وأنت تقتحم واحة النخيل بإقليم زاكورة التي تفتنك بسحرها وجمالها، تحس بأنك في عالم لا متناهٍ من العشق متوج بالحرية، أناس طيبون، يواجهونك بابتسامة عريضة وبِقِرى ضيفة، تتشكل القصور والقصبات عبر هذه الواحة، وتكتشف أن عمقا صوفيا تجذر في هذه الواحة الشاسعة الممتدة عبر وادي درعة.. زوايا صوفية مازالت تحافظ على الكثير من تقاليدها عبر طقوس ضاربة في القدم.. لكن الذي سيصدمك وسط هذا البهاء الذي كنت تظنه لا متناهيا في الكرامة والحرية، هو ما ستحيلك عنه أسماء الدواوير والقصور، حيث ستكتشف أن بهذه المنطقة مازالت كلمة «عبد» متداولة.. وان الكثيرين ليس لديهم إحراج في إطلاقها على أناس من ذوي البشرة السوداء.. تتعدد الأعراق هنا بوادي درعة، من أمازيغ السدراتيين والعرب، والصحراويين، إضافة إلى ذوي الأصول الإفريقية ممن يطلق عليهم «العبيد».. وحسب بحث لمبارك كرزابي من زاكورة منشور بموقع "مشاهد أنفو" ، فإن ما يميز سكان واحات وادي درعة بإقليم زاكورة، هو تنوع أعراقهم وأصولهم، ومنهم فئة ( العبيد ) «وهنا نستعمل هذا المصطلح لدلالته التاريخية فقط وليس لمعناه القدحي»، وهي من العناصر البشرية التي أجمعت المصادر التاريخية، على قدومها من السودان الغربي (حوض النيجر والمناطق المجاورة له) واستقرارها بدرعة، خلال العهد السعدي وبالتحديد أثناء فترة ازدهار تجارة الذهب والرقيق، على اعتبار أن إقليم زاكورة شكل أهم محطات الطريق التجاري الرابط بين مراكش والسودان. ويضيف الباحث أن هناك شُحّا في المصادر التاريخية التي تتناول تاريخ المنطقة، والتي أحجمت عن الحديث عن هذه الفئة، وعن تقديم تقدير للأعداد المفترض أن تكون قد جلبت أو هاجرت من السودان الى وادي درعة. إلا أن المؤكد أن العبيد بقصور زاكورة، شكلوا قوة بشرية مهمة، كما أن تجارة العبيد كانت رائجة بوادي درعة منذ القرن 16 الميلادي إلى أن اختفت مع حلول المستعمر الفرنسي بالمنطقة. ويقول مبارك كرزابي في ذات البحث، إن أغلب عمليات الشراء بالمنطقة، كانت تتم بين الأسر أو الأعيان المالكة للعبيد ، مستندا في ذلك إلى كبار شيوخ عبيد درعة الوسطى،الذين يشيرون إلى أنه باستثناء سوقي فم زكيد وبني سبيح بتاكونيت اللذين كانا مشهورين في بيع العبيد، فإن أغلب عمليات الشراء بالمنطقة، كانت تتم بين الأسر أو الأعيان المالكة للعبيد وتجار أو سماسرة هذا النوع من التجارة في البشر، حيث كان العبد يباع داخل القصر (الدوار) ويحرر عقد حول العملية يسلم بموجبه العبد لمالكه الجديد، وكان العبد الأكثر «رواجا» حسب عائلات كانت مالكة للعبيد، هو ذلك الشخص القوي البنية والمخلص لسيده والمتفاني في خدمة أملاكه وأسرته. وقد شكلت فترة الصراعات القبلية بوادي درعة أهم مرحلة ازدهار ظاهرة بيع العبيد. وتختص أسر معينة في امتلاك العبيد، فهي في الغالب ميسورة أو تنتمي إلى فئة الأعيان أو شيوخ المنطقة، كما هو حال الشيخ بلعبوط بفزواطة، الذي كان يملك أكثر من 70 من الأرقاء من الجنسين الذكور منهم كلهم مسلحون، كما أن هناك أسرا احترفت السلب والنهب فغنمت أعدادا من العبيد فصارت تتاجر فيهم، كما احتضنت الزوايا مئات العبيد والجواري. وكان العبد يقوم بالإضافة الى العمل بالأراضي والمنازل أحيانا ، يتولى مهمة حماية سيده والدفاع الى جانبه كلما دعت الضرورة