تداول على المشاركة في الحكومات المغربية العديد من الوزراء، لكل منهم قصته الخاصة في كيفية الوصول إلى مقعده في الوزارة، من خلال مساهمة كل واحد في النشاط السياسي للبلد سواء من داخل أحزاب الحركة الوطنية وامتداداتها في الساحة السياسية، أو من خلال الانتماء إلى عائلات مخزنية تاريخيا، أو عبر بوابة التكنوقراط الذين حفل بهم المشهد السياسي المغربي على طول تاريخه، في هذه الحلقات نحاول تتبع خيوط التاريخ السياسي للمغرب من خلال تاريخ بعض وزرائه الذين بصموا الحياة السياسية للبلد. لم يحزن المستشار أحمد رضا اكديرة يوما أكثر من الحزن الذي ألزمه الفراش، بعد فشل المشاورات الأولى لتشكيل حكومة التناوب في عام 1994. وقتها، كان ممددا على سرير المرض، وطلب من أحد مرافقيه أن يمكنه من قلم يكتب به ما كان يخالجه. فالرجل الذي ظل يجاهر بكون سلاحه الوحيد هو قلمه، منذ أن كان يدبج افتتاحيات نارية ضد المعارضة في صحيفة «أضواء» ويرافع بلسانه أمام المحاكم، لم يتمكن هذه المرة من العثور على منبر إعلامي. حدث أنه بحث عن ورقة بيضاء، وحين لم تسعفه الظروف، كتب بضعة سطور على جانب من قميصه الأبيض، يطلب فيها شيئا واحدا، أن يجتمع بصديقه الملك الحسن الثاني قبل أن يغيبه الموت. كان بعض المقربين إليه قد تدخلوا لدى الملك الراحل، غير أنه واجههم بالقول: «اكديرة صديق، لكنه مستشاري الذي يدفع له راتبه من خزينة الدولة، وليس من حقه أن يدفع إلى الخطأ». كانت تلك الكلمات التي نقلها فقيه ظل يحظى بتقدير الملك تعني شيئا واحدا، وهو أن مهمة المستشار يجب أن تترفع عن الحسابات وتكون أبعد عن تصفية الحسابات. إلا أن الذين عرفوا اكديرة كانوا يرددون أن حساباتهم مع بعض الأطراف السياسية تحكمت كثيرا في أسلوب عمله. وقد أفصح يوما بأن «مشكلة بعض الزعامات الحزبية أنها تعلمت أشياء خاطئة، ولم ترغب أبدا في نسيان ما تعلمته، بالرغم من مرور الزمن، بل إنه كان يزايد أكثر في نظرته هذه بالقول: «المشكلة الأخطر أنها غير قادرة على إعادة النظر في ما ترسخ لديها من قناعات». غير أن وضعه الدقيق، كمستشار متنفذ، جمع بين الملفات الداخلية والعلاقات الخارجية والالتزامات الدولية، لم يترك أمامه من سبيل لتكريس نظرته تلك. وقد أسر يوما لأحد مقربيه «إذا كان له من مؤاخذات، فإنه لا يستطيع أن يتفهم لماذا على امتداد كل التجارب الحكومية والتطورات السياسية، لم يجرب حظه في أن يصبح وزيرا أول في المغرب». لم يكن المنصب في حد ذاته هو ما يرغب فيه، فقد كان يمارس نفوذا سياسيا أكبر من أي منصب أو موقع، لكنه الوضع الاعتباري الذي كان يحلم أن ينهي به حياته، وهو إن لم يستطع أن يرتقي إلى هذا المنصب في ستينيات القرن الماضي، حين جمع أكبر تحالف يميني ضمن ما عرف ب«جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية»، فكيف يتأتى له ذلك وقد تغيرت أمور كثيرة في سياق التجاذبات السياسية التي عرفتها البلاد. تميزت أول حكومة لمغرب ما بعد الاستقلال، والتي ترأسها مبارك البكاي، بإسناد مناصب وزراء دولة إلى شخصيات سياسية عدة، وفيما أُسندت نيابة رئاسة الوزراء إلى كل من محمد الزغاري وإدريس المحمدي وعبد الرحيم بوعبيد، ظهر اسم أحمد رضا اكديرة من خارج فصائل الحركة الوطنية كوزير دولة إلى جانب محمد الشرقاوي، كان ذلك يعني أن هناك اتجاها لإشراك شخصيات من غير حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال في الحكومة، غير أنه قبل إكمال تلك الحكومة عامها الأول، وتحديدا في السادس والعشرين من أكتوبر 1956، سيظهر اسم مؤسس حزب الأحرار المستقلين: محمد