مراكش تشبه اليوم كثيرا «فيترين» أنيقة من تلك الواجهات الزجاجية لأفخم المتاجر. الكل هنا يريد تسويق اسم المدينة الذي أصبح يرن في آذان كبار أصحاب رؤوس الأموال ويسيل لعاب المستثمرين والسماسرة والبنوك، فالسلطات ورؤساء المجالس المنتخبة أصبحت حرفتهم هي فرش البساط الأحمر للأجانب حتى لو كان فيهم من يريد فتح مجرد محلبة، أما المستثمر المحلي والوطني فمصيره «شدان الصف» أمام المركز الجهوي للاستثمار و«سير واجي» بين الفوطوكوبي وتصحيح الإمضاءات وانتظار الرخص كما لو كان سيفتتح مراكز نووية وليس تجارية. في مراكش، هناك تسابق مثير نحو بيع «ساروت» المدينة، أي أصلها التجاري الذي ليس سوى تاريخها وأصالتها وعمرانها وإرثها الثقافي والصوفي... وفي ميدان الصناعة التقليدية، دخل الأجانب وامتصوا كل هذا الإرث وحملوه معهم في أذهانهم وتصاميمهم وأصبح المادة الخام في ما يسمى اليوم ب«الديزاين»؛ حتى رأينا كيف أضحت نقوش خشب الأرز و«قلاليش» الطين الخاصة بطهو الطنجية مع الزليج والجبس وكل المعمار التقليدي المراكشي تزين أفخم قصور العالم المملوكة للمشاهير، من أمثال بيكهام ومادونا، ومؤخرا متاجر «هارودس» في لندن، أحد أشهر وأفخم متاجر الأثرياء في العالم، حيث لبست ثوبا معماريا مغربيا بكثير من لمسات الهوية المراكشية وصناعها. اليوم، تعلن مراكش اختفاء شعرائها وكتابها ومبدعيها الذين كانوا قبل غزو العولمة، التي حولت كًيليز من خزان لعطر «النزبوع» إلى فوهة ل«شاكمات» سيارات الأثرياء، (كانوا) وحدهم من يملؤون المقاهي الجميلة والهادئة التي كانت تصطف من «مارشي سنطرال» الذي هدموه حتى مقهى «التجار»،... هنا حيث كان امحمد بوستة ومولاي الصديق العلوي، أحد مجالسي الراحل الحسن الثاني في مجالس الأدب، يرتشفان كؤوس الشاي تحت أشعة الشمس وأمام مَشاهد مسنين مراكشيين يمرون بتأن وسط الشارع على متن دراجاتهم الهوائية وسيقان أرجلهم العارية بادية من تحت جلابيبهم. هناك اليوم في المدينة الحمراء انقراض مهول ومخيف لمشاهد حياة ألفتها مراكش وألفها أهلها على اعتبار أنهم كانوا صناعها بامتياز، وحلت محلها حرب مفتوحة وشرسة بين الرؤوس الكبيرة التي تلعب بقطاع الثقافة في المدينة الحمراء كما تشاء، وفق حساباتها الخفية... ومن يمسك بمقود الثقافة في مراكش اليوم هو المراكز الثقافية الأجنبية والأجانب الذين حوّلوا منازلهم العتيقة في المدينة القديمة إلى معارض فنية وأدبية مفتوحة على مدار اليوم والأسبوع والشهر، هناك أيضا قاعات عرض حديثة للفنون التشكيلية والفن المعاصر، تتناسل بوتيرة أسرع من المحلبات، وحركة نشر أنيقة جدا لأسماء رنانة أكثر من اللزوم،... وفي هذا العالم الجديد للثقافة تجري رؤوس أموال خفية تغطي مصاريف وتكاليف باهظة من أجل جلب أسماء مرموقة في مجالات الفن والأدب والسينما والموسيقى والسياسة لتحاضر وتغني وتلقي شعرا مستوردا... فقط في مراكش. الأجانب في مراكش شربوا كأس المدينة وكسروه، فقط لكي لا يشرب منه أحد غيرهم بعد اليوم، تماما كما كسر الموسيقار الراحل السي أحمد البيضاوي آلة العود أمام أنظار الحسن الثاني بعد أن أطربه وأشبعه عزفا... مراكش اليوم كحافظة نقود المغاربة ملأها آباؤهم على مر العصور بكل جواهر تاريخهم، لكنها الآن في جيوب الأجانب وأرصدتهم،... والمراكشيون في كل هذا تبعوا «الفيترينات» في المراكز التجارية، يصطفون لساعات من أجل شراء «الحوايج»،... فيما الأجانب يصطفون أمام المسارح وقاعات العرض يملؤون الروح والآذان شعرا ونثرا وموسيقى... يتغذون على الفنون الجميلة، و«دياولنا» يشدون الصف على شراء «قاميجة».