخينا محمد بوهلال الذي كان يتوضأ عندما فاجأه انكسار أنبوب ماء قذفه بقوة لعدة أمتار أصيب إثرها في ظهره... وعند طلب مساعدة أحد أعضاء البعثة، كان رد فعله بارداً يتلخص في: «دبروا راسكم» بحثت عن كرسي متحرك حملت فيه الأخ بوهلال إلى أحد المستوصفات من أجل العلاج، لأنه لم يعد يقوى على الحركة، ولم يستعد عافيته إلا بعد أن عدنا إلى مكة ثلاثة أيام بعد الحادث... والغريب أن البعثة المغربية رضخت لشروط أو لنقل جشع المطوف الذي لم يعد همه فيما يبدو شأنه شأن الكثيرين بمؤسسة الطوافة سوى جني أكبر مايمكن من الارباح.
مشعر منى يقع على بعد حوالي 10 كلم شمال شرق المسجد الحرام، وهو عبارة عن وادي تلفه جبال صخرية من الجهتين الشمالية والجنوبية. ومساحته الشرعية 7,80 كلم مربع. ومن أبرز التحديات التي تواجه عملية الحج هو أن هذه المساحة قد لا تستوعب أكثر من 4 ملايين حاج، وبالتالي، فإن أي عملية لرفع عدد الحجيج تتطلب التخلي عن الخيام وبناء عمارات من عدة طوابق? وبالفعل، سبق أن شيدت قبل أعوام وعلى سبيل التجربة ست عمارات ، وإن كان هذا الخيار يصطدم برفض بعض المتشددين الوهابين بالسعودية..
ويبدو أن من بين إيجابيات التخلي عن الخيام في منى بالاضافة الى توفير الراحة لضيوف الرحمان ، هو التمكن من جمع النفايات.ففي يوم التروية من هذه السنة مثلا، كان هناك 45 ألف طن من الأزبال تنتشر بهذا المشعر.. وللإشارة، فإن مشكل النفايات يؤرق المسؤولين بالعربية السعودية، ويكفي أن أشير إلى أن مكة شهدت خلال فترة الحج هذه السنة رمي 65 طن يومياً من قنينات البلاستيك، وهو ما يمثل 8 ملايين قارورة... بل إن أمير مكة اعترف في أحد حواراته بأن من بين أسباب معيقات تطوير »العاصمة المقدسة« هو وجود 80% من النفايات مكدسة بأزقتها وشوارعها..
وللإشارة مرة أخرى ، فإن مكة المدينة التي يبلغ عدد سكانها المليون ونصف لا تحتوي على شبكة للواد الحار (حتى المدينة المنورة)، ولا حتى شبكة الماء الشروب.
كان مبرمجاً أن نغادر إلى عرفة في منتصف الليل. لكن سوء التنظيم، سوء تنظيم المركز 79، فرض علينا الانتظار لعدة ساعات، عدنا بعدها إلى الخيام إلى ما بعد الفجر.. وتزامن سوء التنظيم هذا مع زيارة رئيس الوفد الرسمي السيد إدريس الأزمي لبوابة هذا المركز واستمع لاحتجاجات الحجاج وانتقاداتهم وأعتقد بأنه سيكون أمينا في نقل الوقائع التي عرضت عليه.
التيه بعد عرفة
«الحج عرفة»، هكذا ورد في حديث منسوب للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وأن أي تواجد خارج هذا المشعر قبل غروب الشمس، يجعل الحج باطلاً.. كانت الحرارة تحت خيام غير مكيفة تعتصر الاجساد عرقاً... اختار بعض الحجاج أن يتسلقوا جبل الرحمة المقابل، فيما اختار من تبقى قراءة القرآن فرادى أو جماعات وترديد الأذكار والتلبية.
ومباشرة بعد منتصف النهار، كان هناك أئمة قادوا مسيرة الدعاء وأضفت هذه العملية حالة من الخشوع بين الحجاج وهم يقفون بعرفة...وما إن غربت شمس اليوم التاسع من ذي الحجة حتى انفتح التوجه إلى مشعر مزدلفة على مشاكل لا تحصى، حالة تيه ومشاق في البحث عن حافلة تريح من عناء التنقل على الأقدام.
المسافة بين عرفة والمزدلفة تقارب 7 كلم.. تحولت إلى نهر بشري اختنقت بعض مقاطعه.. قضى أغلب الراجلين أكثرمن 4 ساعات للوصول إلى المشعرالذي يعد أرضا خلاء بلا بنايات ماعدا مسجد ودورات مياه فضاء اسمته جريدة »مكة« في أحد أعدادها ب «المشعر المظلوم» .على الأرض افترشنا بعض الأغطية وخلدنا إلى نوم عميق بعد أداء صلاتي المغرب والعشاء جمع تأخير وجمع أحجار الرجم (70حصى)، ولم نستيقظ إلا على أذان الفجر من مسجد المشعر الحرام...
