محاربة الارهاب بالمغرب .. تفكيك خلية "داعشية" بعدة مدن منها طنجة وتطوان    السيد بوريطة يتباحث ببانجول مع وزيرة الاندماج الإفريقي والشؤون الخارجية السنغالية    برقية تعزية من الملك محمد السادس إلى رئيس دولة الإمارات إثر وفاة سمو الشيخ طحنون بن محمد آل نهيان    %71.2 من العاطلين يتمركزون بخمس جهات.. وجهة الشرق تسجل أعلى معدل بطالة بالمغرب    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    بنك المغرب…66 في المائة من أرباب المقاولات الصناعية المغاربة يعتبرون الولوج إلى التمويل "عاديا"    المكسيك.. طلاب مؤيدون للفلسطينيين ينصبون خياما أمام أكبر جامعة في البلاد    حركة حماس تقول إنها تدرس "بروح إيجابية" مقترح الهدنة في قطاع غزة    برنامج مباريات المنتخب المغربي الأولمبي بأولمبياد باريس 2024    شمس الضحى أطاع الله الفني والإنساني في مسارها التشكيلي    إيقاعات الجاز تصدح بطنجة بحضور مشاهير العازفين من العالم    تركيا تعلن وقفا كاملا للتعاملات التجارية مع إسرائيل    "حرية الصحافة"..المغرب يرتقي في التصنيف والصحافة المستقلة مهددة بالانقراض بالجزائر    توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة    ال BCIJ يُوقف 5 عناصر موالين لداعش كانوا يُخططون لأعمال إرهابية    المرة اللولى منذ 2009.. واحد من الحزب الإسلامي المعارض كيترشح للانتخابات الرئاسية ف موريتانيا    أوريد: العالم لن يعود كما كان قبل "طوفان الأقصى"    الفرقة الجهوية دالجندارم طيحات ريزو ديال الفراقشية فمدينة سطات    زلزال جديد يضرب دولة عربية    "تقدم إيجابي" فمفاوضات الهدنة.. محادثات غزة غتستمر وحماس راجعة للقاهرة    فيديو: هاتريك أيوب الكعبي في مرمى أستون فيلا    ريم فكري تفاجئ الجمهور بأغنية "تنتقد" عائلة زوجها "المغدور"    تكريم حار للفنان نعمان لحلو في وزان    الدوري الأوربي: ليفركوزن يعود بالفوز من ميدان روما وتعادل مرسيليا واتالانتا    انهيار طريق سريع جنوب الصين: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 48 شخصا    ماذا قال أمين عدلي بعد فوز ليفركوزن على روما؟    بلاغ هام من وزارة الداخلية بخصوص الشباب المدعوين للخدمة العسكرية    هل ما يزال مكيافيلي ملهما بالنسبة للسياسيين؟    رسالة هامة من وليد الركراكي ل"أسود" الدوريات الخليجية    مناهل العتيبي: ما تفاصيل الحكم على الناشطة الحقوقية السعودية بالسجن 11 عاماً؟    إقليم الصويرة: تسليط الضوء على التدابير الهادفة لضمان تنمية مستدامة لسلسلة شجر الأركان    عقب قرارات لجنة الأندية بالاتحاد الإفريقي.. "نهضة بركان" إلى نهائي الكونفدرالية الإفريقية    مهرجان أيت عتاب يروج للثقافة المحلية    الإبقاء على مستشار وزير العدل السابق رهن الاعتقال بعد نقله إلى محكمة تطوان بسبب فضيحة "الوظيفة مقابل المال"    تطوان: إحالة "أبو المهالك" عل سجن الصومال    عمور.. مونديال 2030: وزارة السياحة معبأة من أجل استضافة الفرق والجمهور في أحسن الظروف    تفكيك مخيّم يثير حسرة طلبة أمريكيين    العقائد النصرانية    تنفيذ قانون المالية يظهر فائضا في الميزانية بلغ 16,8 مليار درهم    الأمثال العامية بتطوان... (588)    جامعيون ومتخصصون يحتفون بشخصية أبي يعزى في ملتقى علمي بمولاي بوعزة    المخزون المائي بسدود الشمال يناهز مليار و100 مليون متر مكعب    مجلس النواب يعقد الأربعاء المقبل جلسة عمومية لمناقشة الحصيلة المرحلية لعمل الحكومة    ها التعيينات الجديدة فمناصب عليا لي دازت اليوم فمجلس الحكومة    