قلائل الذين يعرفون اليوم الدور المبادر الذي لعبته صحيفة »الرأي« في مسيرة زياد أبو عين، الوزير الفلسطيني الذي أستشهد على أيدي جنود الاحتلال الآثمة بدم بارد، يوم الأربعاء 10/12/2014. فقد كان ل «»الرأي»« الفضل في بروز اسم زياد، عربيا وعالميا، خلال فترة اعتقاله في الولاياتالمتحدة، التي بدأت عام 1979، تمهيدا لتسليمه الى اسرائيل، بتهمة القيام بعملية فدائية في طبريا، اوائل ذلك العام، أدت الى مقتل اثنين من المستوطنين. لقد كنت مراسلاً للرأي في أميركا، في النصف الثاني من السبعينات، خلال دراستي الجامعية، وتبنت هذه القضية بتوجيه من الحاج جمعة حماد والاستاذ محمود الكايد (أبو عزمي)، رحمهما الله. حيث أصبحت »الرأي« مصدرا وحيدا لاخبار قضيته تنشرها على صفحتها الأولى، خلال فترة اعتقاله ومحاكمة ترحيله، التي جرت في مدينة شيكاغو الأميركية. وعن »الرأي« كانت تنقل الصحف الأخرى ووكالات الأنباء والإذاعات. البداية بدأت هوايتي الصحفية مراسلا متطوعاً لصحيفة »الشعب« في بداية صدورها، في صيف عام 1976، مع الأستاذ المرحوم ابراهيم سكجها، رئيس التحرير ، لمدة عام وتحولت الى جريدة »الرأي« من خلال الصديق حمادة فراعنة الذي وفر لي فرصة التعرف على الدكتور اسماعيل عبد الرحمن الذي يشرف على التحرير ، حيث انني كنت أزود الجريدة بالتحليلات السياسية، والمقابلات الخاصة وأخبار المؤتمرات ونشاطات الجالية العربية. وأذكر أنه في الفصل الأخير من دراستي الجامعية، في خريف عام 1979، جاء بعض نشطاء الطلاب العرب في الجامعة يدعون زملائهم للمشاركة في مظاهرة، حول المبنى الفدرالي وسط المدينة، احتجاجا على اعتقال شاب فلسطيني، اسمه زياد أبو عين، لم يتجاوز عمره 19 عاما، تنوي السلطات الامريكية تسليمه الى اسرائيل. وفي تلك المظاهرة، تعرفت على شقيقته خولة وزوجها أحمد يوسف. وطلبت منهما ان يعطوا زياد رقم هاتفي كي يتصل بي من السجن، حتى أتعرف على قصته، بهدف تغطية قضيته صحفياً. وصار زياد يتصل بي من السجن باستمرار، نتداول في سير قضيته. ثم تقدمت الى ادارة السجن طالبا تصريح زيارة وحصلت عليه. وكنت من القلائل الذين يزورنه، حيث كنت أُمضي الساعات معه في قاعة الزيارة في السجن الفدرالي، الشديد الحراسة، حيث كان زياد تقريبا في مثل سني، وروى لي ما جرى معه، وظروف خروجه من رام الله الى عمان وسفره الى أمريكا. ثم اتفقنا أن أُجري معه مقابلة صحفية، أنشرها في جريدة »الرأي«. ولأنه من غير الممكن أن أُدخل معي الى السجن مسجلي الصغير، لتسجيل المقابلة، اتفقنا ان يتم ذلك عبر الهاتف. وبالفعل ربطت المسجل بجهاز التلفون وكان زياد يتصل بي، أسأله وهو يجيب، وهكذا تمت المقابلة الصحفية على عدة مراحل. وقمت بتفريغ الشريط، وتحرير المقابلة، وكتابتها بصيغتها النهائية بخط اليد، وأرسلتها بالبريد الى المرحوم جمعة حماد. وقد فؤجئت بأنه أفرد لها صفحة كاملة من صفحات الجريدة. وكانت تلك هي أول تغطية صحفية على الاطلاق لقضية زياد أبو عين. ثم أخذت أزود الجريدة بأخبار وتطورات محاكمة التسليم عندما بدأت، والنشاطات المرافقة لها، من مظاهرات وفعاليات مختلفة، يقوم بها أبناء الجالية العربية في المدينة، الذين شكلوا »لجنة الدفاع عن زياد أبو عين«، التي استهدفت وقف تسليمه الى اسرائيل. وكانت »الرأي« تنفرد بنشر تلك الاخبار، وينقل عنها مراسلو وكالات الانباء العربية في عمان، لتنشرها بعد ذلك الصحف