رشيد مولين كوزير دولة مكلف بالوظيفة العمومية، وسيسند إلى رفيقه أحمد رضا اكديرة منصب وزير الأنباء والسياحة، فيما انتقل عبد الله إبراهيم، الذي شغل كتابة الدولة في الأنباء إلى وزارة الشغل والشؤون الاجتماعية، وكان ذلك مؤشرا على رغبة القصر في حصر وزارة الأنباء ضمن قوائم المقربين إليه أكثر، مع أن المرحلة لم تكن تشي بتناقضات، وإنما بإرهاصات كان صعبا تصور المآل الذي ستنحو في اتجاهه. من أبرز تطورات المرحلة أن رضا اكديرة سيعود إلى الواجهة، في عهد الحكومة الثانية التي ترأسها الملك الحسن الثاني، إذ أصبح وزيرا للداخلية والفلاحة، وهما قطاعان احتلا الصدارة في انشغالات الملك وهو يمشي خطواته الأولى على طريق ترسيخ حكمه. فقد سبق ذلك التعيين إعداد أول أول مشروع للدستور في عام 1962، وبدا أن التجربة، التي لم تشارك فيها أي من قيادات الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بعد انشقاق 1959، ترمي إلى إعادة ترتيب خارطة سياسية جديدة يغلب عليها تيار المحافظين. وبعد أن كان رئيس الحكومة يشرف على قطاع الدفاع الوطني، أسندت المهمة إلى المحجوبي أحرضان، فيما تحول اكديرة إلى وزير للشؤون الخارجية في حكومة الحاج أحمد اباحنيني، التي واجهها الفريق النيابي للاتحاد الوطني بملتمس رقابة. خلال النقاش الذي دار إبان تقديم ذلك الملتمس، ركز اكديرة على البعد الإقليمي في الأزمة الناشئة، ومما قاله وقتذاك: «ملتمس الرقابة شيء طبيعي بالنسبة إلينا نحن أعضاء الحكومة، نحن الذين ساهمنا مساهمة فعالة في تحضير الدستور والتصويت عليه»، في إشارة إلى الدور الذي قامت به «جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية»، لكنه طرح تساؤلات حول توقيته ارتباطا بالعلاقات القائمة، آنذاك، بين المغرب والجزائر. وقال بهذا الصدد: «في اليوم الذي وضع فيه ملتمس الرقابة، حل بالقصر الملكي بالرباط مرسول من لدن الرئيس الجزائري أحمد بن بلة، وكان في الجزائر إدريس المحمدي مرسولا من الملك الحسن الثاني. وهناك صلة بين الإرادة التي أبداها بن بلة على أنه لن يعين أي حركة في هذه البلاد، وبين توقيت طرح ملتمس الرقابة، ومن غير أن يجزم في نوعية هذه الصلة، طلب إلى فريق الاتحاد الوطني طرح نفس السؤال. ذلك الإيحاء الذي جاء على خلفية وقف حرب الرمال التي دات رحاها في خريف 1963 بين القوات المسلحة الملكية والجيش الجزائري، على إثر تسرب فلول من العسكر الجزائري داخل الأراضي المغربية، ربما كان يراد به إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، غير أن العلاقات المغربية الجزائرية لن تسير في الاتجاه الصحيح، بالرغم مما أبداه المغرب من حرص على احترام أوفاق حسن الجوار بعد إبرام اتفاق وقف إطلاق النار بوساطة من الرئيس المصري جمال عبد الناصر وإمبراطور الحبشة هيلاسي لاسي. ومن وقتها، سينشغل اكديرة كثيرا بملف العلاقات المغربية الجزائرية، حتى بعد أن غادر الخارجية وتدرج في مناصب أخرى بين الديوان الملكي ووزارة التربية الوطنية. وحكى مقربون إليه أن علاقاته بوزير الخارجية الجزائري آنذاك عبد العزيز بوتفليقة توطدت أكثر، حين كان الاثنان رفقة أصدقاء آخرين، من بينهم الجنرال محمد أوفقير، يلتئمون في جلسات في الدارالبيضاء، كان يحضرها أحيانا الأمير مولاي عبد الله، إذ يدور حوار هادئ حول آفاق تلك العلاقات، التي تحسب فيها سنوات الانفراج على رؤوس الأصابع، في مقابل حقب التوتر والتأزيم. وإذ يعتبر اكديرة أحد أبرز الوزراء الذين قدموا استقالتهم إلى الملك الحسن الثاني في ظروف معينة، فإن اجتيازه الصحارى إبان