بايتاس رد على لشكر والبي جي دي: الاتفاق مع النقابات ماشي مقايضة وحنا أسسنا لمنطق جديد فالحوار الاجتماعي    باحثون يكتشفون آليات تحسّن فهم تشكّل الجنين البشري في أولى مراحله    بذور مقاومة للجفاف تزرع الأمل في المغرب رغم انتشارها المحدود    رسميا.. جامعة الكرة تتوصل بقرار "الكاف" النهائي بشأن تأهل نهضة بركان        النفط يتراجع لليوم الرابع عالمياً    الطيب حمضي ل"رسالة24″: ليست هناك أي علاقة سببية بين لقاح أسترازينيكا والأعراض الجانبية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    "الراصد الوطني للنشر والقراءة" يعلن عن أسماء الفائزات والفائزين بجائزة "الشاعر محمد الجيدي" الإقليمية في الشعر    "دراسة": زيادة لياقة القلب تقلل خطر الوفاة بنحو 20 في المائة    عبد الجبّار السحيمي في كل الأيام!    دراسة: مجموع السجائر المستهلكة "يلتزم بالثبات" في إنجلترا    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    الأمثال العامية بتطوان... (586)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ريجيس دوبراي يتحدث عن الإخاء والانتماء الجماعي والغيرية الثقافية وموضوعات أخرى

ضمن ركن الحوارات الكبرى، نشرت مجلة لوماكازين ليترير في عددها 488 يوليوز وغشت 2009 حوارا مطولا مع ريجيس دوبراي، أحد أبرز الوجوه الفكرية في فرنسا، وذلك على خلفية صدور كتابه الاخير «لحظة الاخاء» والذي يتضمن نقدا جذريا وجريئا لدعاة مناهضة الانتماءات الجماعية، المعززين اليوم لثقافة يصبح فيها الفرد المعزول عن الكون والمفصول عن ماضيه وجذوره، الفاعل الاساسي في التاريخ ومنتهى المبتغى الديمقراطي.
ريجيس روبراي ينخرط بطريقته، وان لم يصرح بذلك بشكل واضح، في النقاش العام حول مفهوم الجماعة أو الجماعوية الذي كان قد ألهب الساحة الثقافية في البلدان الانجلوساكسونية منذ أواسط الثمانينات والذي كان المنخرطون فيه من منتقدي النزعة الغربية المركزية قد تولوا تفكيك خطاب العالمية ومنظومة ما اعتبر حقائق كونية مجردة، لكن دوبراي مع ذلك لم يتنازل قيد أنملة عن رصيد فلسفة الأنوار وعن أفق العقلانية، وان انتقد ما سماه بنصفها الباهت وباخفاقاتها في تفسير ظواهر تنتمي إلى عالم الأضواء.
ريجيس دوبراي يبين في هذا الحوار المطول مع أليكسي لاكروا العلاقة الجدلية، علاقة التجديد المتبادل بين ايديولوجيا الفردانية التي لا يتردد في نعتها بديانة الغرب المعاصر، وبين الصعوبات التي تعترض اليوم مبدأ قبول الغيرية الثقافية في المجتمعات الغربية.
دوبراي كذلك، الذي يعتبر من أبرز دارسي الميديا ووسائط الاتصال، يبين دور هذه الاخيرة في تحول أنماط الوعي والانزياحات التي تعرفها التجربة الروحية للتحصيل والمعرفة والقراءة بتأثير من هذه الوسائط.
وعلى الرغم من أن دوبراي يعلن تبرمه من الفلسفة كما تمارس اليوم (كثير من الشروحات وقليل من الملاحظة) مفضلا عنها موقع المسافر الملاحظ، المهووس بالمغامرات الملموسة، فإن ما يطرحه من أفكار في هذا الحوار المطول يدخل في الحقيقة في صميم التأملات الفلسفية الرهينة حول معضلات عالمنا، عالم اليوم وبصفة خاصة حول علاقة التوتر الكبير والضاغط بين الفردي والجماعي.
تبقى الاشارة إلى أن ريجيس دوبراي يبقى من المثقفين الفرنسيين القلائل اليوم-وهو الذي أمضى عشر سنوات من شبابه مناضلا بجانب تشي غيفارا في غابات أمريكا اللاتينية وقراها- الذين أغنت تجربة ما بعد مرحلة الشباب حساسيتهم السياسية الاصلية بحيث لم يكن النضج بالنسبة إليهم مرادفا للانسحاب من الساحة أو التنكر للمراحل الأولى.