عدنا إلى منى راجلين، تائهين. فعلى عكس بعثات الدول التي يرفع أعضاؤها أعلامهم كي يقتفي أثرها حجيجهم، غابت الراية المغربية وتاه المئات من الحجاج المغاربة تحت أشعة شمس حارقة بالرغم من بداية سطوعها... فرض علينا التعب والإنهاك أن نرتاح بخيام منى إلى منتصف النهار، لنتوجه إلى رمي جمرة العقبة وبعدها، بعد العودة تم الشروع في التحلل الأصغر، أي إزالة ثياب الإحرام التي لفت أجسادنا ثلاثة أيام وتقصير الشعر أو حلقه، كما فعلت أنا بعد أن تطوع أحد الحجاج ليحيل رأسي إلى مساحة ملساء. وكانت هي المرة الثانية في حياتي التي تمر فيها الموسى على منابت شعري وتحيلني إلى شخص أصلع..
أرهقتنا منى، بحرِّها ونفاياتها وبؤس خيامها ورداءة أفرشتها وسوء التنظيم الذي أطرها? وعجلنا في مقامنا إذ غادرنا مباشرة بعد المرة الثانية من رمي الجمرات الثلاث. عدنا إلى مكة لنستحم ونقوم بطواف الإفاضة وننهي بذلك مناسك الحج (من 4 إلى 8 أو 9 أكتوبر) ويتفرغ الحجيج إلى شراء الهدايا أو زيارة بعض مآثر مكة..
في الحج تلتقي أجناس وأعراق تأتي من كل فج عميق?ملامح تختلف ولغات تتعدد . لكن الهدف واحد : الحج .العيون تشخص في اتجاه واحد: بناء الكعبة . الأنفس تلهج بالدعاء خافتا وجاهرا والاكف ترفع الى السماء تطلب التوبة من ماضي والرأفة بمستقبل . من أبرز الحجاج تنظيما الاندونيسيون . جماعات يتحركون وبصوت واحد يرددون الدعاء . متسامحون ،منضبطون. تعرفهم بسمات وجوههم وبألوان أزيائهم. عددهم يصل الى 220 ألف وكانت قبل سنتين أي قبل تقليص الاعداد 260 ألف .(واحد من كل ألف نسمة هو المقياس المحدد لحصص الدول الاسلامية) . وتعود هذه الخصائص فيما يبدو لطبيعة الشعب الاندونيسي الراقية من جهة ومن جهة ثانية كون حجاج هذا البلد يخضعون لمراحل تدريبية وتأهيلية يتم خلالها تلقينهم كيفية أداء المناسك. ويوجد اليوم على لوائح الانتظار بهذا البلد الآسيوي المنتشر على أكبر إرخبيل مليون ونصف حاج ينظرون دورهم لأداء فريضة الحج.
أجناس وأعراق الحج تنتمي بنسبة كبيرة جدا لآسيا. الحج آسيوي اليوم لأن القادمين من قارة آسيا الغير عرب يمثلون الأغلبي الساحقة أي أكثر من خمسة أسداس من مجموع الحجيج . فباكستان وأفغانستان وإيران واندونيسيا وماليزيا لها حصة الأسد . أما الدول العربية فحصتها بالكاد تتجاوز 250 ألف ربعهم من مصر.
الحج آسيوي كذلك ببضائعه . «فصنع في الصين (بنسبة تفوق 75 بالمائة) أو الهند أو فيتنام أوكوريا» تحملها جل السلع المعروضة . وحدها التمور و«ماء زمزم» منتوجان محليان.
... لصوص ومحتالون ومتحرشون
في الحج، هناك نصابون ولصوص ومحتالون ومتحرشون بالنساء. هناك باعة يبيعونك الوهم ويقسمون بأغلظ الأيمان بأن البضاعة حقيقية . وتكتشف بعد ذلك أنها مزورة وأنك خدعت اعتقادا منك بأن بهذه البقاع يوجد الصادقون الورعون فقط. وأذكر هنا ما وقع لصديقنا الحاج محمد وهو رجل مرح الذي أخبرنا بأنه اشترى ما يقارب النصف كيلوغرام من «عود القماري» (الذي يبلغ ثمن الغرام منه أكثر من 50 درهم)، لكن اكتشفنا أن البضاعة مجرد أظلاف شجر شبيه... وهامش الربح لدى العديد من الباعة غير معقول إذ يتجاوز الخمسين بالمائة في أحايين كثيرة على عكس ماهو متعارف عليه شرعا (مابين 20 و 25 بالمائة).. وحتى أصحاب التاكسيات وهي بدون عدادات فإن بعضهم يغتنم تعامل الحجاج بالعملة السعودية لأول مرة فيطلب منك الأداء أضعافا مضاعفة . ولا يسلم من هذا التلاعب حتى الأشخاص في وضعية إعاقة الذين ترغمهم حالتهم الصحية على الطواف والسعي بكراسي متحركة .إذ يجدها بعض العاملين فرصة سانحة مثل ماوقع لأحد الحجاج المغاربة الذي أدى 200 ريال سعودي والواقع أن الخدمة لاتتجاوز الخمسين ريالا.