سنوات عدة، بعد مغادرة المناصب الحكومية، لم يحل دون استمرار علاقات وطيدة مع الملك الحسن الثاني، الذي قرر يوما أن يعيده إلى الواجهة مستشارا متنفذا، إلى جانب محمد عواد وأحمد بن سودة وإدريس السلاوي، ثم عبد الهادي بوطالب لاحقا. والأكيد أن عودته في عام 1977 كانت مختلفة، في طبيعتها وظروفها، عن المراحل السابقة. لعل اكديرة هو الشخص الوحيد الذي ارتدى بذلة المحاماة وذهب إلى المحكمة العسكرية في القنيطرة، ليدافع عن بعض العسكريين المتهمين في المحاولتين الانقلابيتين الفاشلتين عامي 1971 و1972، وقد استغل الحدث لرفع لواء الدفاع عن عودة الحياة السياسية وإنهاء مرحلة الاستثناء على طريقته التي لم تخل من توجيه رسائل مبطنة. لكنه حين اندلعت بوادر أزمة الصحراء في العلاقة بين المغرب وإسبانيا، عاد إلى الواجهة يقدم استشارات قانونية إلى جانب زعماء في المعارضة، وفي مقدمتهم الراحل عبد الرحيم بوعبيد، وكانت له كلمته في اختيار المحامين، الذين تولوا الدفاع عن موقف المغرب أمام ردهات محكمة العدل الدولية في لاهاي. في نهاية سبعينيات القرن الماضي، ستثار حوله عاصفة من الانتقاد من طرف الأحزاب السياسية، فقد تجرأ وطالب، في مقابلة صحفية، بعدم استبعاد صيغة الحوار مع جبهة البوليساريو، لتكون مقدمة لحوار أكبر من الجزائر. كان يسعى من وراء ذلك إلى امتزاج إمكانية فك الارتباط بين الجبهة والسلطات الجزائرية. وصادف أن كلامه تزامن مع قيام جولات من المفاوضات السرية بين المغرب والجزائر. كان هدف المفاوضات التي شارك فيها اكديرة يرمي إلى تأمين عقد لقاء قمة بين الملك الحسن الثاني والرئيس الجزائري هواري بومدين، غير أن المرض الذي كان قد ألم بالرئيس الجزائري كان أسرع من قدرته على الذهاب إلى جنيف أو بروكسيل أو باريس. وحين تعرض اكديرة إلى حالة غضب، لم يجد غير الوزير السابق المحجوبي أحرضان ليدافع عنه إلى جانب الوزير الأول المعطي بوعبيد، ومن وقتها نشأت علاقة بين بوعبيد واكديرة آلت، ضمن تطورات سياسية، إلى تأسيس حزب الاتحاد الدستوري. لم يكن موقف بوعبيد وحده سببا في ذلك، فقد كان اكديرة يبحث عن قيام حزب سياسي ذي توجه ليبرالي يقيم توازنا مع المعارضة، ولم يكن، في غضون، ذلك مرتاحا لتجربة التجمع الوطني للأحرار التي يقودها أحمد عصمان، غير أن دوره على الصعيد الخارجي سيكون أكثر تأثيرا من عالم السياسة الداخلية، ويرجع له الفضل في أنه كان يشجع على قيام حوار مغربي إسرائيلي في نطاق دعم جهود السلام. لذلك، فقد برزت معالم بصماته في قمتي فاس الأولى والثانية، ثم لاحقا عبر استقبال الملك الحسن الثاني لرئيس الوزراء الإسرائيلي شيمون بيريز في المنتجع الشتوي في إيفران في صيف 1986. لم يكن يخفي ميولاته نحو الغرب، وكان يدفع في اتجاه أن يلعب المغرب دورا استراتيجيا في رهان السلام، تماما كما كان يسعى إلى أن يجد المغرب موطئ قدم في علاقاته مع الاتحاد الأوربي، منذ أن طلبت الرباط، رسميا، الانضمام إلى الاتحاد الأوربي. الذين يختلفون معه والذين كانوا يتعاطفون معه، لا يخفون أن الرجل وضع بصماته على السياسة المغربية، فقد دافع باستماتة عن فكرة التعددية، ولو أنها بدأت خجولة ومشوشة. فقد كان يناهض بقوة فكرة الحزب الوحيد، وحين واجه المغرب اندفاع شبان يساريين راديكاليين، من بينهم إبراهام السرفاتي، حاول أكثر من مرة تصفية ذلك الملف بطريقة أو بأخرى، إلى أن حان موعده في تسعينيات القرن الماضي بقدر أكبر من الخسائر التي خدشت صورة المغرب في الخارج. لكن الرجل يبقى المهندس الحقيقي لكثير من المنعطفات التي ميزت تاريخ المغرب الحديث.