هو من القلائل الذين تصاحب الفكرة والموقف السياسي لديهم أساسات وأساسيات فكرية راسخة.
لنستمع إليه:
أليكسي لاكروا
لم تنتظروا فيما يبدو صدور كتابكم الأخير «لحظة الإخاء» لكي تبرزوا كيف أن المطلع الثالث في شعار الجمهورية الإخاء مثّل نوعاً ما الزاوية الميتة في التفكير المعاصر، وحينما قمتم بتثمين هذا المطلع، اعتبر البعض أنكم تخليتم عن المطلعين الثاني والثالث في الشعار، أي الحرية والمساواة. هل يتعلق الأمر بتحول تيولوجي سياسي في فكركم؟
ريجيس روبراي
علينا أن نركز دائماً على ما هو أكثر صعوبة وتعقيداً من غيره، أو على الأقل ما هو أقل بداهة. إن الإخاء يمثل المنبوذ وغير المحبوب في المجتمع الليبرالي. الأنتلجنسيا الراقية تتعامل معه بنوع من التعالي والسلطات القائمة تتجاهله. بالطبع، لو كنت فلسطينيا أو صينيا أو هنديا لاشتغلت بكل جهدي على الحرية الفردية. هناك تبدو هذه هي الزاوية الميتة. أما في الزمن الغربي، زمن الأفراد، فإنني أطالب بالحق في الحديث عن الشعب، والذي يغيب الحديث عنه بشكل مريب وغريب اليوم، ولست أرى في ذلك أي تحول تيولوجي إن معطى الجماعة يأسر تفكيري حاليا. هذا كل ما في الأمر.
أليكسي لاكروا
هل تقرون بوجود تشابه بين مشواركم ومشوار أو مسار أندريه مالرو؟
ريجيس روبراي
إنه لشرف كبير، ولدي احترام كبير لهذا المفكر، ليس لهذا الرجل تلك المسحة الصوفية، ولا تلك الصورة الاستثنائية والخاصة جداً التي تود الدوكسا أو الدوگما الفرنسية إلصاقها به. لقد عاش مالرو بتواضع وفهم مبكراً جوهر الديانات الدنيوية (المقصود الإيديولوجيات). وربما بسبب ذلك، كانت علاقته بالحقائق السياسية أقل دراماتيكية من علاقتي أنا بها، وهذا أحد الفروق والاختلافات الأساسية بيننا، وخلافا له، فإنني لم أجد أنا ما وجده هو في دوغول. لقد طوى الزمن الآن أجنحته، وبدون شك، فإن حكم زمن الميلاد كان حاسماً، فأنا أنتمي إلى جيل لم يمسك التاريخ بخناقه، كما أمسك بجيله هو.
أليكسي لاكروا
خلال كلمة تكريم واحتفاء بمالرو من طرفكم، كانت قد أضحت شهيرة، قلتم إن مالرو صاحب الوهم المتوهج، والذي حسبناه صاحب الرأي الثاقب، اخترق القرن باهتزاز كبير، لكن مالرو الكاتب، في المقابل، تمكن وباقتدار، من أن يشخص بدقة الفراغات المهولة التي نتحرك فيها. هل لازالت لحدوساته تلك القدرة التفسيرية، هل لازال بإمكانها أن تنير المسالك لفهم جوانب من حاضرنا؟
ريجيس روبراي
بالتأكيد، وأنا لا أستسيغ القساوة التي عومل ويُعامل بها من طرف زعماء الفكر السائد، فكر المرحلة، ومع ذلك، يجب الإقرار بوجود فراغات كبيرة وغير مفهومة ولا مقبولة في فكره. فالإسلام مثلا غائب تماماً عن أفق تفكيره، وفي مؤلفه «كتابات حول الفن»، والذي يشمل مجموع الحضارات، فإن كلمة إسلام لا تكاد ترد تقريبا. إن الإسلام هو بمثابة القارة السوداء في فكره. وحدها بلاد فارس تبرز، لأنها تمكنت من الإفلات من ضربة المقص لديه. ويبدو البحث عن الدين عبر تعبيراته الفنية عند مالرو نوعاً من التعويض الذي ينتمي إلى نوع من عمليات الاسترجاع التي تتم في آخر لحظة. لقد أدرك مثلا أن مبدأ التوحد الذي ينبني عليه الفن يأبى الفراغ.
