كل يوم، تطرب قناة «الجزيرة» آذاننا بخطابات إعلامية وهاجة ورنانة تضمد جراح الإنسان العربي وتخفف من أزماته التي يتكبد تداعياتها في صمت خطابات من قبيل: «الرأي والرأي الآخر» و«قناة الجزيرة منبر من لا منبر له» و«النقاش الجاد» و«الجرأة» و«الموضوعية». وفعلا، إنها خطابات تبدو في ظاهرها نبيلة وجادة، لكن ذلك لا يمنعنا من ضرورة فك شفرتها واستنطاقها قبل استهلاكها، خصوصا إذا ما استحضرنا مبدأ الحياد المطلوب في تناول أي قضية تهم الرأي العام، باعتبار مبدأ الحياد معيارا أساسيا في قياس السلوك الإعلامي ودرعا واقيا تحتمي وراءه المنابر الإعلامية حتى لا تصيبها سهام النقد. ونحن نثير قضية الحياد الإعلامي في أداء «الجزيرة»، لأن القاعدة السلوكية، التي أضحت توجه هذه القناة في تغطيتها لبعض القضايا العربية، تكشف عن غياب مبدأ الحياد. كما أن قناة «الجزيرة»، التي كانت بالأمس القريب تجربة واعدة ومفخرة للعرب ومضربا للمثل في الجرأة وما جاورها، لم تعد كذلك، بل أصبحت مرتبطة بأجندة تجعل اعتبارات السياسة أولويتها قبل الاعتبارات المرتبطة بتقاليد وأخلاقيات المهنة. أعرف أن الأمر يتعلق هنا بحكم شخصي قد يبدو للبعض منحازا ومتحاملا، لكن ما رأيكم أن نتوقف قليلا عند أحداث العيون التي تحولت فيها القناة إلى رجع صدى لروايات خصوم المغرب من كل حدب وصوب؟ في هذه الأحداث، أي أحداث العيون، ألا ترون معي أن شعار «الرأي والرأي الآخر»، الذي ترفعه قناة «الجزيرة»، قد تبخر وتلاشى في الهواء ولم يعد له أثر، فقط لأن الأمر يتعلق بالمغرب ومصالحه العليا؟ لقد تابع الجميع، بمرارة وسخط، التغطية الإعلامية لقناة «الجزيرة» لهذه الأحداث وكيف أنها كانت منحازة إلى رأي واحد، هو رأي الأطروحة الانفصالية، فيما غاب الرأي الآخر، أي وجهة نظر المغرب في هذه الأحداث التي قتل فيها 11 عنصرا من عناصر القوات العمومية المغربية بسيوف وسكاكين الانفصاليين قبل أن يتبولوا على جثثهم في وضع مقزز لا تقوى الفطرة السليمة على استساغته. ولم تقف قناة «الجزيرة» عند هذا الحد، بل عملت على تلميع أطروحة الانفصال وتهميش مبادرة الحكم الذاتي التي اقترحها المغرب لحل النزاع في الصحراء، دون أن تعرف أسباب ذلك. وكم كان لافتا للانتباه عندما غضت هذه «القناة» الطرف عن الرأي المغربي الرسمي الذي عبرت عنه الحكومة المغربية في عدة خرجات إعلامية وعبر عنه الشعب المغربي بصوت موحد في مسيرة الثلاثة ملايين مواطن الذين خرجوا إلى شوارع الدارالبيضاء منددين بمواقف وممارسات الحزب الشعبي الإسباني. هل كانت هذه القناة ستتعامل مع هذه المسيرة الشعبية بهذه اللامبالاة لو حدثت في دولة غير المغرب؟ أكيد لا. شعار آخر ترفعه قناة «الجزيرة» هو «الجرأة». والحق يقال إن هذه القناة لها من الجرأة ما يجعلها تنبش في تاريخ بعض الشعوب العربية، لكن لماذا يتم التعامل مع هذا الشعار بانتقائية، حتى يبدو للمشاهد أن دولا عربية معروفة بالاستبداد ومصادرة الحريات الفردية والجماعية هي أحسن حالا من المغرب الذي ترسم عنه القناة القطرية صورة البلد المتضايق من حرية الصحافة، فيما حقيقة الأمور هي غير ذلك على الإطلاق بشهادة الأعداء والأصدقاء إلا «الجزيرة». شخصيا، كنت سأحترم قناة «الجزيرة» لو أنها توقفت يوما ما عند حدث تاريخي لازال يلفه الكثير من الغموض، وأكيد أنه يهم المشاهد العربي، وأقصد هنا حدث انقلاب أمير قطر على والده. لا أدري لماذا لا يوجد هذا الحدث في «أرشيف» قناة «الجزيرة» رغم أنه وقع فقط سنة 1995! انقلاب مثل هذا الذي قاده أمير قطر ضد والده جدير بالمتابعة على قناة «الجزيرة» التي تدعي الجرأة، خصوصا وأنه يصنف في باب النوادر والغرائب، لأننا لا نجد له مثيلا إلا في حكايات الأزمنة الغابرة. إنه انقلاب تقشعر له الأبدان بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فالأمر هنا يتعلق ب«جريمة ضد الأصول» قبل أن يكون انقلابا على رجل سياسي. وربما لهذا السبب رفض الراحل الحسن الثاني استقبال أمير قطر في المغرب مباشرة بعد حادث الانقلاب، بل يحكى أنه أرسل إليه رسالة شفوية مفادها أن «المغرب لا يمكن أن يستقبل على أرضه عاقا لوالديه». ولعل هذه «الرسالة» المنسوبة إلى الحسن الثاني هي التي جعلت قناة «الجزيرة» تكن العداء للمغرب منذ ظهورها.