العربية، وتبثها اذاعات المنطقة. وهكذا أخذت أخبار هذه القضية بُعدا عربيا، ثم بُعدا عالميا، فيما بعد. المحاكمة والتسليم وقد أنهيت آخر فصل دراسي لي في الجامعة، نهاية 1979، وعدت الى عمان، وتقدمت بطلب للعمل في دائرة أخبار التلفزيون الاردني، وباشرت العمل بعد أقل من شهر من عودتي. ظلت لجنة الدفاع عن زياد تتواصل معي، وتزودني بتطورات القضية، اولا بأول، وأنا بدوري أزود الجريدة بها. ولا أنسى ما حييت الترحيب والاهتمام الذي كنت ألقاه، من قبل محرري الأخبار العالمية، الأساتذة، المرحوم بدر عبد الحق، ومحمد عمايرة، وإحسان خالد، عندما أذهب للجريدة في المساء، لتزويدهم بأخبار القضية، التي كانوا يعتبرونها سبقا صحفيا ينشرونه على الصفحة الأولى. أصبحت قضية زياد، في تلك الأيام، على كل لسان. فثارت حولها التعليقات، ونُشرت المقالات، وتناولها المعلقون والمراقبون. ومع مرور الوقت، وبناء على التغطية الصحفية الواسعة، اهتمت الفصائل الفلسطينية بالقضية وصارت تطالب الولاياتالمتحدة بعدم تسليمه الى اسرائيل. وبما أن قضيته كانت منظورة أمام المحاكم الأمريكية، فقد مرت في كل مراحل التقاضي، وصدر حكم بتسليمه، حيث أودعته سلطات الاحتلال السجن وحكمته بالمؤبد. تبادل الأسرى وفي عام 1983، كنت قد انتقلت للعمل في وكالة الأنباء القطرية، وبقيت أتابع أخباره عن بُعد، حيث جرت، في ذلك العام، عملية تبادل للاسرى، بين اسرائيل مع حركة فتح، وكان ابو عين على رأس قائمة التبادل. ووصل الى مطار اللد، مع باقي المُفرج عنهم، ومر بخيمة الصليب الأحمر، ثم الى خيمة انتظار الصعود الى الطائرة، وهناك خدع الاحتلال الصليب الأحمر، وأعاد اعتقال زياد سرا ، لشدة غيظهم منه. وغادر الأسرى الى القاهرة، في طريقهم الى الجزائر، ولدى وصولهم تبين ان المحتلين اختطفوا ابو عين من بين الأسرى المُفرج عنهم. ولم تُفلح تدخلات الصليب الأحمر، لدى حكومة اسحاق شامير، لإعادة الإفراج عنه. وقد شملته صفقة اخرى لتبادل الأسرى، عام 1989، وأصر زياد أن لا يغادر أرض الوطن وبقي في الداخل. وخرج هذه المرة ليبدأ مرحلة جديدة في مقاومة الاحتلال. العملية والخروج من رام الله كان زياد يشعر دائما أنه أقوى من المحتلين، في كل مراحل التصدي لهم. فقد تعمق في الداخل الفلسطيني، (داخل الخط الأخضر)، وهو في سن مبكر، بحكم تجارة والده، الذي كان يمتلك مصنع ألمنيوم لأواني الطبخ، في رام الله، ويبيع منتجاته في كل أرجاء فلسطين. وربما شجعته رؤية الوضع الحقيقي للمحتلين عن قرب، وإدراك نقاط ضعفهم، فسقطت عنده نظرية »العدو الذي لا يُقهر«، وأمده ذلك بالجرأة للتصدي لهم دون رهبة، فقام بعمليته الفدائية في طبريا. لم يستطع المحتلون معرفة منفذ تلك العملية إلا بعد مرور أشهر. ولما أحست عائلته أن سلطات الاحتلال تحوم حوله، خرج به والداه الى عمان على الفور، حيث تمت خطوبته على ابنة خاله الهام، التي كانت ما تزال على مقاعد الدراسة. وحصل على تأشيرة زيارة من السفارة الأمريكية وغادر في الحال الى شيكاغو، حيث تعيش شقيقته خولة. وجاءت مغادرته رام الله في اللحظة الأخيرة، إذ ما أن عاد والداه، من عمان، أوقفتهم سلطات الاحتلال على الجسر وسألت عن زياد. وهكذا عرفت أنه ذهب إلى أمريكا. الاعتقال في اميركا تقدم الاحتلال على الفور بطلب رسمي الى السلطات الأمريكية كي تقوم بتسليم زياد. فبادرت أجهزة الأمن الفدرالية الى ملاحقته، وأغارت على بيت