أليكسي لاكروا
أتريدون القول، بأنه أراد على طريقته، إعادة تمثُّل الجماعة والأمة والتفكير ضمن أفق جماعي؟ هل كان يتوفر على حدس بخصوص شكل زماننا حينما قال «إن القرن الواحد والعشرين سيكون قرنا دينيا أو لن يكون»؟
ريجيس روبراي
لنقل بالأحرى أنه شعر بأنه حينما ينمحي ارتباط أو انتماء ما، مثلا الانتماء الوطني القومي، أو الانتماء الحزبي، فإن انتماء آخر من طينة إثنية أو من طينة دينية يحل مكانه بشكل أوتوماتيكي، فكلما انمحى تاريخ ميلاد معين، أو انمحت دائرة ترابية معينة حصل نوع من فقدان الاتجاه والهدف،
ذلك أنه لكي نتمكن من معرفة إلى أين نحن ذاهبون، علينا أن نعرف أولا من أين أتينا.
إن الانمحاء الكبير لمختلف أنواع الموروثات الثقافية الذي وقفنا عليه خلال الخمسين سنة الأخيرة أنتج بشكل شبه أوتوماتيكي صعود الهويات الوراثية، وهكذا فإن المثقف التقدمي، المقصوص الجناح يعيد اليوم اكتشاف هويته، الجهوية أو الدينية، أيتعلق الأمر بانتقام الأديان، كما نسمع هنا وهناك من طرف عدد من المنظرين؟ اعتقد أن السؤال الأكثر وجاهة الذي يتعين طرحه هو «هل كناقد خرجنا حقا من عالم الأديان؟ وأظن بهذا الخصوص أنه أكثر من عودة الديني فإن ما يجرى أمام أعيننا هو انتقام الصيغ الأصلية على مثيلاتها المنسوخة، أي الصيغ اللائكية. إننا بكل بساطة نرى عودة تقليدانيات قديمة، وقد علقت بها الفانتازما، بحيث يبدو كما لو أن هذه التقليدانيات قد شملت المشعل من الأبنية الفكرية التاريخية القوية، ولكن المصابة بالوهن الآن.
أليكسي لاكروا
تلحون على أنه خلافا لمالرو فإنكم لم تجدوا أبدا دوغولكم، أي دوغول يلائمكم، ولكن الواقع يبين أنكم سعيتم في سبيل ذلك، منذ صدور مقالكم الشهير بمجلة النوڤل أوبسرڤاتور سنة 1989. لقد حاولتم بدوركم إيجاده في القيم وفي الرمزيات التي يقوم عليها الإرث الجمهوري. أليس كذلك؟
ريجيس دوبراي
- لقد عدلت عن الأمر بعض الشيء لأسباب متعددة منها (وإن لم يكن هذا هو أهم سبب) أن التمايز أو الفرق بين الديموقراطيين من جهة والجمهوريين من جهة ثانية قد انتهى إلى جر الجميع لصراع بليد. وأنا لم أكف عن تحليل - ومساءلة - التأثيرات التي تمارسها الرياح الآتية من الغرب، أي تلك الكتل الفكرية الأطلسية، الأقل خطورة بكل تأكيد من رياح الشرق التي كانت محط تبجيل من قبل الماويين الباريسيين في السابق. لقد تم الخلط تحت راية الديموقراطية في الحقيقة بين مسارين تاريخيين مختلفين بشكل كبير، المسار الفرنسي والمسار الأمريكي.
وعلى أية حال، فإنه يحدث لي أن أغبط ذلك الشعور بالانتماء الديني الذي يشكل إسمنت الانسجام في أمريكا. أقصد ذلك الشعور بالزهو للإنتماء إلى ما يسمونه هناك بالمصير الظاهر، أو أمة واحدة تحت ملكوت الله.وهو الشعور الذي يمثل بصورة موازية ما يمكن دعوته بالهوية الأمريكية، أي خليط من البنية الدينية والحمية ا لوطنية، نجم عنها في النهاية الإلتزام بأحكام الدستور ولائحة الحقوق - وكل الترسانات الأخرى التي يعيد باراك أوباما تحريكها اليوم.
أليكسي لاكروا
ألا تحسون بأنه خلافا لذلك فإن فرنسا تشكو من غياب هذا النوع من الترسانات الرمزية؟
ريجيس دوبراي
- إذا أردنا استخدام تشبيهات أو استعارات ميتافورية هندسية، يمكن القول أن الانتماء وفق التقليد الجمهوري يتم فقط على مستوى البعد الأفقي، فلقد تم الانزياح عن فضاء المقدس المتسامي مذ تم قطع رأس الملك، أحد فرسان الله في الأرض، ومذاك حل الدين على الطريقة الجمهورية محل ما كان موجودا من قبل، غير أن هذا النوع من الاستعاضة بدت ضعيفة ورخوة.