ونحن بمشعر منى، أعلنت قوات المباحث الجنائية أنها ألقت القبض على عدد من المتحرشين بالنساء الذين استغلوا الازدحام والتصقوا عمدا بهن... كما تم اعتقال العشرات من اللصوص الذين يجدون في الزحام فرصة لانتشال محافظ وسرقة مافي الجيوب.
«المدينة المنورة»، يثرب أو طيبة... مدينة تحمل أكثر من اسم طوت الحافلة مسافة ال 400 كلم التي تفصلها عن مكة ذات ليلة غير مقمرة... وحدها أضواء السيارات والشاحنات تبدد الظلمة... ودعنا مكة بعد أن قمنا بطواف الوداع حول الكعبة، وها نحن في زيارة مجال روحي آخر يعد الوجه الثاني لعملة الحج. أول ما قمنا به بعد الاستقرار بالفندق هو التوجه إلى الحرم النبوي والوقوف أمام «الروضة الشريفة»وهي المكان الواقع بين بيت الرسول (بيت عائشة ) وبين منبره .وقد جاء في أحد الأحاديث المنسوبة إليه صلى لله عليه وسلم: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة». والترحم عليه هو وصحبيه أبا بكرالصديق وعمر بن الخطاب.
أول صلاة أديناها بالمسجد النبوي بعد صلاة الزيارة هي صلاة الفجر. وراعنا ونحن نخرج الى الساحات المحيطة به مآذنه العشرة التي تمتد إلى السماء بأكثر من 100 متر . وأبوبه ال 86 التي تجعل الدخول إليه يتم بانسياب . وكانت لحظات ممتعة ونحن نرى المظلات الخارجية تفتح أجنحتها لوقاية المصلين في صلاتي الظهر والعصر من حر الشمس.ومن الشتاء والانزلاق عند هطول المطر. 250 مظلة تم زرعها في شكل هندسي رائع بارتفاع متوسطه 14متر ونصف وتغطي أكثر من 140 ألف متر مربع وهي أحد أبرز المشاريع التي تم إنجازها بكلفة بلغت 10 مليار درهم . تفتح فجرا وتنكمش عند صلاة المغرب لتصبح مثل عامود تزينه الأضواء.
أسبوعا أقمنا بالمدينة زرنا بعد مآثرها مثل مسجد قباء الذي يعد أول مسجد بناه الرسول. وزرنا معارضها التي تستعرض حياة النبي ومعاركه وبيوته وهجرته ...وتصفحنا العديد من كتب مكتبة المسجد النبوي التي تضم أكبر عدد من الكتب الفقهية في العالم .
عدنا إلى مطار جدة في رابع جمعة من أكتوبر بعد أن حان موعد العودة . ويبدو أن حجيجنا وهو يركب الطائرة التي جاءت في موعدها (لحسن حظنا) قد استنشق رائحة المغرب فأحييت في العديد قواميس السب ومعاجم الكلام البذيء والملاسنات التي تشهدها أسواقنا وشوارعنا. لقد تركنا الحج في جغرافيته وحملنا معنا بل عززنا كل حسب قناعاته ما يحفل به من عبر ومن قيم انسانية تقر بالمساواة دون تمييز وبالعدالة دون ظلم وبالتسامح دون عنصرية أو تحقير ... وانطباعات مما رسخ في الذاكرة ونحن في خضم حياة يومية بمكة والمدينة.
في الأخير أوجه سؤالا ثانيا للسيد وزير الأوقاف : ماهي المعايير المعتمدة فيما يتعلق بالنسبة ل«المنعم عليهم».. لماذا أدى العديد منهم تكاليف الحج شأنهم شأن الذين تم اختيارهم عن طريق القرعة.. ولماذا تفاوتت مبالغ هذه التكاليف.. هل في الأمر «إن...» يجب فتح تحقيق بشأنها أم وزارة الأوقاف على بينة من الموضوع..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.