لازالت أسئلة كبيرة تلاحق تلك الأطروحة التي يدافع عنها بعض السياسيين والحقوقيين والمثقفين في الحقل العام المغربي، والتي تطرح أن الحريات أكثر محتوى، ومن ضمنها حرية التعبير في الحقل العام، وخاصة منها حرية الصحافة التي لا بد وأن لها حدودا لا يمكن تجاوزها وخطوطا حمراء «لا بد وأن تراعى عن وعي أو عن غير وعي...»، وكثير من أصحاب القلم، الذين اعتبروا أن الخط الفاصل بين ما يمكن الحديث عنه وما لا يمكن قوله صراحة في الشروط السائدة، تحملوا مسؤولية رسمية بممارساتهم، بكتاباتهم، بنضالهم، ولقد أدوا ثمنا غاليا مقابل ذلك في ملفات ومراحل مختلفة. ويأتي اعتقال رشيد نيني ليجسد تعبيرا واضحا عن هذا الإشكال المركزي الذي يطبع باستمرار ما يسمى عندنا بالانتقال السياسي. إلا أن المسألة ليست ذات طبيعة نظرية محضة، إنها تعبير عما هو جوهري في الوضعية السياسية الراهنة، ويتعلق الأمر مباشرة بإمكانية حصول تقدم سياسي في بلادنا. أود التركيز على ثلاثة جوانب: - الجانب الأول مرتبط بحق كل مواطن في محاكمة عادلة، والعديد من المؤشرات في قضية رشيد تبرهن على أن شروط المحاكمة العادلة غير متوفرة فيها: بلاغ وكيل الملك يمس في العمق قرينة البراءة، اقتران البيان باعتقال الصحفي، الجو المشحون والاستثنائي الذي تمر به القضية. هل يمكن محاكمة صحافي على أساس ليس أساس قانون الصحافة، وإنما أساس القانون الجنائي؟ تدهشني، شخصيا، السهولة التي يمر بها اتخاذ قرار لإخراج مسألة لها علاقة واضحة بملف الحريات، وضمنها حرية الصحافة وقضايا الديمقراطية، وإلحاقها بملفات الحق العام، ثم هل يمكن محاكمة صحافي في حالة اعتقال؟ من الواضح أن معالجة هادئة للمسألة قد تساهم في إعطاء الملف طبيعة عادية وواضحة. - الجانب الثاني يتعلق بالظروف التي تطرح فيها القضية بمختلف أبعادها السياسية والمرتبطة بسياق الأوضاع السائدة في البلاد وفي المنطقة بكاملها. وعلى نفس المستوى، يبدو الموضوع كذلك مرتبطا بطبيعة المرحلة الإصلاحية التي يعرفها مجتمعنا في الظروف الحالية، ففي وضعية مثل هذه التي نعيشها، تفترض شروط الإصلاح نوعا من الطمأنينة والهدوء والمسافة والجو المناسب، يسمح لمكونات المجتمع المغربي بالانخراط في قضايا الإصلاح السياسي والمؤسساتي. أرى في الطريقة التي تمت بها معالجة ملف الصحافي رشيد نيني نوعا من الاستهانة بكل ما من شأنه أن ينجح أو يفشل في المرور إلى مرحلة متقدمة في الانتقال الديمقراطي. كان من الضروري احترام الطبيعة الإصلاحية لهذه اللحظة والانسجام مع سلسلة التوجهات التي تم الإعلان عنها والإجراءات والخطوات الإصلاحية التي اتخذت (إنشاء مؤسسات مفروض فيها أنها تحمي وترتقي بحقوق الإنسان، إطلاق سراح عدد كبير من المعتقلين، وإجراءات أخرى متنوعة ...). لقد اتخذت هذه الإجراءات بوعي عميق بأهمية اللحظة وفي سياق متكامل، فكيف يمكن أن نفهم بروز ملف مثل ملف رشيد نيني في قلب هذه اللحظة الإصلاحية؟ - الجانب الثالث، بوجه آخر للوضعية المغربية، نفترض أننا نعيش في هذه اللحظة التي توجه فيها كل الجهود لبناء مستقبل سياسي، مؤسساتي، حقوقي في مستوى ما يطمح إليه الشعب المغربي، رأيا عاما وطبقة سياسية ونخبا ودولة. وفي هذا الإطار، تأتي هذه الخرجة باسم الحق العام لكي تعود بنا إلى سلوكات ليس لها معنى في بلد يتطلع إلى دخول مرحلة ما بعد الانتقال الديمقراطي، وتعود بنا إلى نوع من تصفية الحسابات، عبثية، مشدودة إلى بعض صفات الماضي المزعجة في سجل تاريخ الحقوق والحريات في بلادنا. ونحن نعرف جيدا ومسبقا أن ملفا مثل هذا لن يصمد كثيرا أمام العودة إلى سيادة العقل ومنطق السياسة الديمقراطية المبتغاة وأمام سمو مبدأ ضرورة احترام الحريات قبل كل شيء. آمالنا كبيرة في أن نمر إلى مرحلة سياسية متقدمة جدا، تتم بمزيد من الحريات والديمقراطية واحترام حرية الإنسان، وليس لنا خيار آخر غير توسيع قدرة مجتمعنا السياسي على تقبل وتحمل المساءلة والملاحظة والنقد والمعارضة، مهما كانت قوتها.