أليكسي لاكروا
لقد دافعتم لمدة طويلة عن كون مبادئ الجمهورية والتسامي الذي تصنعه كافية لانتاج المعنى، بماذا تفسرون هذا التحول في مساركم الفكري والذي لم يتردد البعض في نعته بالمنعطف التيولوجي السياسي؟
ريجيس دوبراي
إنني أرفض هذا الوصف وهذا التصنيف بالنظر لتعلقي بالمادية، والذي لا أخفيه، ولكن علي أن أعترف أنني صرت اليوم أكثر حساسية إزاء بعض الفراغات من حولنا.
أليكسي لاكروا
هذا خلافا لمثقفين آخرين، ضمن العائلة الجمهورية، أليس كذلك؟
نعم لأن هذه المسلمة أو هذه القاعدة اللائكية ارتبطت منذ البدء بالمدرسة، والحال أن القول يكون تلقين قيم العقلانية ونشر الحس السليم يكفيان لإفراز جسم سياسي صلب هو نوع من الوهم (حتى وإن كان وهما جميلا) ولا أخفيكم أنني أرى في هذا الوهم المؤسس نوعا من المبدأ غير المفكر فيه للأنوار، إنني أرى فيه الثقب الاسود الذي يلف فلسفة الانوار، وخلافا لما أخذه علي البعض عند حدود كتابي «أنوار تعمي الابصار»، فإنني لا أشعر البتة أنني كنت في أية نقطة من مساري الفني أسير وجهة نظر لاهوتية او مقاربة ميتافيزيقية. كل ما حاولت القيام به ان أترجم بمفردات عقلانية،وإن مشتتة البعد العاطفي الوجداني، أقصد بعد الاهواء الذي لم تعره الانوار الاهتمام الكافي والذي جعل صفاءها يبدو من نوع ذلك الصفاء الذي يعمي الابصار.
لقد فهمت الانوار كل شيء، ولكنها لم تتفطن (وفرق بين الفهم والفطنة) والسبب هو مناهضتها المنهجية وبإصرار لمعطيات اساسية كمعطى الحروب ومعطي الثقافة بالمعنى الاثنولوجي الهوياتي، وقد أدت هذه المناهضة الى التعثر في فهم شعور الحمية الوطنية المتأججة للجمهوريين خلال الفترات التاريخية الحاسمة.
أليكسي لاكروا
مناهضة الهوية والشعور الهوياتي، ماذا تقصدون؟
ريجيس روبراي
أقصد بذلك نوعا من الخجل او لنقل نوعا من الطابع الرخو للأنوار والذي كانت له نتائجه وتبعاته المؤكدة، من بينها الاصرار، إصرار الانواريين على دراسة ظواهر رومانسية بامتياز لطرق تحليل كلاسيكية، ظواهر في شاكلة تهيج الجماهير، الحروب، الميثولوجيات، المخاوف الجماعية، واليارانويات، الكيشهات والتمثلات المبالغ فيها، ومع ذلك فإنني أجد نفسي وموقعي ومربعي ضمن الانوار، وذلك بشكل لا غبار عليه وبدون عقد، مع الاعتراف بأن الانوار تركت في الظل نصفها الباهت اي الاهواء الجماعية، وان النتيحة التي تمخضت عن ذلك تمثلت في أن الفلاسفة الذين انضجوا شروط الثورة الفرنسية لم يعيروا بعض القطاعات ولا بعض الهويات حقها مع أنها هي التي جسدت القيم المعنوية والثقافية للانوار كالجيش والامة، ولنا أن نتساءل بهذا الخصوص على سبيل المثال: ألم يكن شخص من عيار جون زاي شخص وطني متحمس أولا وأخيرا؟ ثم ماذا كانت صيحة المؤرخ الذائع الصيت مارك بلوك وقت إعدامه رميا بالرصاص، غير صيحة، ليعش الوطن، لتعش فرنسا؟
أليكس لاكروا
من يتتبع مشواركم الفكري، يتبين له بوضوح ان هنالك تجربتان رافقتا نوعا ما التعقيد الذي عرفه فكركم في النهاية، تجربة حب الادب، ثم تجرية الغيرية الثقافية، غيرية ما عادت فيما يبدو على ذوق العديد من المثقفين الذين افتقدوها او فقدوها.