شقيقته، حيث يقيم، ولكنها لم تجده في تلك اللحظة. فتوارى عن الأنظار. لكن السلطات ضغطت على شقيقته وزوجها لتسليم زياد. وفي هذه الأثناء، اقتنعت العائلة بنصيحة المحامي العربي عمر نجيب أن يسلم زياد نفسه، وأنه سيتولى هو تكفيله والافراج عنه. فقام زياد بتسليم نفسه طواعية وتم ايداعه السجن الفدرالي، وسط المدينة، ولم يُفلح المحامي في تكفيله. وهكذا جرت الرياح بما لا تشتهي السفن. المحاكمة ولجنة الدفاع أخذت أخبار قضية زياد تلامس أسماع أبناء الجالية العربية، الذين هبوا لمساعدة هذا الشاب في محنته، بدافع وطني وانساني. فأخذوا ينظمون المظاهرات في محيط المبنى الفدرالي الذي يضم السجن، حيث يقبع زياد أبو عين. وأخذت دائرة النشطاء والمهتمين تتسع شيئا فشيئا، بين أبناء الجالية عموما، وكان الطلاب العرب في الجامعات والكليات في محيط وسط مدينة شيكاغو، هم رأس الحربة فيها. وهكذا كانت تخرج المظاهرات المتتالية، وتغطيها أخبارها القنوات التلفزيونية المحلية. وازداد الاهتمام بالقضية عندما بدأت اجراءات المحاكمة، فكنت لا تجد مقعدا خاليا في قاعة المحكمة، ناهيك عمن كانوا في خارج المبنى يتظاهرون. وكان نجم تلك المحاكمة المحامي العربي عابدين جبارة، من ولاية ميتشغان المجاورة، الذي كان يخاطب المحكمة، ويخاطب الصحافة فيما بعد، بلكنة أمريكية خالصة، كونه من مواليد أمريكا. واتسع نطاق اهتمام الجالية العربية في أمريكا بقضية زياد. فانضم الى »لجنة الدفاع عن زياد أبو عين« أهم نشطاء الجالية العربية، أذكر منهم جيمس الزغبي. وتولت اللجنة ادارة الجهود على مستوى البلاد كلها، وعلى كافة الأصعدة، الشعبية والسياسية والاعلامية، لاستقطاب الدعم لقضية زياد، والحيلولة دون تسليمه لاسرائيل. وكانت تغطية جريدة »الرأي« متواصلة لتلك القضية . الجالية في شيكاغو واعتقد الآن، وبعد مرور عقود على تلك الاحداث، أن السلطات الأمريكية والاسرائيلية لم تكن تظن أن قضية زياد أبو عين ستتحول الى قضية سياسية بهذا الحجم، وتلقى هذا الاهتمام، على صعيد دول العالم والأمم المتحدة. حيث أفلحت جهود الجالية العربية في المهجر في اعاقة تسليمه لاسرائيل لأطول مدة ممكنة، بفضل تكاتفها، ووقوفها صفا واحدا، وخاصة أبناء الجالية في مدينة شيكاغو، الذين تحملوا العبء الأكبر في هذه القضية. وكانت الشخصيات السياسية العربية، التي تزور أمريكا، تتقاطر الى شيكاغو لحضور فعاليات لجنة الدفاع، أو لحضور جانب من المحاكمة، أو لزيارة زياد في سجنه، أو للتعبير عن دعمها لقضيته وتعاطفها معه. أذكر على سبيل المثال، بطرس صلاح، وكيل وزارة الاعلام الاردنية، الذي تولى شقيقي الأكبر هشام عمر داود استقباله وضيافته خلال زيارته. حيث كان هشام من زوار زياد في محبسه. وأذكر أيضا الشهيد فهد القواسمة عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ، وعبد الجواد صالح عضو تنفيذية المنظمة أيضاً ، وكثيرون جاءوا لهذا الغرض، من مختلف المستويات. حماقة مر هذا الشريط في ذهني في اللحظة التي سمعت فيها خبر استشهاد زياد أبو عين، وهو يقوم بزراعة أشجار الزيتون. فهؤلاء المحتلون هذا ديدنهم ... فهم قتلة الأبرياء، والعُزل، والمسالمين. وعمليات القتل تتم عندهم بناء على فتاوى دينية فاسدة، يحللون فيها دم »الأغيار«. وهم لا يدركون، لا هم ولا ساستهم، أن ما تقترفه أيديهم، لا يخدم مسألة اليهود في العالم، بل يدمرها. صحفي واعلامي أردني