الى ذلك. ويقول ذات البحث إن العبيد حاليا منحصرون في تمسلا وتامكروت حيث يشير إلى: «إذا كان المؤرخ مارمول يرى أن العبيد تكاثروا بقصور درعة بشكل مثير عبر تاريخ درعة الوسيط، فإن الخريطة السكانية الحالية لإقليم زاكورة تجعل هذه الشريحة الاجتماعية منحصرة في زاويتي تمسلا وتمكروت والباقية موزعة بين قصور واحات ترناتة وفزواطة وامحاميد الغزلان والكتاوة ». غير أن المثير في عبيد إقليم زاكورة هو احتفاظهم بلغتهم الأصلية التي حملوها معهم منذ قرون حيث يجيدونها إلى الآن ويتحدثون بها فيما بينهم حين يقتضي الامر ذلك، وقد شاهدت ذلك في المنطقة وسمعت محادثاتهم ولم افهم معناها، حيث لم تكن لا عربية ولا حسانية ولا أمازيغية ما جعلني محتارا ، غير أن هذا الاستغراب سيخرجني منه بحث الأستاذ مبارك كرزابي الذي يشير إلى انه حسب مصادر من عبيد ترناتة، فإن أجدادهم الأوائل الذين هاجروا إلى درعة كانوا لا ينطقون البثة اللغة العربية، حيث يتحدثون لغة الهوسا أو البامبرا ، أو يتكلمون لغة السونغاي. إلا أنهم استطاعوا الاندماج بسرعة في حياة الواحات، يضيف نفس المصدر السابق، بعد تخيلهم عن بعض أنماط عيشهم الأصلية، مع الحفاظ على السمات الأساسية القديمة التي تميزهم داخل النسيج السكاني بالإقليم تجسدها التقاليد والطقوس الاحتفالية، أثناء الأعراس والمناسبات الدينية التي يحيونها خصوصا خلال مناسبتي عاشوراء وعيد المولد النبوي، اللتين يحرص العبيد على إحيائها على مدى أسابيع يتنقلون خلالها بين القصور التي يسكنونها، تصاحبها مشاهد من الفرجة التي تميز فن الغناء عند العبيد. والحقيقة أن «قبيلة» العبيد بدرعة مازالت منغلقة على نفسها، في العديد من مظاهر الحياة، خصوصا ما يتعلق بالزواج، فالعبد لا يمكنه الزواج خارج محيطه «العرقي» إلا في الحالات «الشاذة»، ونفس الشيء بالنسبة «للخادم»، اللهم إذا تزوجها حر أبيض، وما أكثر هذه الحالات. يضاف إلى أن العبيد معتزون أشد الاعتزاز بانتمائهم العرقي وبموطنهم الأصلي، إذ مازالوا إلى عهد قريب يسمون ابناءهم بأسماء مستوردة من السودان كاسم: مباركو، بامبارا، بانكورا... كما يبدو الموطن الأصلي حاضرا لديهم في أغلب مناسبات الأفراح، فهم يستهلون به أشهر أغانيهم كالمقدمة الشهيرة التي تبدأ ب «يا سودا، يا سودان، أياما». الباحث يقول بأن الاستعمار هو من حرر العبيد بهذه المناطق ، حيث يشير إلى أن العبد يصنف نفسه في الدرجة الثانية بعد الأحرار البيض داخل السلم التراتبي بدرعة، فهو يرفض رفضا قاطعا امتلاكه من طرف «الضراوة»، وهذا ما يفسر عدم تواجد العبيد بالقصور الخاصة ب «الضراوة»، وتعايشهم إلى جانب العرب أو الأحرار أو الأمازيغ أو الشرفاء؛ فنادرا ما يملك «الضراوي» العبد رغم التشابه الكبير بينهما خصوصا على مستوى الأصل ولون البشرة الميال إلى السواد الداكن.