ريجيس دوبراي
لقد لخصتم بشكل جيد كل شيء، إنني أتبرم من الافكار العامة لدرجة انني أشعر بنوع من الامتعاض الكبير إزاء ما يطلق عليه اليوم فلسفة.
أليكسي لاكروا
لماذا؟
ريجيس دوبراي
لأن الفلسفة تمنعني من أن أضع نفسي في الخارج، في الهواء الطلق، كثير من الشروحات وقليل من الملاحظة، هو ذا وضع الفلسفة اليوم، لقد كان ليفي ستراوس على ألف حق على هذا الصعيد. ان الفسلفة كإنتاج للنصوص او كتجربة انعكاسية للافكار لاتهمني كثيرا، خاصة اذا كان المقصود والمطلوب هو الوصول الى درحة متقدمة من إدراك وفهم العالم، آقول هذا علما بأن أوراقي الثبوتية كلها مضبوطة: التبريز، الدكتوراه، الاهلية للاشراف على البحوث الخ.
أحس أنني منجذب اكثر لعالم اللقاءات والاسفار، أحس بالارتياح كمسافر أكثر مما أحس به كأستاذ، أحس بالارتياح في موقعي كمشكك في البداهات اكثر مما أحس به كدكتور، وأود ان أقول ايضا انني أحس بنوع من الحرج لا أملك مداراته حينما يتم تقديمي في محفل ما كفيلسوف.
وبعيدا عن أية رغبة مني للبحث عن ظروف التخفيف، فإنني ألاحظ اليوم انه كلما أبحرت في ذكرياتي، حتى البعيدة منها، أجد أنني اشتغلت على الفلسفة او بالفلسفة لغياب بديل. ولم يكن حافزي النبش في أفكار او تفكيك افكار بقدر ما كان ابداع اشكال، وربما كان ذلك استجابة لذوق تملكني، ذوق الابحار باتجاه المغامرات الملموسة.
وعلى خلاف ذلك، فإن الدراسات الادبية بدت لي دائما اكثر، مدعاة لاعمال نوع من الانضباط، انضباط صعب، لانها تقوم على تطبيق مناهج صلبة وصارمة في تحليل النصوص. ثم كانت هناك بالطبع الماركسية وتأثيراتها. ففيما يخصني مثلا، استجابت الماركسية بشكل كبير لهواجسي بخصوص مبدأ الفعالية، فلقد انجذبت بسرعة وسهولة للفكرة القائلة بأن الفلاسفة انشغلوا طويلا بتفسير العالم، وانه آن الاوان لتغييره، ومن جهة أخرى فلقد ساعدت الفلسفة في كل الاحوال على التذكير حقيقة تناساها المعاصرون، حقيقة وجود الاخر.
اليكسى لاكروا
نعم هذه الفكرة، فكرة اسبقية الجغرافيا بحصر المعنى على جغرافية الافكار، لمن تدينون بها اكثر، هل للويس التوسير، ام لقراءتكم المواظبة لاوكست كونت وكاستون باشلار ،أم للقائكم بتشي غيفارا؟
ريجيس دوبراي
لقد تعلمت في امريكا اللاتينية بعد مراس طويل لم يكن سهلا، ان الاخر موجود وانه بالرغم من كل شيء بامكاننا ان نصنع معه ذلك النحن الذي نحتاج اليه. نحن ننتمي إلى عالم الاهالي، نحن متمنع ومنفلت مما كنت اعتبره الحقيقة الكونية المجردة، إن التعلق بالملموس على الصعيد الادبي، مضافا اليه تجربة المنافي جعلاني شديد الحساسية ازاء الخطاب الفلسفي المنغلق على ذاته، كما انهما لعبا بالنسبة لي دور الوقاية واكاد اقول التعقيم، وبشكل مبكر، ضد تلك الايديولوجيات المعاصرة الزاحفة وايديولوجيات الفردانية والانفصال عن الجذور.
لقد اضحى الخطاب المناهض لفكرة الانتماء والذي استهوى العديد من المفكرين المعقلين في الهواء بين السماء والارض خطابا لا يطاق. ان الغربيين عموما، المسكونين بفكرة تفوقهم الانطولوجي على الحضارات الاخرى هم منهمكون بالكامل في محاولة نفي وجود هوية تاريخية، وذلك في اطار رد فعل كولونيالي كلاسيكي.
لقد مكنتني عشر سنوات من الاقامة المسترسلة في قلب ثقافة اخرى مغايرة من ان اثمن وازن حق وزنه الوسط الذي قدمت منه، مكنتني من ان اكتشف انني لم آت من الفراغ.
اليكسي لاكروا
تبدو ثقتكم كبيرة، تماما كثقة ليفي ستراوس قبلكم في فائدة، بل وضرورة، الممر الاتنوغرافي في صوب المعرفة. أليس كذلك؟
ريجيس روبراي:
إنني اومن على كل حال بأن المنفيين وحدهم يفهمون بيسر الى أية أمة ينتمون، إن أحسن معقم ضد عقلية مناهضة الخصوصي والمفرد التي استبدت بالعديد من المثقفين هو خلط اللغات والاختلاط بالآخرين، لقد جرب الفرنسيون الاحرار هذا الامر في لندن سنة 1940 وانا بدوري مررت بالتجربة ذاتها، ففي امريكا اللاتينية تحديدا شعرت بانتمائي الفرنسي والاوربي، كان ذلك سنة 1967، يبدو كما لو أن الاكتشاف ذاك جاء متأخرا بعض الشيء، لكن علينا ان لاننسى ان الامر كان مخالفا تماما لما كانت تسعى لتكريسه التيارات التي ألهمت وألهبت حركة ماي 1968.
أليكسي لاكروا
إن مناهضة الانتماء هي ما يشكل العمود الفقري لما تسمونه ب «ديانة الغرب المعاصر» والتي تناضلون ضد تعاليمها في كتابكم ، أليس كذلك؟
ريجيس دوبراي
علينا دائما ان نحترس من الخلط بين إلهام الاصول وبين المؤسسات القائمة احيانا على أنقاض ذلك الالهام او تلك الاصول، ان ايديولوجيا حقوق الانسان و بطارياتها لا ينبغي ان تكون مدعاة او مبررا يجعلنا نقوم بتبخيس او التقليل من أهمية الاعلان العالمي لحقوق الانسان لسنة 1948،ومرة أخرى فعليا أن نجد التوازن المطلوب بين الديموس والإيتنوس، وكما أوضحت ذلك في كتابي ،فإن لكل جانب من جوانب الواقع، ومن جوانب الحقيقة فأنطازماته واستيهاماته المدمرة، فلقد كان للديموس حماقاته الكولونيالية، وهذا لايمنع من أن نكون ديموقراطيين، وبالمثل فإن للاتنوس (الاثنية) كذلك حماقاته الهوياتية والتمايزية، ولكن هذا لن يمنع الاتنوغرافيين من الاستمرار في الاشتغال.
أليكسي لاكروا
تشكل إعادة اكتشاف الديموس في الاتنوس إحدى الخطوط الحمراء في كتابكم «لحظة الاخاء» ويتبادر هنا الى الذهن سؤال كبير لماذا يتمخض عن إعادة الاكتشاف هذا نوع من الاتجاه لديكم كنقذ جذري لحقوق الانسان اكثر من نقد ايديولوجيا التواصل التي تبثها مختلف وسائط الاتصال؟ ثم دعنا نكون صريحين: هل ما يجعل الإنسان المعاصر عاجزا عن الاعتراف بالغيرية والترحيب بها هو فضاء حقوق الانسان، أم أن المسؤولية تتحملها أساسا القنوات الاعلامية؟
ريجيس دوبراي
لكم الحق في هذه الملاحظة، لكن علينا الاقرار بأن الاثنين يتداخلان ويتكاملان بشكل كبير، فقد تم اختزال حقوق الانسان اليوم في حقوق الفرد، المعزول عن الكون، عن الكوسموس، عن الطبيعة والمفصول عن جماعة وعن ماضيه الخصوصي، والحال ان الشاشات التلفزية لا تظهر سوى الافراد، وكل الكائنات اوالاجساد لديها تتشابه. وهكذا فإن الصورة الخاطئة التي يظهرها ما يقدم كتعاقدات بين الافراد، تعاقدات في كل شيء، اي صورة انمحاء التحديدات والتأثيرات اللاواعية لحساب الارادة الحرة للافراد، ان هذه الصورة الخاطئة تنسجم وتتماشى تماما مع ما ادعوه بفضاء أو مجال الفيديو، فكل ما لايمكن اظهاره غير موجود، فرنسا غير مرئية، وكذلك البروليتاريا وكذلك العدالة. ان اختفاء الميثولوجيات المؤسسة يجري تعميق مفعولاته من خلال الخواء التكنولوجي للوحدات والكيانات الرمزية. الميثولوجيات المؤسسة لم يعد لها حق الوجود، لقد كنا نتحدث في السابق عن الحركات الوطنية، وليس صدفة أن اغلب هذه الحركات هي من فعل مثقفين وادباء. ان الامة هي دائما وعند البدء معطى اوربيا.