وقد شكل مجيء الاستعمار الفرنسي إلى زاكورة أوائل الثلاثينات، مرحلة انعتاق بالنسبة لهذه الفئة حيث تم تحريرها وتحريم بيعها باستثناء عبيد زاوية تمسلا الذين مازالوا إلى عهد قريب يخضعون في كل شيء لصاحب الزاوية على اعتبار أنهم جزء من ساكنتها يعملون بمزارعها ويأتمرون بأوامر مالك الزاوية بما في ذلك أمر الزواج والطلاق. هذا في الوقت الذي تمكن فيه عبيد الزاوية الناصرية بتمكروت من تكوين حي خاص بهم خارج أسوار الزاوية سموه بحي العبيد يعيشون فيه حياة حرة مع احتفاظهم بروابطهم التاريخية بشيوخ الزاوية الناصرية، مع العلم أنهم شكلوا فيما مضى قوة ضاربة داخل الزاوية، خاصة أولئك الذين كانوا مرتبين في رتبة «مقدم». لكن الغريب أن هؤلاء لا يقبلون أن تطلق عليهم أي اسم آخر غير العبيد، ليسوا محرجين من هذا الاسم، بل ستفاجأ لأنهم يعتزون بذلك.. ويتجلى ذلك واضحا في زاوية تمسلا بجماعة اولاد يحيى لكرايرعلى بعد 45 كيلومترا شمال مدينة زاكورة ، حيث أن كل التعريفات بالزاوية القادرية تشير إلى أن هذه الأخيرة تتكون من قبائل تمسلا، والعبيد(إسمخان) واهل تازارين وايت مسعود.. والإشارة إلى مصطلح العبيد يطرح الكثير من الاسئلة.. يقول أحد سكان هذه الزاوية: « العبيد أو بالامازيغية "إسمخان" يطلق على أناس من ذوي البشرة الغامقة السواد وهم مرتبطون بزاوية تامسلا القادرية منذ زمن بعيد، هم خدامها والحريصون على أمنها وعلى تأمين كل ما هو مرتبط بها من طبخ وحرث وحصاد والخدمة.. لا يتقاضون أي أجر، غير أن الزاوية هي المكلفة بكل ما يرتبط بهم» . ويضيف: « لدينا احترام خاص تجاه الشرفاء آل البيت ونحن جد مسرورين لتقديم الخدمة لهم، فآل البيت أسيادنا». قلت له : « ألا يعني هذا نوعا من الرق؟»، فأجاب مبتسما: «لا أحد يُكْرِهُنا على ذلك ، نحن ورثنا هذا الأمر ونحن سعداء بتقديم الخدمة، لا تنسى أن مقدم الزاوية والمشرف على خزائنها هو منا ، ثم إننا لسنا مسجونين داخل الزاوية، فنحن نتناوب على الخدمة، وفي المقابل فكل من يخدم هناك يأتي بالطعام واللباس وكل ما يحتاجه من الزاوية إلى بيته. بمعنى آخر إن هذه الزاوية تلعب دورا اجتماعيا مهما، ولا تنسى ان الشريف القادري يتكلف بمصاريف التطبيب لكل من أصيب بعلة، بما فيها العمليات الجراحية والعناية بالحوامل منا ورعاية الأطفال من جميع الجوانب، لذلك فنحن ليس لدينا حرج أن نُنْعَت بالعبيد ما دمنا نحس بأن كرامتنا لا تمس..». لكنني قلت له بأن الكثيرين يتحدثون عن أن الكثير من مظاهر العبودية مازالت سارية إلى يومنا هذا، حيث يقال إن صاحب الزاوية خلال موسمها الديني الذي يقام في الاسبوع الثاني من ربيع الاول ، يجلس على كرسي ويمد قدمه ليأتي الناس ليقبلون القدم انطلاقا من أهله ثم العبيد!؟ انتفض هذا الشخص في وجهي قائلا بأن لا علم له بذلك، وإذا كان في زمن ما فهو لم يشهده أبدا. وقال بأن موسم الزاوية القادرية بتمسلا يبدأ بالأفراح والأهازيج ويفد إليه الناس من كل منطقة ومن مختلف القبائل، من تفتشنا وترغليل وتازارين وغيرها بمواكب تحمل معها الأعلام، ويترأس كل موكب الشخص الأكبر سنا حيث يتم استقبال الموردين بكرم ضيافة، ويتم تهيئ طعام جماعي ثكم ينتظرون وصول الناقة التي تأتي من تازرين في مسافة تستغرق ثلاثة أيام، أي ما يقارب المائة كيلومتر،عبر طريق خاص ويجب أن تكون الناقة ذات بنية ضخمة وقوية ومزينة بالحناء، يسيرون بها عند الوصول إلى مكان غير بعيد من المسجد حيث تمكث هناك لمدة يومين وبعدها يقومون بعملية الذبح ، هذا ما يتم ، فهل هذه عبودية؟» . كان محدثنا معتزا بانتمائه لفئة العبيد قبل أن يقول «نحن نخضع لقرارنا، فلدينا متعلمون وموظفون وأساتذة، إذن فكلمة العبيد عندنا لا تعني مضمونها ، لكنها تحولت إلى تعريف ليس إلا ».