اليكسي لاكروا:
بصفة موازية، لكن معكوسة يبدو أن تضاءل دور الكتاب وتآكل قداسته والذي تسرعه و سائط الاتصال او ما تسمونه بمجال الفيديو واكثر مما تسرعه ترسانة حقوق الانسان، يبدو أن ذلك التضاؤل والتآكل يعنيان أن الكيان الجمعي، اي النخب يعيش الان لحظة اهتزاز وذوبان، او ليست هناك علاقة بين الشعور بالوحدة التي صنعها الادب وبين حيوية «النحن».
ريجيس دوبراي:
بالتأكيد، لكن نقطة الارتكاز في هذه المفارقة هو ان ما فقد الحيوية عندنا لازال يتوفر على حيوية كبيرة لدى الاخرين في مناطق اخرى، فالمابهراتا في الهند لاتزال موجودة وكونفوشيوس في الصين ليس اقل وجودا وحيوية ومظاهر الاحتفاء بالاجداد تتكاثرفي افريقيا وهايتي.
اليكسي لاكروا:
من هذه الزاوية، فإنكم كما لم لوسائط اتصال العولمة تلتقون مع حدوسات صامويل هونتنغتون في مؤلفه الشهير صدام الحضارات مع فارق بينكما في طريقة تفسير الظواهر الملاحظة.
ريجيس دوبراي:
من الغريب حقا والمثير للدهشة ان يقع نوع من شيطنة او تجريم هونتينغتون لأنه طرح بديهيات. المهم في نظري هو انه لا يجب ان نستنتج من هذه البديهيات او ان نرتب عليها داروينية حضارية تقول بحق القوي في السيطرة والغلبة.
اليكسي لاكروا:
اذا كان قد وقع الخلط الى هذا الحد بين هونتينغتون وبوش، او ليس ذلك بسبب ما تسمونه بديانة الغرب المعاصر
ريجيس دوبراي:
ان ما ادعوه بديانة الغرب المعاصر هي في الواقع ديانة من لا يؤمنون وككل ايديولوجية كلاسيكية. فإنها تلعب دور التغطية. على هذا الصعيد لا جديد تحت الشمس. ولكن ما يزعج في الموضوع هو ما يبدو لي اعتداء يمارس على اللائكية. الاخاء يحررنا من العشيرة فيما تعيدنا اليها ديانة الغرب المعاصر على نطاق موسع، اعتقد ان الامر يجب ان يتجنب دور رجل الدين وانا هنا لا أتردد في المطالبة بفصل صارم بين الديني والدنيوي.
اليكسي لاكروا:
ألا تؤدي هيمنة ما تدعونه ب «الكرافوسفير» (في إحالة الى وسائط الاتصال الالكترونية) الى تهميش نهائي للكتاب، انتم كمتخصص في علوم الاتصال الحديثة، هل لازلتم تعلقون الامل على دور الكتاب الإلكتروني؟
ريجيس دوبراي
انني لا أمارس قراءة الكتب على الطريق الالكترونية، ولكنني غير فاقد للامل على هذا الصعيد، إن حياة الفكر لم تكن ابدا منفصلة او قابلة للانفصال عن الوسط الفكري الذي فيه وبه تنتشر. وبالطبع فإن حياة الفكر تتغير اليوم مع وسيط الكمبيوتر كما تغيرت بالامس البعيد مع وسيط الطباعة.
لم يسبق ان كثرت القراءة كما تكثر اليوم، و دون مواربة او تردد يمكننا القول، ليعش انترنيت والبلوك ولتعش المواقع. بالطبع تتم القراءة اليوم بشكل مختلف. نقرأ نصوصا اخرى، غير مطولة كثيرا ولا جامدة ولاخطية الاتجاه ولا دائمة او أزلية. تؤدي الشاشة الى تغيير التجربة الروحية للقراء باتجاه البحث عن المحموم والحميمية والمنفعة. الاخبار اليوم تطرد التأمل، لكن، مهلا، اذا اردتم رأيي بهذا الخصوص، فسأقول ان التأمل عائد بقوة. تبقى الاشارة الى أن كل تطور تقني يؤدي الى انبعاث قوي للاثنية القديمة والمتقادمة، في هذا السياق اقول، إن مدام دولافاييت هي امرأة للمستقبل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.